الامام الغزالى وكتابه احياء علوم الدين..

..بسم الله الرحمن الرحيم…

الإمام الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين

 

نص المحاضرة التى القاها الدكتور محمد فاروق النبهان فى الاكاديمية الملكية المغربية فى الرباط فى حلسة الخميس يوم 6مارس 2014 ..

يعتبر كتاب إحياء علوم الدين من أبرز الكتب الإسلامية وأكثرها شهرة في المكتبة الإسلامية، نظراً لأهمية مؤلفه، ولما تضمنه من فكر إسلامي أصيل، وعمق في التحليل، ورقـيّ في الفهم والأسلوب.

ظهر كتاب “الإحياء” في مرحلة تاريخية قلقة، وفي ظل صراع فكري بين مختلف المذاهب والطوائف والمدارس الفكرية، وكان الغزالي يبحث عن الحقيقة، ويبحث عن اليقين الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا ريب فيه، وأي علم لا يحقق هذا اليقين فلا ثقة به ولا أمان معه..

وصف الغزالي نفسه وهو العالم الحجة بانه كان على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال إلى أن قذف الله تعالى في صدره نورا أضاء قلبه وأشعره باليقين والسكون.

الإمام الغزالي :

ولد أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي الطوسي بمدينة طوس عام 450، وتوفي عام 505، كان والده يعمل في غزل الصوف، ولما حضرته الوفاة أوصى أحد الصالحين بولديه محمد وأحمد، وعكف الغزالي على طلب العلم , وأخذ علمه عن شيخه “إمام الحرمين” ودرس عليه المنطق والحكمة والفلسفة، واشتهر بالذكاء والمناظرة. وأعجب به الوزير نظام الملك، واختاره لكي يكون أستاذا في المدرسة النظامية في بغداد، وزادت شهرته وعظُمت مكانته… وتطلعت الأنظار إليه إعجابا به..

وصف الغزالي نفسه في كتابه “المنقذ من الضلال” قال :

«لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السنُّ على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور.. وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، أقتحم كل ورطة، وأتفحّص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميّـز بين محق ومبطل، ومتسنّن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، …ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته»(المنقذ، ص5).

ووصف نفسه بأن التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختباري وحيلتي..

وبعد رحلة شاقة وطويلة شرح الله صدره لطريق أهل الصفوة والصوفية، وعبّر عن ذلك بقوله.

لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم وإيمانهم بعلم وعمل،.. وعلل اختياره لطريق الصوفية بأن منهجهم يقوم على أساس قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله (المنقذ43)

وعكف على تأليف كتابه “الإحياء”، لإحياء علوم الدين أولا والكشف عن مناهج الأئمة المتقدمين ثانياً، وإيضاح مباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالح ثالثا..

ويتميّز هذا الكتاب بخمسةأمور كما وصفها بنفسه  :

–      الأول : حل ما عقدوه، وكشف ما أحملوه

–      الثاني : ترتيب ما بددوه، ونظم ما فرّقوه

–      الثالث : إيجاز ما طولوه، وضبط ما قرّروه

–      الرابع : حذف ما كرروه، وإثبات ما حرروه

–      الخامس : تحقيق أمور غامضة لم يعرض لها العلماء من قبل.

وهذا  النص يلقي أضواء كاشفة على شخصية الغزالي في مرحلة مبكرة من حياته العلمية، فقد كان يبحث عن ذلك اليقين الذي يوحي له بالفهم النقي والسكون القلبي، ويبدو من كلامه أنه كان يرفض كل المسلّمات التي كانت منتشرة في عصره، وأخذ يبحث بنفسه عن الحقيقة، والحقيقة مطلب صعب المنال أمام عدد من المذاهب والآراء الكلامية، والفلسفية والفقهية، وكل فريق يستدل بأدلته للتوصل إلى ما يدعم رأيه ومذهبه.

ويعترف الغزالي، “ان البحث عن الحقيقة أمر شاق، وهو بحر عميق، غرق فيه الكثيرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكان يريد الوصول إلى العلم اليقيني الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا ريب فيه”.

كان الغزالي  يرفض منهج التقليد في الاعتقاد، لأن الفطرة الأصلية ترفض الأخذ بآراء الآخرين، والتسليم بما يرون..

وقال في ذلك :

“كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه  هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني ..(المنقذص.7).

وابتدأ رحلته في البحث عن الحسيات ، إلا أنه سرعان ما اكتشف أن الحسيات لا توصله إلى اليقين،فأخذ يتساءل :

من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة تعرف أنه متحرك..

هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذّبه حاكم العقل تكذيباً لا سبيل لمرافقته.. فأين الثقة بالمحسوسات.

انتقل الغزالي إلى عالم العقليات وهي لا تخطئ، فالعشرة أكثر من الخمسة، والإثبات والنفي لا يجتمعان في الشيء الواحد، ومن جديد انطلقت ثورة الشك في نفسه، وبدأت مشاعر الارتياب، لكي تتساقط من جديد أوراق الثقة بكل المسلمات كما تتساقط أوراق الخريف مخلفة وراءها أغصانا جرداء , إلا أن الحقيقة سرعان ما تنبثق عن “لحظة العدم” وهي لحظة قد تكون منجبة وولودة.

وأخذ التساؤل من جديد :

بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقاً بها، فجاء حاكم العقل فكذبها.. فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذّب العقل في حكمه..(المنقذ،9)

وأثقل الشك كاهل الغزالي، ووجد نفسه طريح مرض عضال من الحيرة والشك، وأصبح كما يصف نفسه على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، وفجأة تفجرت ينابيع الأمل في نفسه، وتشققت الأرض عن بذور ولودة أنجبت، ومدّت الأجنة رؤوسها منطلقة للحياة متوثبة، وكأن الخريف ما كان، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في صدره، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف.

وقال في وصف ذلك :

ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة..، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي، في بعض الأحايين، ويجب الترصد له (المنقذ،11).

كان اليقين الذي وصل إليه الغزالي هو يقين روحي لأن جدران المدركات العقلية قد تهدمت، وكان لابد من يقين، يرمم ذلك الكيان ويعيد إلى النفس توازنها..

ومصدر هذا النور أمران :

–  الأول : الجود الإلهي والكمال الفطري، وهو يعبر عن الرعاية الإلهية التي لا تفسير لها، ولا ترتبط بالأسباب، وهي تهجم على القلب الصافي الطاهر عن طريق الإلهام لا الاستدلال العقلي، والقلب مستعد لكي تتجلى  فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، إلا أنها قد تحجب هذه الحقيقة لأسباب تتعلق بالحجب والمعاصي وانصراف الهمم، وتنعكس الحقيقة في القلب كانعكاس صورة الأشياء في المياه الصافية..

–  الثاني : المجاهدات والرياضات النفسية التي تهدف إلى طهارة القلوب، عن طريق حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المحمود في السلوكيات..

أقبل الغزالي بكل همته على طريق التصوف وهو طريق يعتمد على علم وعمل معاً، ويقتضي قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله.

وأول خطوة بدأها في هذا الطريق هو محاسبة نفسه، ووجد نفسه مكبلا بالعلائق التي أحدقت به، وأهمها التدريس، وقال في وصف ذلك:

ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت فتيقنت أنني على شفا جرف هار.” (المنقذ،46 ).

فجأة، وعلى غير توقع، صوت من أعماق الغزالي يناديه ويلح في النداء، ويرتفع الصوت ويعلو صداه، كان هامساً في البداية، ثم تعالى هادرا في كيانه مجلجلا: الرحيل..الرحيل..

–   فلم يبق من العمر إلا قليل وبين يديك السفر الطويل، جميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق، فمتى تقطع؟…

نداءات من داخله ملحة تناديه، وشهوات الدنيا والجاه العريض في بغداد تجاذبه بسلاسلها إلى المقام في بغداد حيث المكانة والحظوة…

ما أقسى ما كان الغزالي يعانيه من تردد.. رغبة في الحياة والجاه والعبث , ونداء الرحيل يتعالى ويلح في النداء…

حيرة وتردد وصراع داخلي.. هل يستطيع الغزالي أن يغالب ما هو فيه؟

وفجأة… وعلى غير توقع.. يتوقف اللحن الحزين ويتقرر المصير..

توقف لسانه عن التعبير.. وأصبح يغالبه فلا يستطيع، والتجأ إلى الله تعالى طالبا منه أن يفرج كربته وأن يشرح صدره..

وقال في وصف نفسه:

إذ أقفل الله على لساني حتى أعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لاينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزنا في القلب” (المنقذ،48).

أقفلت جميع الأبواب، وبقيت نافذة صغيرة قاسية ضيقة مكلفة ثقيلة.. هي الوحيدة التي كانت تريحه وانشرح صدره لها..

الرحيل..الرحيل..

ألقى الغزالي أحماله عن  كاهله.. وقرر السير إلى القدس والشام، وأحرق جميع سفنه، وامتطى فرسه في رحلته الروحية الى الجامع الأموي في دمشق، وهناك كتب أهم كتبه “الإحياء”.

 

التغريف بكتاب إحياء علوم الدين :

ذكر (الإمام الغزالي) في مقدمة كتابه (الإحياء) أن السبب الذي دفعه لتأليف هذا الكتاب، هو إحياء علوم الدين أولاً، والكشف عن مناهج الأئمة المتقدمين ثانياً، وإيضاح مباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالح ثالثاً[1].

ويتميز هذا الكتاب – كما قال الغزالي – بخمسة أمور[2] :

الأول : حلّ ما عقدوه وكشف ما أجملوه.

الثاني : ترتيب ما بددوه ونظم ما فرقوه.

الثالث : إيجاز ما طولوه وضبط ما قرروه.

الرابع : حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه.

الخامس : تحقيق أمور غامضة لم تتعرض لها الكتب أصلاً لصعوبتها على الفهم.

وقد أسس الغزالي كتابه (الإحياء) على أربعة أرباع، وابتدأ ذلك بكتاب العلم، للكشف عن العلم الذي تعبد الله عباده، وبيان النافع والضار  منه. وأرباع الكتاب هي[3].

أولا – ربع العبادات : اشتمل على عشرة كتب : تحدث فيها عن العلم وقواعد العقائد وأسرار الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج، وآداب التلاوة، والأذكار والأوراد مما يجب الاهتمام بها، وأكثرها مما أهمل في فن الفقهيات.

ثانيا – ربع العادات : واشتمل معظمها على آداب الأكل، والنكاح، والسفر، والصحبة، والمعيشة، والحلال والحرام، والسماع والوجد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغاية من هذا بيان دقائق الورع في المعاملات بين الناس مما لا يستغني عنه أي متدين.

ثالثا – ربع المهلكات : وذكر فيه كل خلق مذموم ورد القرآن بإماطته وتزكية النفس عنه وتطهير القلب منه، وبيّن حقيقة كل خلق، والآفات التي تترتب عليه، والعلامات التي بها تعرف، وطرق المعالجة للتخلص منها.

رابعا – ربع المنجيات : وذكر فيه كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها من خصال المقربين، وبين حقيقة كل خصلة، وسببها الذي تجلت بهن وثمرتها التي منها تستفاد، وعلامتها التي بها تعرف، وفضيلتها التي يرغب فيها لأجلها.

وأكد “الغزالي” أن ما حمله على تأسيس هذا الكتاب على أربعة أرباع أمران[4]:

أحدهما : وهو الباعث الأصلي : أن هذا الترتيب في التحقيق والتفهيم كالضرورة، لأن العلم الذي يتوجه به إلى الآخرة ينقسم إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة، وشرح “الغزالي” معنى “علم المكاشفة” بأنه : العلم الذي يطلب منه كشف المعلوم فقط أما “علم المعاملة” فيطلب منه مع الكشف العمل به، وأن هذا الكتاب يقصد به علم المعاملة فقط، دون علم المكاشفة التي لا رخصة في إيداعها الكتب، وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين ومطمع نظر الصديقين.

ثانيهما : تصوير الكتاب بصورة الفقه تلطفاً في استدراج القلوب، لأن طلبة العلم يرغبون في معرفة الفقه الذي تظهر منزلته في مواطن الجاه والمباهاة به.

ويؤخذ من كلام “الغزالي” أنه أراد أن يوجه اهتمام طلاب العلم إلى دراسة هذا الجانب من العلم الذي يهتم بأحوال القلب وعجائبه، وما يرد على هذا القلب من واردات محمودة ومذمومة، وهي محجوبة عن الحواس؛ لأنها تتعلق بالباطن الذي لا تدركه العقول وتقصر عنه أفهام الخلق[5].

التفريق بين علم المكاشفة وعلم المعاملة :

وجه “الغزالي” الاهتمام في مقدمة كتابه “الإحياء” إلى أنه أراد الحديث عن علم المعاملة وليس عن علم المكاشفة، وعلم المعاملة هو الطريق إلى علم المكاشفة، ولم يتكلم الأنبياء عن علم المكاشفة إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال لعلمهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال، وليس للعلماء – وهم ورثة الأنبياء – إلا طريق التأسي والاقتداء[6].

وقسم الغزالي علم المعاملة إلى قسمين :

الأول : علم الظاهر : وهو العلم بأفعال الجوارح، وهذا العلم ينقسم إلى قسمين: عبادات وعادات.

الثاني : علم الباطن : وهو العلم بأعمال القلوب وما يرد على القلوب المحجوبة بالحواس من عالم الملكوت، وينقسم هذا العلم الى محمود ومذموم[7].

وما أورده في مقدمة “الإحياء” مختصرا وسعه في بحثه عن العلم، وفرق بين العلم الذي يتعلق بالدنيا كعلم الطب الذي تتعلق به صحة الجسد والعلم والذي يتعلق بالآخرة كعلم الفقه، واعتبر علم الفقه أشرف من علم الطب من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أنه علم شرعي مستفاد من النبوة، بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع.

الوجه الثاني : أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة لا الصحيح ولا المريض، بخلاف الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى.

الوجه الثالث : أن الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة ؛ لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح صفات القلوب.

ووصف علم المكاشفة بأنه علم الصديقين والمقربين، وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، وتحصل بها المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة والمعرفة بمعنى النبوة والوحي، والمعرفة بملكون السماوات والأرض، ونقل عن بعض المعارفين  قوله : “من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله“. ومن رزقه الله بعلم المكاشفة فإن الغطاء ينكشف عنه حتى تتضح له جلية الحق في كل الأمور الإيمانية، وهذا العلم ممكن في جوهر الإنسان إذا صفت القلوب وطهرت مما تراكم عليها من أنواع الصدأ والقاذورات، ووسيلة التطهير هي الكشف عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء، فاذا انجلى القلب وطهر تلألأت فيه الحقائق وانطبعت في مرآته الأسرار.

واما “علم المعاملة” فهو علم أحوال القلب، ما يحمد وما يذم، فما يحمد منها كالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة، وحسن الخلق والمعاشرة والصدق والإخلاص، وما يذم منها فخوف الفقر والحقد والحسد والغش والكبر والرياء والغضب والطمع والبخل وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء وضعف الانتصار للحق وقلة الحياء وقلة الرحمة.

العلم المحمود والعلم المذموم :

قسم “الغزالي” العلوم إلى قسمين[8] :

–    القسم الأول : علوم شرعية : وهي المستفادة من الأنبياء، ولا يرشد العقل ولا السماع إليها، وهذه العلوم محمودة، وهي أربعة أنواع :

الأول – الأصول : وهي أربعة : كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الأمة، وآثار الصحابة.

الثاني – الفروع : وهو ما فهم من هذه الأصول عن طريق المعاني التي تدركها العقول، وهي قسمان : ما يتعلق بمصالح الدنيا مما تكفل ببيانه الفقهاء في كتب الفقه، وهم علماء الدنيا، وما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب، والصفات المحمودة والمذمومة مما يتعلق بالقلوب.

الثالث – المقدمات : وهي التي تجري مجرى الآلات كاللغة والنحو، ولا يمكن معرفة حكم الشرع إلا بمعرفة اللغة وقواعد النحو.

الرابع – المتممات : وهو ما يتعلق بعلم القرآن وفهمه، مما يتعلق باللفظ والأداء كعلم القراءات ومخارج الحروف، وما يتعلق بمعاني القرآن كعلم التفسير، والمتممات في معرفة الآثار والأخبار هي العلم بالرجال وأسمائهم وقواعد العدالة ومعايير قبول الرواية.

–    القسم الثاني : علوم غير شرعية : وهي العلوم المستفادة من العقل، وهي نوعان:

النوع الأول – علوم محمودة : وهي العلوم التي ارتبطت بها مصالح الخلق كالطب والحساب، فإن ارتبطت بها مصالح الخلق فهي فرض كفاية، لأنه لا يمكن الاستغناء عنها في قوام أمور الدنيا، فالطب ضروري لحاجة الإنسان إلى بقاء الأبدان، والحساب ضروري في المعاملات والمواريث والوصايا، وكذلك الفلاحة والحياكة والخياطة.

النوع الثاني – علوم مذمومة : وهي العلوم المرتبطة بالسحر والطلسمات والشعوذة، ولا يمكن أن يذم العلم لذاته، وإنما يذم في حق العباد لأسباب ثلاثة[9] :

الأول : أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره، كعلم السحر والطلسمات.

الثاني : أن يكون مضرا بصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم وهو غير مذموم لذاته، لأنه يتعلق بالحساب، وإنما تم الزجر عنه ؛ لأنه مضر بأكثر الخلق، لأ نالناس يعتقدون بتأثير النجوم على الخلق فيلتفت القلب إليها، ويرى الخير والشر مرجوا من جهتها ؛ لأن أحكام النجوم تعتمد على التخمين المحض والحكم فيها حكم بجهل، وأيضا لا فائدة من الاهتمام بهذه العلوم، وهي نوع من الفضول الذي يضيع الوقت.

الثالث : انعدام الفائدة منه، فالعلم الذي لا يفيد هو علم مذموم، كالخوض في دقائق الأسرار الإلهية، وهذا من الأمور المذمومة، ويجب صرف الناس عن البحث فيها.

وذم “الغزالي” إقبال العلماء على علم الخلاف والجدل، وسبب ذلك أن الخلفاء الأولين كانوا علماء في الدين ولا يحتاجون فتاوى الفقهاء، فلما أفضت الخلافة إلى أقوام تولوها بغير استحقاق اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء لتوليتهم القضاء والحكم، فأقبل الناس على طلب العلم توصلا إلى نيل العز والجاه، وعرضوا أنفسهم على الحكام، وبعد أن كان العلماء أعزة بالإعراض عن السلاطين أصبحوا أذلة بالإقبال عليهم، وأكبوا على علم المناظرة، وغرقوا في المجادلات لترتفع مكانتهم في نظر الخلق، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله.

واشترط “الغزالي” شروطاً لصحة المناظرة[10]، وأهمها : أن يكون المناظر مجتهدا وقادرا على أن يرجع إلى الحق إذا ظهر له الحق، وأن يكون هدفه طلب الحق سواء على يده أو على يد مناظره، وأن يكون موضوع المناظرة من المسائل الواقعة أو قريبة الوقوع من المسائل التي تعم البلوى بها، وأن يلتزم بمنهجية السلف في الالتزام بأدب المناظرة والعودة إلى الحق والابتعاد عن دقائق الجدل المبتدعة، وأن يناظر العالم من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم، فإذا التزم المناظر بهذه الشروط والضوابط دل ذلك على أنه يبحث عن الحق ويناظر دفاعا عن دين الله، وإن قصد بالمناظرة الغلبة وإظهار الفضل والشرف والتشرف عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس فهذا من الأخلاق المذمومة عند الله، ومن الفواحش الباطنة المعبرة عن الكبر والعجب والحسد والمنافسة.

وشبه “الإمام الغزالي” اقتناء العلم باقتناء المال، وبيّن أن لصاحب المال ّحال استفادة” فيكون مكتسبا و”حال ادخار” لما اكتسبه فيكون به غنياً عن السؤال، و”حال إنفاق” على نفسه فيكون منتفعا، و”حال بذل” لغيره فيكون به سخيا متفضلاً، وكذلك العلم يقتنى كما يفتنى المال، فله حال اكتساب، وحال تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به، وحال تبصير وهو أشرف الأحوال. فمن علَّم وعمل وعلم فهو كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها.

ومن وظائف المعلم ما يلي[11] :

  1. 1.            الشقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه.
  2. 2.            ألا يطلب على إفادة العلم ولا يقصد به جزاء، وأن يعلم لوحه الله وطلباً للتقرب إليه.
  3. 3.            أن يعلمه أن الغاية من طلب العلم القرب من الله تعالى، وليس الرئاسة ولا المباهاة، وألا يدعه يتصدى لرتبة قبل أن يستحقها.
  4. 4.            أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق عن طريق التعريض ما أمكن وبطريق الرحمة وليس التوبيخ، وإن التصريح يهتك حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم ويهيج الحرص على الإصرار.
  5. 5.            ألا يقبح المعلم أمام المتعلم العلوم الأخرى.
  6. 6.            أن يقتصر المعلم على تعليمه على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله ولا يحيط به فهمه.
  7. 7.                 أن يقتصر المعلم على تعليم الجلي اللائق، وألا يدخله متاهات التأويلات، فربما دخلت عليه هذه التأويلات فقادته إلى الانحراف.
  8. 8.            أن يكون المعلم عاملا بعلمه، لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار.

ويركز “الغزالي” في بحثه عن العلم والعلماء على خطورة علماء السوء وهم الذين يطلبون الدنيا بعلمهم وينسون الآخرة، فالعالم الحق هو الذي يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، والدنيا والآخرة متضادتان، كالضرتين إن أرضيت الأولى أسخطت الأخرى، وإن رجحت الأولى خفت كفة الأخرى، وهما كالشرق والغرب، فإذا اقتربت من المشرق ابتعدت عن المغرب وهكذا، والعالم الذي يخزن علمه ولا يريده أن يكون عند غيره فذلك في الدرك الأسفل من النار، ويجب على العالم ألا يخالف فعله قوله، وأن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة، وأن يبتعد عن الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن ويؤثر الاقتصاد في جميع ذلك، وحض “الغزالي” العلماء على الابتعاد عن السلاطين وألا يدخل عليهم البتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلاً، وأن يحترز من مخالطتهم وإن جاؤوا إليه، فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بيد السلاطين، والمخالط للسلاطين يحرص على مرضاتهم واستحالة قلوبهم مع أنهم ظلمة , وأوجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدرهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم، ويصف ذلك بقوله : “فالداخل عليهم إما أن يلتفت على تجميلهم فيزدري نعمة الله عليه، أو يسكت على الإنكار عليهم فيكون مداهنا لهم، أو يتكلف في كلامه كلاما لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح، أو أن يطمع في أن ينال من دنياهم وذلك هو السحت”[12].

ويدعو “الغزالي” العلماء إلى الاهتمام بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة، فإن المجاهدة تقود إلى المشاهدة، ودقائق علوم القلب تنفجر بها ينابيع الحكمة من القلب، والطريق إلى الحكمة هي المجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة، وهذا هو طريق اليقين الذي يستولي على القلب، وطريق اليقين هو البرهان وهو أساس المعرفة الحقيقية التي لا يتطرق الشك اليها، بحيث يستولي الإيمان على القلب وعلى العقل,  ومن نتائج اليقين الايمان بأن الأشياء من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط، فإن انتفى عن القلب إمكان الشك فهو موقن.

ومن ثمرات اليقين أن يكون الإنسان في خلوته متأدبا في جميع أحواله، مبتعدا عن كل ما ينافي الأدب في حياته وسلوكه ومجالسه ؛ لأنه يعتقد أن الله تعالى مطلع على كل حركاته وسكناته وسريرته، ويورث هذا اليقين في نفسه الحياء والخوف من الله والانكسار والخضوع لله تعالى والخشية منه، وهؤلاء هم علماء الآخرة الذين يعرفون بسيماهم في السكينة والتواضع[13].

مفهوم العقل عند الغزالي :

العقل عند الغزالي هو اسم يطلق على أربعة معان[14] :

المعنى الأول :الوصف الذي يفارق به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وعرف الحارث المحاسبي العقل بقوله : “هو غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية، وهو نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء، والعقل كالحياة، وكما أن الحياة غريزة يتهيأ بها الجسم للحركات الاختيارية، والإدراكات الحسية، فإن العقل غريزة يتهيأ بها الإنسان للعلوم النظرية”[15].

المعنى الثاني : العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد، وهو المعنى الذي عناه بعض المتكلمين في تعريفهم حد العقل بأنه : بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات.

المعنى الثالث : العلوم المستفادة من التجارب بمجاري الأحوال، يقال لمن حنكته التجارب، إنه عاقل، ومن لا يتصف بهذه الصفة يقال له : غبي غمر جاهل.

المعنى الرابع : معرفة عواقب الأمور وقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة وقهرها، وهذه القوة التي تعرف بها هذه الأمور يقال لها : العقل، ويوصف صاحبها به، وهذه من خواص الإنسان، وهي أن يتحكم في إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب، وألا يسمح للشهوات أن تسيطر عليه[16].

ويعتبر المعنى الأخير هو الغاية والثمرة، وأداة هذه الغاية هي الخبرة والاكتساب والارادة فالقوة العقلية ذاتية وتصقلها التجارب  الى ان تصبح فى قبضة الانسان  فاذا تحكمت الغرائز فى الانسان اسقطته واضعفت مناعته ولذلك لا بد من تقوية العقل لكي يتمكن من مواجهة الغرائز المسيكرة على قراراته الغريزية الشهوانية والغضبية ..

ويتفاوت الناس فى مدى سيطرتعم على غرائزهم ويعود ذلك لادراك حجم الضر الذى يلحق الانسان بسبب استسلامه لسيطرة تلك الغرائز على قراراته ..

واكد الغزالي ان الطهارة ليست قاصرة على الطهارة المرتبطة بالنجاسات الظاهرة التي توسع الفقهاء في بيان أوجه إزالتها، وجعل للطهارة أربع مراتب :

المرتبة الأولى : تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات.

المرتبة الثانية : تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام.

المرتبة الثالثة : تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.

المرتبة الرابعة : تطهير السر عما سوى الله تعالى، وهي طهارة الأنبياء والصديقين، وغاية هذه الطهارة الأخيرة أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته، ولن تحل بالقلب معرفة الله بالسر ما لم يرتحل ما سوى الله عنه[17].

وأكد “الغزالي” أن الغاية القصوى من عمل القلب عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة، ولن يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من العقائد الفاسدة، ولا يمكن أن يصل السالك إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود، ولا يتحقق ذلك إلا بعد طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات[18].

آداب العبادات والعادات :

وخصص “الغزالي” الجزء الأول والثاني من كتابه “الإحياء” للكلام عن الآداب المتعلقة بالعلم الظاهر المرتبط بالحواس، كالعبادات والعادات، ويدخل ضمن العبادات : آداب الطهارة وآداب الصلاة والزكاة  والصوم والحج وتلاوة القرآن والأذكار والدعوات، كما يدخل ضمن العادات آداب الطعام والنكاح والكسب والمعاش والأخوة والصحبة والجوار والسفر، وآداب السماع ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآداب المحتسب ودوره في مقاومة المنكرات في العادات كمنكرات المساجد والأسواق والشوارع والحمامات، وأنواع المنكرات العامة.

وعلل”الغزالي” ارتباط الظاهر بالباطن، وارتباط حركات الجوارح بالخواطر بقوله :

“فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة الأخلاق، والآداب رشح المعارف، وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها، وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساوئها، ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه”[19].

ونلاحظ أن “الغزالي” في كل ما سجله في الجزء الأول والثاني من كتابه مما سماه ربع العبادات وربع العادات يدخل ضمن ما أطلق عليه : علم الظاهر، وهو العلم الذي يدخل ضمن اختصاص الفقهاء، واستعمل “الغزالي” لفظة “الآداب” لأنه كان يريد الحديث عن الآداب وليس الاحكام، انسجاما مع عنوان كتابه “إحياء علوم الدين”  ليؤكد أن علوم الدين تحتاج إلى إحياء ذلك عن طريق ربط الأحكام بآدابها : لأن الظاهر – كما قال – هو عنوان الباطن، وحركات الجوارح مرتبطة بالخواطر، وهي ثمرة لها، ولا يمكن أن تنفصل الآداب عن الأحكام، ولو تجردت الأحكام عن آدابها لفقدت مكانتها وتميزها، وأكد في نهاية حديثه عن الآداب في العادات وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبر هذا القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو أهمل هذا الواجب وطوي بساطه لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت القترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد.

وفي مجال حديثه عن درجات الأمر بالمعروف ذكر أن أولها التعريف، وثانيها الوعظ، وثالثها التخشين في القول، ورابعها المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة، وأكد أن الجائز في التعامل مع السلاطين هو التعريف والوعظ، وليس لأحاد الرعية أن يستخدم المنع بالقهر مع السلاطين ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفتنة ويهيج الشر ويتولد منه محذور أكبر[20].

وختم “الغزالي” كلامه عن واجب العلماء في تقديم النصح للسلاطين بقوله :

“فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والاكابر”[21].

وختم هذا الجزء بالحديث عن أخلاق النبوة، وتأديب الله تعالى لحبيبه وصفيه محمد (ص) بالقرآن، ولتأكيد أهمية التزام الأدب في العبادات والعادات، وأنه من أركان الدين وأسسه، وأنه لا يمكن تجاهل أهمية هذا الالتزام في سلوكية المسلم، في أداء عبادته وفي عاداته، وهذا هو لب الدين وحقيقة الإسلام، وأن العناية بأمر الباطن هو المنطلق الأساس لتكوين سلوكية إسلامية صحيحة، ولا يتحقق ذلك إلا بطهارة القلب ونقائه وصفائه، وهذا هو الهدف الذي كان “الإمام الغزالي” يحرص على الوصول إليه والتأكيد على أهميته، ولذلك خصص له الربع الثالث والرابع من كتابه، وبدأ الجزء الثالث من هذا الكتاب بالحديث عن القلب وسماه : “كتاب شرح عجائب القلب” وهو من أروع ما كتب الإمام الغزالي، وفيه تبدو عظمة الرؤية الغزالية في مجال التربية والتهذيب الأخلاقي والسمو الروحي، وهو في كل ما كتب ملتزم كل الالتزام بثوابت العقيدة، معتز بمنهج السلف الصالح في الفهم والتأصيل، بعيد كل البعد عن مزالق الصوفية، رافض لكل أنواع الشطح في الأقوال والسلوك، مؤكد على التزامه الكامل بالقرآن والسنة.

مفهوم القلب عند الغزالي :

بدأ الإمام الغزالي الجزء الثالث من كتابه «الإحياء» الذي سماه : «ربع المهلكات» بالحديث عن شرح عجائب القلب بعبارة تقديمية قال فيها :

«أما بعد : فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره، وفي الآخرة عدته، وذخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه، فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة، فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقا بغير الله، وهو المطالب، وهو المخاطب، وهو المعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه، وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى، وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره، وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساوئه، إذ كل إناء ينضح بما فيه»[22].

واعتبر «الغزالي» أن معرفة القلب وحقيقة أوصافه هي حقيقة الدين وأساس طريق السالكين[23].

والإمام «الغزالي» في تقسيمه العلم إلى ظاهر وباطن، اعتبر أن ما يجري على الجوارح يدخل ضمن علم الظاهر، وما يجري على القلب من الصفات المهلكات والمنجيات يدخل ضمن علم الباطن، ولذلك اختار أن يبدأ الشطر الثاني من الإحياء بشرح عجائب القلب، ورياضة القلوب، ليصل بعد ذلك إلى شرح معنى المهلكات والمنجيات.

معنى القلب عند الغزالي :

حظي موضوع القلب باهتمام «الإمام الغزالي» واعتبره الركن الأهم في تكوين الشخصية الإنسانية؛ لأنه المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمطالب، وأما علاقة هذا القلب بالقلب الجسماني فهي علاقة تضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلق المتمكن بالمكان[24].

وقال عن لفظة القلب بأنها تطلق على معنيين :

أحدهما : اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وليس هذا هو المراد بالقلب؛ لأن هذا القلب موجود فى البهائم، ويوجد عند الأموات.

أما المعنى الثاني : فهو لطيفة ربانية روحانية، ولها تعلق بالمعنى الجسماني، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، والقلب بهذا المفهوم يتعلق بعلوم المكاشفة , ويستدعي إفشاء سر الروح[25]، وهذا ممالم يتكلم عنه رسول الله (ص)، ولا يجوز الخوض فيه، والروح كالسراج، ونور السراج يسري في زوايا البيت ويستنير به كل مكان يصل إليه، وسريان الروح في باطن الإنسان كسريان النور من السراج إلى أجزاء البيت[26].

ويختلف معنى القلب عن النفس، فالنفس يراد بها القوة الجامحة لقوة الغضب والشهوة في الإنسان، وهي الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، ولذلك تحتاج النفس إلى مجاهدة لكسر قوتها الغريزية، وأحيانا تطلق لفظة النفس على ذات الإنسان[27].

أما «العقل» فقد يراد به القلب في بعض الأحيان عندما يطلق على المعنى المدرك للعلوم، فالعلم محله القلب، والعقل هو المدرك للعلوم التي محلها القلب، والقرآن استعمل لفظة القلب للدلالة على المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء[28].

جنود القلب :

للقلب جند يأتمر بأمره ويتحرك بحركته، وهو جند مرئي بالأبصار ومدرك بالعقول، وهذا الجند المشاهد هو الحواس الظاهرة كاليد والرجل والعين والاذن واللسان، ومهمة هذا الجند أن ينفذ إرادة القلب، في الحركة والتعبير والإقدام والإحجام، وهناك الغرائز الفطرية المحركة للإرادات والقدرات، فإذا انقادت الحواس لإرادة القلب كانت حركة الإنسان منضبطة مستقيمة، وإذا تمردت الحواس تحت تأثير الغرائز الشهوانية والغضبية على القلب انحرفت وضلت طريقها. ولا تختلف حواس الإنسان عن حواس الحيوان إلا بأمرين : العلم والإرادة، ويدرك الإنسان بعلمه الأمور الضرورية، ويدرك بقدرته على التحكم في إرادته طريق الصلاح الذي يقوده إلى ما فيه مصلحته.

وينقسم جنود القلب إلى ثلاثة أصناف :

الأول : صنف باعث ومستحث إما إلى جلب النافع كالشهوة، وإما إلى دفع الضار كالغضب، ويعبر عن هذا الباعث بالإرادة.

الثاني : صنف محرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويعبر عنه بالقدرة، وتشمل العضلات المبثوثة في سائر الأعضاء.

الثالث : صنف مدرك ومتعرف للأشياء كالجواسيس، ويعبر عنه بالعلم والإدراك كقوة السمع والبصر والشم والذوق واللمس.

وقال الغزالي عن الغضب والشهوة :

«اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقياداً تاماً، فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقتهما في السفر الذي هو بصدده، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد»[29].

وهناك جند آخر وهو العلم والحكمة والتفكر , ويجب على الإنسان أن يستعين بهذا الجند من حزب الله على جند الشيطان الذين هما الشهوة والغضب، فإن لم يستعن بجند الفكر والحكمة انقادا للشهوة والغضب، وأصبحت العقول مسخرة للشهوات منفذة لأوامر الغرائز في استنباط الحيل المحققة للشهوات والانفعالات الغريزية.

وشبه «الغزالي» البدن بالمدينة والعقل هو الملك المدبر لأمورها والمسير لشؤونها، والحواس الظاهرة والباطنة هي الجند المنفذ لأوامر الملك والغرائز كالشهوة والغضب هي العدو الذي ينازع الملك سلطته في رعيته، وعلى الملك وهو المدبر لشؤون مملكته أن يجعل جنده من الحواس في قبضته، وألا يسمح للنفس الأمارة بالسوء أن تحكم قبضتها على الحواس، لئلا تتصرف الحواس تحت تأثير الشهوة والغضب بما ينافي الحكمة والتبصر، فإن تمردت الحواس على إرادة العقل ضلت طريقها وأخطأت مسيرتها، وارتكب الإنسان بتأثير الشهوة أو الغضب ما تأباه الحكمة وما يرفضه العقل[30].

القلب محل العلم :

القلب هو محل العلم، وتنطبع فيه حقائق المعلومات، ولكل معلومة حقيقة، حقيقة صورة تنطبع في مرآة القلب، ولابد من توفر عناصر ثلاثة[31] :

الاول : القلب وهو العالم بالاشياء

الثانى حقائق الاشياء وهي المعلوم

الثالث : انطباع الحقيقة فى القلب وهو العلم الذى ينطبع فى القلب..زفالقلب موجود والحقيقة موجودة ويحتاج الامر الىانطباع تلك الحقيقة فى القلب فالعلم بالشيء لا يعنى حصوله فى القلب  فوجود السيف لا يعنى امساكه باليد الا بقبض اليد له لكي يتحقق القبض  الحقيقي  ووجود الشيء لا يعنى حصوله فى القلب الا بانطباع صورته فى القلب او انطباع صورة مماثلة له

ولا يكن انظباع صورة الحقيقة فى القلب الا بشروط ثلاثة :

اولها ان يكون القلب صافيا وطاهرا ونقيا فالماء الوسخة لا تنطبع صورة الاشياء فيها لكدورتها.ز

اثانيها: الا يكون هناك حجاب يحجب الحقيقة عن القلب وكل حجاب لا بد الاان يحجب ما خلفه ..وكل اعتقاد سابق بامر يحجبك عن تلمس الحقيقة فيه وهذا مما ادى الى ضلال الفلاسفة واصحاب العقائد عن معرفة الحق لانشغالهم بما انشغلو به  من عقائهم التى قادتهم الى الضلال والتيه والضياع..

ثالثها: ان تنصرف الهمة الى تلك الحقيقة ويتجه القلب بكليته الى تلك الحقيقة فلو انصرف القلب عنها واتجه لغيرها لما انطبعت الصورة فى ذلك  القلب ..

:ولا بد من معرفة الجهة التى يكون فيها المطلوب , ومن الجهل ان يقع  الجهل بالجهة التي يمكن  فيها العثور على المطلوب، ولابد في هذه الحالة من العثور على العلوم التي يمكن أن تساعد على معرفة العلم المطلوب.

ويؤكد «الإمام الغزالي» أن كل قلب صالح لمعرفة الحقائق بفطرته، والإنسان الذي حمل الأمانة وهي القدرة على المعرفة والتوحيد إنما استعد لها بقلبه لا بجارحة من جوارحه، فالقلب الذي خلا من الأسباب المانعة من المعرفة لابد من انطباع الحقيقة فيه بحكم الفطرة النقية، والمقدار الذي ينطبع في القلب من هذه المعرفة هو المقدار اليسير الذي يمكن صاحبه من الطمأنينة واليقين[32].

مراتب الإيمان :

للإيمان ثلاث مراتب[33]:

المرتبة الأولى : إيمان العوام : وهو إيمان التقليد، وهو الخبر الذي ينقله لك من عرفته بالصدق والأمانة، وقلبك اطمأن إليه وإلى أخباره، وهذا هو إيمان التقليد، وإيمان العوام الذين سمعوا ما ثبت من الدين بالضرورة من آبائهم واطمأنوا إليه ولم يخطر ببالهم خلافه.

المرتبة الثانية : إيمان الاستدلال : وهو إيمان التقليد إذا قامت القرائن والأدلة العقلية عليه، وهو أقوى من الإيمان الأول لوجود القرائن والأدلة العقلية.

المرتبة الثالثة : إيمان العارفين : وهو الإيمان المشاهد بنور اليقين، وهذا الإيمان لا يتطرق إليه الشك، ومثله كمن أخبر آخر بخبر فهو مقلد فيه، ومن شاهد بنفسه ذلك الأمر فهو متمكن ومتيقن مما رواه، وهذا هو إيمان العارفين الذين ينير الله قلوبهم بمعرفته عن طريق الذوق.

التفريق بين الإلهام والتعلم :

قسم «الإمام الغزالي» العلوم التي تحصل في القلب من غير المعلوم العقلية إلى قسمين[34] :

المعرفة الإلهامية : وهذه تحصل في القلب من غير معرفة بأسبابها، وكأنها تهجم على القلب، وهذا طريق العارفين.

المعرفة الاستدلالية : وهذه تحصل عن طريق الاعتبار والاستبصار وهذا طريق العلماء.

وهناك طريق الوحي وهذا خاص بالأنبياء، ولا يشاركهم فيه أحد، ومنهجه واضح وطريقته مبينة عن طريق الملائكة الذين يلقون هذه المعرفة بالقلب، ولا يمكن لأحد أن يدعي الوحي أو يقول بنزول الملائكة عليه، وكل من المعرفة الإلهامية والاستدلالية تقبل الخطأ، وبخاصة إذا انحرفت عن جادة الشرع، وضوابط العقل.

وقال الغزالي في بيان ذلك :

«وحقيقة القول أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة التي سبق ذكرها فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة، وتجلي حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها، والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه، وكذلك تهب رياح الألطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ، ويكون ذلك تارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل، وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فبه ينكشف الغطاء، وينكشف أيضا في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم، تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد ما، ودوامه في غاية الندور»[35].

وذهب «الغزالي» إلى أن الأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى.

وحذر «الغزالي» من الاعتماد الكلي لبعض السالكين على هذا الطريق، واستعبدوا استجماع شروطه، فالمبالغة في المجاهدة قد تفسد المزاج ويقع الاختلاط في القلب ويمرض البدن، وأحيانا تنشأ خيالات فاسدة، ودعا إلى الاشتغال بطريق العلم، وهو أوثق وأقرب إلى الفرض، ولابد من تحصيل العلم ومعرفة آراء العلماء، ولا يمكن لطريق الإلهام أن يقود إلى علم صحيح إلا لمن سار في طريق العلم واشتغل بتحصيله، وشبه الجهلة الذين يبحثون عن المعرفة قبل اشتغالهم بالعلم كمن يترك الكسب والحراثة أملا في العثور على كنز من الكنوز في باطن الأرض، وسيقضي معظم حياته باحثا عن أمل لن يجده أبدا، فيسوء مزاجه وتفسد طبائعه[36] .

تفجر العلم في القلب :

طرح «الغزالي» تساؤلا مهما عن حقيقة تفجر العلم في ذات القلب وهو خال عنه، هل يمكن أن يتحقق ذلك؟

وأجاب على هذا التساؤل بأن هذا من عجائب أسرار القلب، فسر ذلك بأن المهندس يصور أبنية الدار في ورقة بيضاء ثم يخرجها إلى الوجود، وكذلك فإن الله تعالى سطر الكون كله في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود.

وللعالم أربع درجات[37] :

– وجود في اللوح المحفوظ : وهو سابق على الوجود الجسماني.

– وجود حقيقي : وهو الكون المرئي بصورته الواقعية.

– وجود خيالي : أي وجود صورة العالم في الخيال.

– وجود عقلي : أي وجود صورته في القلب.

والقلب النقي الصافي تنطبع فيه صورة العالم إما من خلال الحواس المبصرة والمدركة، أو من خلال اللوح المحفوظ، فإذا كان القلب نظيفا وصافيا انطبعت فيه صورة العالم من اللوح المحفوظ، ترى صورة السماء والشمس والقمر في لوحة الماء الصافي، كما ترى بطريقة مباشرة وبنفس الوضوح والصفاء من خلال النظر المباشر إلى السماء، فإذا ارتفعت الحجب عن القلب انطبعت فيه صورة العالم كما هو في حقيقته في اللوح المحفوظ.

و بناء على هذا، فالقلب له  بابان : باب يستمد منه معرفته من الحواس مباشرة، وباب يستمد منه معرفته عن طريق انعكاس ذلك في القلب من اللوح المحفوظ.

وختم «الغزالي» حديثه بقوله :

واعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير عن طريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفا بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به، فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا، ويشهد شواهد الشرع والتجارب والحكايات[38] .

مداخل الشيطان إلى القلب :

شبه «الإمام الغزالي» القلب بالحصن والشيطان بالعدو الذي يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولذلك فإن من واجب الإنسان أن يغلق أبواب الحصن ومداخله من وساوس الشيطان لكي لا يتمكن ذلك الشيطان من اقتحام القلب، ويعتبر تحصين القلب من الواجبات العينية على الإنسان المكلف، ولا يستطيع العبد تحصين قلبه إلا بعد معرفة المداخل التي يدخل بها الشيطان إلى القلب،

ومن أهم هذه الأبواب وأخطرها ما يلي[39]:

باب الغضب : وهو أخطر الأبواب وأوسعها، فإذا غضب الإنسان ضعف جند العقل وهجم جند الشيطان، ويصبح الإنسان في لحظة الغضب لعبة كالكرة يتحكم به الغضب ويرجعه إلى ما لا يريده العقل ولا يرضاه.

باب الشهوة : وهو باب واسع أيضا، وفي لحظة الانقياد للشهوات وتسلطها على الإنسان يستسلم الإنسان لهواه، ويرضى لنفسه في لحظة تسلط الشهوة عليه من الذل والهوان ما لا يرضاه عقله وما تأباه كرامته، وقد تلعب به امرأة لا يرتضي لنفسه أن ينحدر إلى مستوى سلوكها فتذله وتسيطر عليه ويستسلم لها وتعبث به، وتجد لذتها في إذلاله مما لا يرضاه لمثله…

باب الحسد : وهو باب الشيطان إلى قلب الإنسان، وقد يدفعه الحسد إلى الحقد وإلى ارتكاب جريمة الاعتداء على الآخرين، لا لشيء إلا لأن الحسد يسيطر عليه، ويقض عليه مضجعه ويقلقه ويشقيه.

باب الطمع : وهو باب واسع خطير، وهو مرتبط بالشهوة، والطمع مرض يدفع صاحبه إلى التملق والذل طمعا فيما لدى الغير، وقد يدفعه إلى السرقة واغتصاب مال الغير.

وهناك أبواب كثيرة ذكرها «الغزالي» تعتبر من أمراض النفس، وهي وسيلة لدخول الشيطان إلى القلب، كالحقد وسوء الظن والبخل وحب المال وحب الشهرة وحب الدنيا والتعلق بها، وجميع هذه الصفات مما تجعل القلب بعيدا عن صفائه ونقائه، ولا بد من تطهير القلب من هذه الصفات لكي تستبدل بصفات محمودة، تجعل الإنسان نقي السريرة صافي النفس محبا للخير باذلا جهده لإسعاد الآخرين بعيدا عن الأنانية الضيقة التي تشقي صاحبها وتجعله معزولا عن الناس ومكروها من كل صديق[40].

والقلب المشحون بالشهوات والاحقاد والوساوس سرعان ما تحركه هذه العوامل، وتثير فيه خواطر الشر المذمومة ثم تنتقل هذه الخواطر من مجرد الخاطرة العابرة إلى رغبة ملحة تحركها الغرائز ويميل إليها الطبائع، ثم تتفاعل هذه الرغبة لكي تصبح عزما وإرادة، وهنا يتجه القلب إلى الاستجابة لتلك الخاطرة فيعزم على سلوك طريق الشر فيصدر الفعل منه، وهكذا تنتقل الخاطرة إلى فعل بعد أن تجد استجابة في القلب، وإذا كان الإنسان لا يحاسب على الخاطرة فإنه يحاسب على الفعل، ولهذا لابد من السيطرة على الخواطر السيئة قبل أن تصبح إرادة وعزما ثم تصبح فعلا وسلوكا تدفع الإنسان إلى التهلكة، فخاطرة الحسد تتفاعل وتصبح حقدا، والحقد يولد الإرادة، والإرادة تولد العزم، والعزم يولد الفعل الذي يدفع صاحبه إلى الهاوية[41] .

مفهوم الخلق عند الغزالي :

تكلم «الإمام الغزالي» عن الخلق وفرق بين «الخَلْق» بفتح الخاء، و»الخُلُق» بضم الخاء فالخلق (بالفتح) صورة الظاهر، والخلق (بالضم) صورة الباطن، ويقال : فلان حسن الخَلق والخُلق، أي : حسن الظاهر والباطن[42].

والخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، تصدر الأفعال عنها بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، وصفة الرسوخ فيما يصدر عن الإنسان هي التي تعطيه معنى الخلق، فما يصدر عن الإنسان في لحظة عابرة لا يعتبر خلقا له، فصفة السخاء يجب أن يكون السخاء صفة راسخة ودائمة وتصدر عن صاحبها من غير حاجة إلى روية وفكر، فإن صدرت في لحظة عابرة وبصفة نادرة لا يوصف صاحبها بالسخاء، ومن تكلف صدور صفة السخاء أو الشجاعة عنه لا يعتبر خلقه السخاء ولا الشجاعة[43] .

والخلق لا يرتبط بالفعل، فقد يوصف بالسخاء ولا يبذل إما بسبب فقره أو لوجود مانع يمنعه من ذلك، وقد يبذل ولا يوصف بالسخاء؛ لأن سبب بذله هو الرياء وحب الظهور أو لتحقيق مصالح خاصة، ويوصف الإنسان بالسخاء والبخل بحسب الهيئة الراسخة في النفس، والخلق هو ما ارتبط بتلك الهيئة من حيث ميل النفس إليها.

دور المجاهدة في تحقيق الكمال :

ويمكن للإنسان أن يغير خلقه بالمجاهدة والرياضة والانشغال بتزكية النفس، ولا يمكنه أن يغير خلقه (بفتح الخاء) الظاهر، كالطول والقصر واللون والملامح، ولو قلنا : إن الخلق (بضم الخاء) لا يقبل التغيير لانتفت الفائدة من المواعظ والتأديب، وانتفت الحاجة إلى الأنبياء والمربين.

وقسم «الغزالي» الموجودات إلى قسمين :

أولا : ما لا مدخل للآدمي في أصله وتفصيله : كالسماء والكواكب وأعضاء البدن؛ لأنه وقع الفراغ من وجوده وكماله.

       ثانيا : ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال : إذا توفرت شروط ذلك الكمال، كالنواة التي يمكن أن تصبح نخلة إذا وقع تعهدها والعناية بها.

والغاية من المجاهدة ليس إلغاء الغريزة وتغيير الفطرة والقضاء على الشهوات وقمعها وإلغاؤها، وإنما الغاية منها التحكم في الغرائز والشهوات؛ لأنها خلقت لغاية وهي كمال وزوالها نقص، وبالمجاهدة تعود إلى الاعتدال والوسطية، لكي تكون في درجة بين الإفراط والتفريط.

ويتمثل حسن الخلق في اعتدال القوى الإنسانية بحيث تكون تلك القوى في.قبضة العقل يقودها ويتحكم فيها بما يقتضيه النظر السليم………………..

ولا نملك في النهاية إلا أن نشيد بالفكر الغزالي الملتزم بكل الثوابت السليمة، والمعبر عن الأخلاقية الإسلامية في سموها وامتدادها الإنساني، وقبل أن نوجه النقد لآراء الغزالي في مجال التربية الروحية والمجاهدات النفسية علينا أن نقرأ بعناية واهتمام كتاب الإحياء، لكي نتعرف من خلاله على شخصية الغزالي المتميزة بعمقها الفكري وبصدقها ودقتها في التعبير عن آرائها في التربية النفسية كخطوة ضرورية للنهوض بمستوى الإنسان وتنمية قدراته المعرفية، والسمو بمستوى همته، لكي يحلق في فضاء إنساني رحب، متجاوزاً الحجب والعوائق والسدود التي تشد الإنسان إلى الأرض، وتضيق عليه الخناق من خلال تعلقه المرضي بالمظاهر الوهمية التي تزيد في شقائه وتنمي فيه مشاعر الأنانية البغيضة التي تعتبر من أبرز الأمراض التي تعتري القلوب وأخطرها على المجتمع الإنساني.

«والغزالي» فيما ذكره لا يلغي دور العقل ولا يتجاهل مطالب الغرائز الفطرية ولا يقلل من مكانة الشهوات الطبيعية، وإنما يطالب بأن يباشر العقل سلطته المطلقة على الغرائز لكي يكون هو الملك المطلق الموجه للحواس، فلا ينقاد في لحظات تدفق الغرائز لسلطة طاغية مدمرة، وإنما يدعو من خلال المجاهدة إلى إعطاء العقل سلطة القرار وسلطة التوجيه، وبذلك المنهج تستقيم مملكة الإنسان، وتنضبط سلوكياته، وترتقي اهتماماته، ويكون مؤهلا لكي يكون خليفة الله في أرضه، والمؤتمن على النهوض بمستوى الإنسان المكلف بالأمانة والمكرم على سائر المخلوقات والمخاطب بخطاب الشرع والمعاقب والمعاتب إذا لم يؤد الأمانة التي تحملها بإرادته.

هذا هو الإنسان كما تصوره «الإمام الغزالي» ورسم ملامحه، وهو إنسان متميز عن سائر المخلوقات باستعداده لمعرفة ذاته ومعرفة ما حوله، وهو إنسان كامل في تكوينه الخَلقي والخُلقي، يبحث عن الكمال المطلق، ويجد سعادته في قدرته على المعرفة التي تثير في كيانه الشعور بالطمأنينة والأمن النفسي…

واشكرهم ايها الزملاء الاعزة على انصاتكم وتتبعكم لحديثى هذا عن الانسان فى نظر الغزالى والله يحفظكم ويتولاكم ..

 

 

 

 

 



 

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/10.[1]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/11.[2]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/11.[3]

 المصدر السابق نفسه.[4]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/2.[5]

انظر : المصدر السابق نفسه.[6]

انظر : المصدر السابق نفسه.[7]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/27-28.[8]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/41-42.[9]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/57-58.[10]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/69-72.[11]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/81.[12]

انظر : “إحياء علوم الدين”، 1/90-91.[13]

 انظر: نفس المصدر : 1/101.[14]

انظر : إحياء علوم الدين : 1/101.[15]

انظر : المصدر السابق، ص 102.[16]

انظر : الإحياء : 1/149.[17]

انظر : المصدر السابق نفسه، ص 150.[18]

 انظر الجزء الثاني من كتاب الإحياء وفيه يوضح الغزالي أنواع المنكرات التي يتولى المحتسب القيام بها : 2/333 – 370.[19]

انظر : الإحياء : 2/371.[20]

 انظر الإحياء : 2/385.[21]

انظر : الإحياء : 3/3.[22]

انظر : المصدر السابق نفسه، ص 3.[23]

 انظر الإحياء 3/4.[24]

 انظر المصدر السابق نفسه.[25]

 انظر المصدر السابق نفسه، ص 5.[26]

 انظر الإحياء : 3/5.[27]

 انظر المصدر السابق نفسه، ص 6.[28]

 انظر الإحياء 3/7.[29]

 انظر الإحياء 3/8.[30]

 انظر الإحياء 3/14.[31]

 انظر الإحياء 3/16.[32]

 انظر الإحياء 3/17.[33]

…………………………………[34]

 انظر الإحياء 3/20.[35]

انظر الإحياء 3/22.[36]

 انظر الإحياء 3/23.[37]

 انظر الإحياء 3/25.[38]

 انظر الإحياء : 3/35. [39]

 انظر الإحياء : 3/38 – 40.[40]

 ……………………………..[41]

 ………………………..[42]

 انظر الإحياء : 3/57.[43]

( الزيارات : 10٬404 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *