الرحلة العلمية بين دمشق والقاهرة

ذاكرة الايامالرحلة العلمية بين دمشق والقاهرة

اجمل الذكريات فى حياة الانسان هي مرحلة الدراسة ورحلتها الممتعة عبر السهول والجبال متجاوزة بارادة الشباب وطموحاتهم كل الصعاب والعقبات , لا شيء يوقف السير ولو كثرت اثقال الحياة , عندما يكود وقود الارادة ذاتيا لا ينضب فلا توقف ولاتردد , عندا استعرض شريط الذكريات اشعر بوعورة الطريق وكثرة منعطفاته , واكبر ما كنا نتحمله ونقاسيه , الاثقال ليست واحدة , ما تحسبه خفيفا قد يكون ثقيلا عندما تشعر بالتعب والارهاق , فيما بعد تصبح الالام والشدائد والعقبات مجرد ذكريات , عندما تنظر الى الطريق ولا تلتفت يمنة ولا يسرة لا شيء يشغلك , الكسل والخوف والتردد يجعل الرحلة مملة والتوقف مطلبا , برات الرحلة فى مدينة حلب ومنها انطلقت الى دمشق والقاهرة , فى حلب كان كل شيء مختلفا , كانت التربية هي الاهم , وكان الاهتمام بها , انشغلت بها وسعدت بمجالسها الروحية , وادركت فيما بعد انها الركن المتين والاساس السليم , ما ندمت قط على ما فاتنى من العلم , ماتعلمته فى حقبة حلب لم اجده فى الكتب ولا فى المدارس والجامعا ت , كنت الحفيد القريب من السيد النبهان طيب الله ثراه ,وكان بالنسبة لى هو المربي وهو المعلم وهو المثل الاعلى الذى كنت اقتدى به , كانت الكلتاوية هي مدرستى الاولى وكنت الطالب الوحيد فيها قبل ان تكون هناك مدرسة , اول اساتذتى هم الذين علمونى القران , كان الشيخ بشير حداد ثم الشيخ اديب حسون , ثم تتابع اشاتذتى الشيخ نذير حامد والشيخ نزار لبنية والشيح حسان فرفوطى , ثم انتقلت الى الشعبانية وتعلمت معظم العلوم على احسن الاساتذة فيها واهمهم الشيخ ابو الخير زين العابدين فى النحو  والشيخ عبد الرحمن زين العابدين فى الفقه والمفتى الشيخ اسعد عبجى فى الاصول والاستاذ القاضى الممتاز  عبد الوهاب التونجى فى قانون الاحوال الشخصية , والشيخ بكرى رجب فى العروض والشيخ احمد القلاش فى الفقه والشيخ وين العابدين جزبه فى المنطق والشيخ عبد الله سراج فى الحديث والشيخ عبد الله حماد والشيخ عبد الله خير الله وامين عيروض  , كانوا جميعا اعلاما واهل صلاح وتقوى وكان المدير عبد الله  سلطان ثم عبدالوهاب سكر , كانت الدراسة تقليدية على منهج الاولين , حفظنا اكثر مما تعلمناه , كان الكتاب هو المرجع , لم التفت كثيرا للعلم وكان يشغلى ما كنت اراه اهمية ومنهجية لتكوين الشخصية العلمية , ضقت بما كنت ادرسه وكدت ان اغادر نهائيا , لم يكن هذا ما اريد , انتقلت الى مجتمع التجارة لمدة ثلاثة اشهر وعدت سريعا , للاسباب التى ذكرها ابن خلدون وهو خلق المكايسة واخلاق الكسب , وفى سن الثامنة عشرة من عمرى غادرت حلب الى دمشق  , كان القرار صعبا والانتقال عسيرا , ولكن لا بد من السفر و مجتمع الجامعة مختلف كليا , العلم ولا شيء غيره , ليس المهم كيف تكون , كنت ابحث عن مجتمع اكثر دفئا وتقوى , فى الجامعة اعلام الفكر , كانت علاقتى بجميع اساتذتى علاقة صداقة ومحبة ولكل منهم فضل وتميز , كنت ابحث عن شيء ما لا اعرفه , ربما هو البحث عن الطريق , كنت اريد ان اجد شيئا مقنعا , امضيت اربع سنوات كانت مختلفة عما اعتدت عليه , التقيت باعلام دمشق , فى الجامعة وخارجها , عرفت ابرز علماء دمشق و كنت مرحبا به فى كل مجلس بسبب صلتى بالسيد النبهان , عرفت شيخ الشام الشيخ حسن حبكة وخصنى بمجاسه وكنت ادرس معه كتاب تفسير ابي السعود , وكانت صلتى قوية برئيس رابطة العلماء السيد مكى الكتانى وعرفت الشيخ احمد كفتارو والشيخ احمد الدقر , وفى الجامعة درسنا اصول الفقه على الدكتور معروف الدواليبى والفقه على الشيخ مصطفى الزرقا والاحوال الشخصية على الدكتور مصطفى السباعى و وهناك اساتذة مصريون من وفقه اللغة على ااستاذ محمد المبارك والتاريخ على الدكتور يويف العش , ودرسنا كتاب نيل الاوطار وسبل السلام على السيد المنتصر الكتانى المغربي , ودرسنا التفسير على الشيخ بهجت البيطار , ومن اساتذتنا الدكتور امين المصرى , وشعرت فى الجامعة اننا فى مجتمع مختلف كليا عما كنا عليه فى حلب ,اصبحت اكثر التصاقا بمجتمع العلم و لم اجد فى الجامعة ذلك التعصب المذهبي ,  كانت دراستنا فى حلب هي دراسة النصوص الفقهية وتحليلها , كان الاستاذ فى المدرسة التقليدية يقرأ الكتاب المقرر ويحاول ان يشرح ما فيه , كنت فى حلب فى صحبة السيد النبهان طيب الله ثراه , كانت التربية اكثر اهمية , وكانت هناك المدرسة , مجتمع العلماء يغلب عليه التقى والصلاح ومعظم رموزه هم اقرب لمجتمعهم , العلماء هم كغيرهم من الناس , ومعظمهم اهل صلاح ودين , مجتمع العلماء يغلب عليه اسلوب الوعظ والارشاد , وقضاياهم سلوكية وليست فكرية , ليست هناك افاق بعيدة لما يهتمون به , مجتمع العلم يختلف عن مجتمع التربية الروحية , اعترق باننى تلقيت العلم عن افضل العلماء سواء فى حلب او دمشق , وكل مجتمع يضم الصالح وغير الصالح , ولكن الصالحين اكثر , كنت قادرا على الانسجام فى كل مجتمع وقادرا على فهم اهتماماته وقضاياه , وعكفت فى دمشق على العلم بكل طاقتى , كانت المناهج مختلفة عما اعتدنا عليه من قبل , اصبحت اقرأ كل كتاب واهتم بكل قضية , كنت سعيدا فى حياتى فى دمشق  وكانت ترضي طموحي وشغفى الى العلم , وكنت اميل الى الدراسات القانونية ودرست معظم القوانين القانون العام والقانون الحاص والقوانين الادارية ومبادئ علم الاقتصاد ,كنت اريد ان اطل على الاهتمامات والافكار , لا شيء خارج الاهتمام , كنت افهم الجميع جيدا , كانت بلاد الشام فى الخمسينات من القرن الماضى اكثر استقرارا , الا ان التصادم كان قويا بين مختلف الاتجاهات , الاسلامية والقومية واليسارية , وكان موضوع الاشتراكية يحظى بالاهتمام الكبير , وكانت الوحدة بين سوريا ومصر , وكادت ان تمتد وتتسع ولكن حلم الوحدة قد فشل وتوقف , وبأت الظاهرة السلفية تقتحم بلاد الشام , لم تنشأ السلفية من واقع مجتمعها وانما كانت موجهة وممولة ومدروسة , وبأت حصون الوحدة الوطنية تنهار رويدا رويدا , كنت اشفق على ما كنت اراه من تصادم بين مختلف  التيارات الاسلامة , لم تعد بلاد الشام كما كانت من قبل , وهدمت حصون الاستقرار الاجتماعى ,كان يراد لبلاد الشام ان تكون غير ماكانت عليه , لم يعد الاسلام منهجا  روحيا عاقلا وملتزما وراقي الفهم والتصور , كانت سوريا عاصمة الثقافة العربية الاسلامية وبلد التعددية فى مكونات الشعب السورى , كانت هناك انحرافات قليلة يمكن تجاهلها , لم اكن اجد ذلك التصادم والتنافر بين القومية والاسلام وبين الاصالة والمعاصرة والحداثة , كلنا يبحث عن الافضل , كانت التربية الاسلامية راقية المنهج ليس فيها ذلك التنافر بين التيارات المختلفة , وكنا ندرك ان سوريا تواجه تحريا يستهدف دورها القومي كعاصمة ملتزمة راقية ذات اشعاع حضارى بسبب تكوينها المتعدد ووعي شعبها , وعندما انتقلت الى القاهرة بعد اربع سنوات فى دمشق كان كل شيء مختلفا , كانت هناك قبضة قاسية وحرية غائبة وانحدار متدرج فى =ور مصر القومي , كان هناك استقرار سياسي وتراجع اجتماعى واقتصادية , كانت المؤسسات العلمية مستقرة ومنضبطة , التقيت فى القاهرة بافضل الشخصيات العلمية وكنت فى مرحلة الاستفادة والتلقى  , كانت المناهج العلمية راكدة تفتقد الجدية , وفى مصر هناك اعلام كبار هم اعمدة الجامعات , عرفت الكثير منهم , ويتميز العلماء فى كل مجتمع بالتواضع والتواصل والطيبة والفضل , كانت الابواب مفتوحة بغير حدود واللقاءات العلمية مستمرة , مصر كانت البيت العربي الكبير لم تتخل عن دورها ولم تقصر فيه , كان الفكر الاشتراكي هو الفكر الذى لا يقاوم ولا احد كان يمكنه التصدى له , الشعب المصرى شعب اصيل فى انتمائه الاسلامى وعريق فى تاريخه , كان من اشهر العلماء الشيخ محمد ابوزهرة والدكتور شوقي ضيف والاستاذ عبذ السلام هرون , كنت على صلة بمعظم الاعلام العلمية , المجتمع المصرى مجتمع مثقف يحسن التعامل , كانت صلتى باساتذة الجامعات اكثر من صلتى بعلماء الازهر , منهجية الازهريين مختلفة , وهي اقرب الى المناهج الحديثة بفضل جهود الباحثين الذين استفادوا من منهجية المستشرقين فى البحث والتحقيق , امضيت اربع سنوات فى القاهرة كانت غنية بالحياة الاجتماعية واللقاءات العلمية , كنت ارى اننا نحتاج الى تجديد المناهج وتطويرها لكي تسهم فى تكوين شخصية الباحثين ,مازالت ذكريات القاهرة حية فى نفسي , كانت فترة غنية ومفيدة اكتشفت فيها عالما مختلفا عما اعتدت عليه من قبل , تلك حقبة تكوينية كنت احتاجها وهي التى هيأتنى لما سيكون بعدها , فى كل حقبة كنت اتعلم شيئا جديدا عن الحياة , علم الكتب يعبر عن جهد السابقين ممن كتبوا تلك الكتب , اما العلم الاهم الذى نحتاجه فهو العلم الذى نستفيده من الحياة وتجارب الاخرين , علم الحياة اكثر واقعية وصدقا , وهذا ما يحتاج اليه من يتعلمون , ليس المهم ان نعيد كتابة ما تعلمناه وانما المهم ان نكتب من جديد فهمنا لما تعلمناه , عندما اتامل فيما كان من قبل لا يشعرنى بالرضا عن نفسي ولا ادعى اننى  اخترت افضل طريق فهناك الكثير مما يمكن الاعتراف بقصوري فيه , ولكن هذا ماكان يمكن ان يكون , كنت اشعر ان هناك ما يجب اصلاحه فى مناهجنا العلمية , وكنت اتساءل مع نفسي هل يمكننا ان نكون افضل , من المؤكد اننا نحتاج الى مراجعات متجددة ومتعاقبة وان نحاول ان نبحث عن فهم جديد لما نتعلمه ,  ليس المهم ان ندور حول انفسنا وان يكرر كل جيل ما تعلمه الجيل السابق , لا يمكن للعلم ان يكون نسخة واحدة تتجدد طباعتها وتكون اوراقها اكثر جمالا وانما ان يعبر كل جيل عن نفسه وان يضيف الى جهد السابقين الاولين , مازلت اذكر اننى قلت فى الدروس الحسنية امام الملك الحسن الثانى رحمه الله ان احياء التراث لا يكون باعادة طباعته ولا بتحقيق نصوصه ولا بالمبالغة فى حبه وتقديسه وانما يكون الاحياء الحقيقي بالاضافة اليه بما يعبر عن جهدنا وفكرنا وتجربتنا , جهد العقول ليس مقدسا ولا يمكن ان يكون خارج المعايير النقدية , فما هو غني الدلالة اصيل الفهم عميق المعنى فيجب ان يحظى بالاهتمام ويستفاد منه كجهد علمي وتراث اصيل , اما ماهو مكرر من جهد العقول  وما تجاوزه عصره من الاهتمامات والقضايا فلا ينبغى التوقف عندها , ولا الانشغال بها , مهمة التاريخ ان تقتدى بتجربة السابقين وتكتشف طبيعة النفوس وسنن الحياة , لا مبرر للمبالغات فى المرويات التى لا يصح سندها ولا يستقيم معناها , مناهج البحث العلمى يختلف كليا عن منهج كتاب القصص والروايات , فتلك كتب يحسن فيها الخيال ويطيب فيها السرد القصصى  المثير للعواطف والانفعالات , كنت اصادف الكثير من هذه الظواهر فى مجتمع كنت اتوقع فيه الاتزام بمنهج العلماء ودقة الباحثين الملتزمين , كنت اجد فى رحلتى العلمية  الكثير من الايجابيات التى كنت افرح لها وتثير اهتمامى وكنت اجد الكثير من السلبيات , احيانا كنت التمس العذر لاصحابها لان هذا هو ماتعلموه وهم ملتزمون به , كل ما اذكره من ملاحظات لا يخفى اعجابي بتقدم المناهج العلمية فى الجامعات المصرية , وهي متفوقة على كل الجامعات العربية الاخرى بمناهجها وكفاءات من هم فيها من الاطر العلمية المتخصصة , الجامعات المصرية هي قلاع العلم فى العالم العربي  قديما وحديثا , وسوف تظل تلك الجامعات منارات ثقافية متميزة ..      

( الزيارات : 809 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *