بلاد الشام كما اعرفها

ذاكرة الايام .. بلاد الشام كما اعرفها

أمضيت في دمشق في المرحلة الجامعية الاولي اربع سنوات كانت غنية بما تعلمته في تلك السنين من دروس , وكانت تجربة مهمة فى حياتى فقد كانت المحطة الاولى التى توقفت فيها بعد مغادرتى حلب  , مجتمع جديد وجدت نفسي فيه  وحيدا وغريبا , كل شيء كان مختلفا عما اعتدت عليه , دمشق مدينة الحضارة والثقافة والقيم الراقية ,  اسلام لم اجد مثله  رقيا فى الفهم , اسلام بغير تعصب  ولا انغلاق و اسلام التعايش والتساكن , كان هناك من القيم الروحية ما يشدك اليه , احببت دمشق واهل دمشق و عرفت الكثير من علماء دمشق ,  وكلهم كانوا رموز فضيلة  واستقامة , الشخصية الشامية شخصية متميزة راقية ملتزمة ، كانت بلاد الشام فى تلك الفترة فى الخمسينات من القرن الماضى  قلعة حضارية في رقي مجتمعها وفي اخلاق اهلها وثقافة المواطن فيها ، كنت اجد الاسلام في اجمل صوره وأحسن دلالاته. في بلاد الشام ، اسلام متميز ، اسلام بلاتعصب ولا تزمت ولا تطرف ، مجتمع الشام لا يحب العنف ولا التطرف  , لغة التخاطب كانت راقية مهذبة , كانت بلاد الشام مستهدفة لانها كانت تملك من اسباب الحضارة والثقافة ما يجعلها رائدة المجتمعات العربية في. النهضة المرجوة , كانت كل الامال معلقة علي بلاد الشام لكي تكون فى مقدمة المسيرة العربية نحو المستقبل ، كانت بلاد الشام هي القاطرة التي تقود وتختار الطريق ، كنا نشعر بتلك المسؤولية التاريخية قديمًا وحديثًا ، كان الافق الذى  ننظر اليه في تلك الحقبة يتسع لكل الوطن العربي ، كان الاستعمار هو الذى رسم الحدود فى سايس بيكو ولا بد من تجاوز تلك  التقسيمات التى اريد بها تمزيق الوطن العربي ,  كنا نشعر في تلك الفترة من حياتنا ان الاسرة العربية واحدة من الخليج الى المحيط ، يجمعها مصير واحد هو الذى سينتصر فى النهاية  وكلنا كنا نحلم بذلك اليوم الذى نتغلب فيه على تلك الخريطة التى رسمتها تلك الاتفاقية  سوريا الكبرى جزء من الوطن العربي الكبير , والمجتمع العربي هو جزء من العالم الاسلامى ، ما كان يحدث في اَي مجتمع عربي كنا نشعر به في بلاد الشام ، العروبة في بلاد الشام هوية  انتماء لا تعرف. الحدود ، والاسلام في بلاد الشام لا يعرف التعصب ولا الطائفية الضيقة ، او المذهبية المفرقة ، الاسلام واحد وان تعددت مذاهبه , وكانت الامة العربية تبحث عن ذلك الطريق  وتريد ان تكون ,امة واحدة  تجمعها ارادة  فى العيش المشترك , فى ظل دولة جامعة  وثقافة روحية  تؤمن بالله  وتحترم الاصول والحقوق التى جاءت من عند الله  , كان الاسلام موحدا لتلك الامة ومقربا ما تباعد من القوميات  , كان هناك تعايش وتساكن واحترام متبادل بين. كل الأطياف ، كنا نشعر بالأسرة العربية الواحدة بكل امالها وطموحاتها ، كنا نشعر اننا مع كل الشعوب العربية في معركة الاستقلال. والحرية والكرامة ، العرب أمة واحدة والاسلام جامع وموحد من خلال ثقافته ذات. الخصوصيات الايمانية والروحية ، وكنا ننظر لكل الشعوب الاسلامية الاخري نظرة محبة واحترام لكل الخصوصيات ، عولمة الاسلام عولمة روحية ثقافية كونية. تؤمن بالانسان ، عولمة الاسلام لا انانية فيها ولا إقصاء لشعب من الشعوب ولو كان ضعيفا ، وانما هي عولمة التكافل الانساني للدفاع عن الحياة لكي تكون كما ارادها الله  روحية الملامح  اخلاقية  المواقف  تحترم الانسان  فى كل مكان ، كانت المساجد والكنائس متجاورة.تعبر عن تلك التعددية في إطار الاسرة  العربية الواحدة ، العروبة انتماء والعربية لسان ولغة تعبير ، والاسلام منهج ايماني وروحي وثقافة. ذات خصوصية انسانية في الحقوق الدنيوية ، العرب كأمة وشعب.  مؤتمنون  علي الاسلام ان يحملوا  رسالته الكونية من الله تعالي لكل عباده ، تلك هي القيم التي تربينا عليها في تلك الحقبة التاريخية في بلاد الشام ، فى اهم مساجد دمشق وحلب  تجد اضرحة الانبياء , مسجد سيدنا يحيي فى دمشق ومسجد سيدنا زكريا فى حلب , وكان المسيحيون اقرب الى المسلمين فى ثقافتهم الدينية وهم متاثرون بثقافة الاسلام  فى مجتمعهم , وكان التجاور والتزاور فى الاعياد الدينية وهي ظاهرة تستحق الاهتمام , فما ضاق مسلم بجاره المسيحى وما ضاق مسيحى بجاره المسلم  , عندما تحررت بلاد الشام اراد ت ان تسهم في مساعدةًكل الشعوب العربية الاخري لتحقيق استقلالها السياسي ، كانت معركة العرب مع اعدائهم واحدة , معركة الدفاع عن الحقوق في كل الارض العربية , واهمها في فلسطين ، القدس عربية كانت وسوف تظل رغم كل التحديات وسوف ياتى الجيل الذى يحرر القدس  وكل الارض العربية  مهما طال الزمان ، كان الغرب في الضفة الاخري يرقب الوطن العربي وبسعي بكل طاقته لتقسيمه وزرع الفتن فيه وتخويف الجار من جاره لكي تقع الاستعانة بالأجنبي علي الاخ. العربي والجار المسلم من ابناء هذه المنطقة ، هذه الارض لكل سكانها من كل القوميات , العرب والفرس والترك والكرد  هم شعوب هذه المنطقة وكانوا متعايشين بالرغم من المغالبات بينهم , ولا يمكن للغرب بكل دوله وشعوبه  ان يترك بلاد الشام وبخاصة سوريا والعراق ومصر كما هي هادئة مستقرة ترفع علم العروبة وتعلي من شأن هذه الامة ، عندما كنا طلا با في الجامعة كنا نحلم كثيرا ، وكانت لنا نظرة مثالية في كل قضية ، كنا نشعر ان العرب أمة واحدة وتملك ما تملكه كل الشعوب الاخري من المقومات الحضارية  والخصوصيات الثقافية ، ولما اكتشفت الثروة في ارض العرب اراد الغرب مجتمعا ان يضع يده عليها وحرمان العرب منها بكل الوسائل  والتحكم فى تلك الثروة بالقوة حينا وبالسياسة  حينا اخر  ، لم يكن الاحتلال ممكنا  فى عصر اصبح الاحتلال مدانا  باسم الشرعية الدولية ,  وأقام الغرب   فوق تلك الآبار الغنية بالنفط والغاز دولًا وممالك صغيرة من القبائل التي كانت تسكن في تلك السواحل المطلة علي الضفة الغربية من الخليج ، وضمنوا لتلك الدول والممالك البقاء والحماية  وتعهدوا لها ان يدافعوا عنها ضد كل من يهددهم من جيرانهم واخوانهم  ومنحوهم الاستقلال وجعلوهم امناء على تلك الثروة  العربية وان ينفذوا سياستهم فى كل الارض العربية  وان يمكنوا لهم ما يريدون ,  ، ورفعوا شعار النفط لقاء الحماية,  والثروة لقاء الدفاع عنهم ، وكبرت الثروات وتضخمت  ، وكانوا يقرضون الدول العربية الفقيرة من تلك الاموال المكدسة بفائدة تتراكم يوما بعد يوم الي ان اصبحت كل البلاد العربية مدينة ومستضعفة.وراضخة , ومن تمرد من تلك الدول ادبوه او خلعوه واستبدلوه بمن ينفذ سياستهم فى تلك المنطقة  ، اليست هذه هي صورة الربا الذي كانت ثقيف وينو المغيرة يتعاملون به في الجاهلية والذي حرمه الاسلام ، كانت ثقيف الجاهلية  تقرض الاخرين من الافراد ماكانت تملكه من اموالها  ، اما ثقيف اليوم فهي تقرض العرب من ثرواتهم المكتشفة في ارض العرب , واصبحت الدول العربية الكبيرة ترضخ  لما يفرض عليها بسبب الفقر والحاجة  وترسل جيوشها  لتاديب المتمردين والخارجين على تلك النظم  التى تعمل لحماية تلك المصالح  الغربية وتمكينها من تنفيذ  سياساتها واهمها تدمير الجيوش العربية المحيطة باسرائيل  القاعدة المؤتمنة على الصالح الغربية ، عندما تجرأ العراق القوى على غزو الكويت  تحرك الغرب بجيوشه القوية  لتدمير العراق وقتلوا اكثر من مليون عراقى وشردوا اهله  واشعلوا النار فى كل الارض العربية  لحماية مصالحهم  النفطية  ودمروا سوريا واليمن  واشعلوا الفتنة فيهما, لقد اقام الغرب دولًا صغيرة فوق ابار النفط  لكي يحرم العالم العربي من ثروته ، وجعلها اداة لهدم كل الحصون العربية  التي يفخر بها العرب ، واصبحت تلك الثروة. تدفع ثمن صفقات سلاح وهمية. او لتمويل مواسم رياضية او لشراء مواقف سياسية ، او لا شعال فتن وتمويل حروب في البلاد العربية الاخري ، ما اقسي ما يفعله الغرب الصليبي في ارض العرب ، انه الحقد علي الاسلام باسم الاسلام وتشجيع التطرف والإرهاب باسم الاسلام ،وتحميل الاسلام مسؤولية. تخلف الشعب العربي ، وتشجيع كل الدول للعدوان عليه ، والطمع في ارضه وثروته ، انتهت حقبة سايس بيكو وبدأت حقبة اشد وأقسى ، والحقبة المقبلة قد تمتد لمدة قرن كامل من الاضطرابات  والفتن والحروب الطائفية  , كانت بريطانيا وفرنسا هي المستعمر والمحتل ، واصبحت امريكا بكل جبروتها وطغيانها هي التي. تخطط وتنفذ بحماقة وحقد وتستفز كل المشاعر الوطنية وتشجع العنف  والقتل فى كل مكان  ، والعرب غافلون عن امرهم مستسلمون ، يخرجون من حفرة ويسقطون في اخرى اشد خطرا ، كانت بلاد الشام وبلاد الرافدين. في مقدمة المواكب العربية الصاعدة المتطلعة الى المستقبل ، واصبحت الْيَوْم هشيمًا ممزقًا ، واصبح شعبها مهاجرا في كل مكان مستضعفًا مستذلًا ، ليس هذا ما كنا نحلم به بعد الاستقلال ، ما زلت اذكر تلك الامال التى نحلم بها من قبل عندما كنا طلابا  فى دمشق , لم تعد بلاد الشام كما كانت , تغير كل شيء , عندما اتذكر الماضى افرح به واحزن لما نحن فيه , لقد تهدمت كل الحصون , ولم تعد حلب التى نعرفها من قبل هي حلب , ذلك ما ارادوه لها ان تكون عليه , مازالت العاصفة قوية لم تتوقف بعد , كان الزلزال شديدا وما زالت اثاره الارتدادية مستمرة , لم يعد اهل الشام كما كانوا , انها المحنة الاشد فى تاريخ العرب الحديث , اننى على يقين ان الشام ستعود كما كانت من قبل , وسوف ترفع الركام يوما وسوف تعيد بناء ما تهدم كما فعلت فى كل المحن التاريخية ..

( الزيارات : 591 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *