تهافت الفلسفة وعصر الانحطاط.. اية علاقة..

كلمات مضيئة ..تهافت الفلسفة وعصر الانحطاط .. اية علاقة..

معظم الفلاسفة والمفكرين المعاصرين يعتبرون فيما يكتبون ويحاضرون ان الامام الغزالى قد هدم بافكاره المنهج العقلى فى التفكير وادت كتبه فى ذلك الى عصر الانحطاط الذى شهده مجتمعنا بعد القرن السادس الى الان , ويحملون الغزالى مسؤولية ذلك , وهاجمه عدد من كبار العلماء والفقهاء كذلك واتهموه بالتناقض والتردد , والسبب فى ذلك هو نقده للفلسفة والفلاسفة وهدم مناهجها واعمدتها الفكرية , واهم من تصدى له ابن رشد ابرز الفلاسفة المسلمين واكثرهم شهرة ومكانة..

تاملت ذلك وحاولت ان اتتبع افكار الغزالى فى نقده للفلسفة فى كتابه المعروف تهافت الفلاسفة , واتهم الفلاسفة فيه  بالكفر فى امور ثلاثة , اولاها قولهم بقدم العالم وازليته وقد رد عليهم وفند اراءهم فى ذلك واعتبر ما ذهبوا اليه خاطئا ومتناقضا ولا يمكن التسليم به ,وثانيها قولهم بان الله تعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات , وقد بين بطلان ما ذهبوا اليه من منطلق منطقى , وثالثها قولهم بان البعث والحساب والجزاء والعقاب فى الاخرة يخص النفوس وهي خالدة ولا تشمل الابدان التى تفنى بالموت , فالسعادة واللذه والشقاء والعذاب يخص النفوس , واعتبر الامام الغزالى ان هذه الافكار تقود الى الكفر ولا تتفق مع ثوابت الاسلام الواردة فى القرآن ,  وقد ناقش الامام الغزالى الفلاسفة بمنهجية علمية واعتمد فيها على نفس الاسلوب الذى كان الفلاسفة يعتمدون عليه , وابرز من تصدى له الفيلسوف ابن رشد الاندلسي الحفيد وكان من ابرز اعلام الاندلس فكرا متقدا فى فهمه للفلسفة وهو صاحب كتاب بداية المجتهد الذى يعتبر من امهات كتب الفقه المقارن , وقد ولد ابن رشد بعد وفاة الغزالى بخمسة عشر عاما فى قرطبة , وتحدثت عنه فى كلمة سابقة , كما تحدثت عن محنته وكان قاضى القضاة فى قرطبة وقريبا من مجلس السلطان الموحدى  , وقد شرح ابن رشد اراء وكتب  ارسطو المعلم الاول تلميذ افلاطون الاغريقي قيل الميلاد باكثر تلاثمائة سنة , وابن رشد هو الذى نقل فلسفة ارسطو الى اوروربا , وكتب كتابا فى الرد على الغزالى سماه تهافت التهافت , وكلمة التهافت شديدة الدلالة على معنى الانهيار والسقوط , لقد ذهب  معظم المفكرين المعاصرين الي  ان الغزالى قد هدم المنطق العقلانى فى التفكير وادى ذلك الى انحطاط الفكر فى المجتمع الاسلامى  الذى بدأ بعد عصر الغزالى  يتراجع ويجمد ويتوقف , وبخاصة ان الغزالى قد اتجه الى المنهج الصوفي  ودافع عنه فى كتابه المنقذ من الضلال  ووجد اليقين فيه  لانه يعتمد على العلم والعمل معا  وتهذيب النفس  ومحاسبتها  , واعتبر ان المعرفة العرفانية اقوى وارسخ من المعرفة البرهانية الاستدلالية التى كان معظم الفلاسفة يعتمدون عليها , وقد اقام الامام الغزالى  منهجه على اساس ان العقل هو اداة للتمييز بين الاشياء  وليس للمعرفة التى تحاج الى اليقين وشكك فى الحواس الظاهرة , وان القلب الطاهر تنطبع فيه الحقيقة انطباع الصورة فى المرآة النظيفة , وعرض نظريته تلك فى الجزء الثالث من كتابه الاحياء عندما تكلم عن القلب وعجائب القلب وامراض القلب والقلوب المحجوبة عن الحقيقة , وان مصدر المعرفة امران الجود الالهي الذى يكرم الله به من شاء من عباده والرياضات الروحية والمجاهدات التى تسهم فى رقي صاحبها عن طريق التحكم فى غرائزه واهوائه , تطلعا الى الكمال , وهذا المنهج التربوى هو الطريق الى المعرفة التى موطنها القلب , وان القلب يصاب بالمرض كما تمرض الابدان , ويحتاج الى طبيب يحسن فهم امراض القلوب , واهم امراض القلب هي الغفلة عن الله تعالى والتعلق بالدنيا , وكتب الغزالى كتابات راقية فى هذا المعنى , واعتبر ان المعرفة قسمان معرفة الهامية مصدرها القلب الصافى التى تنطبع فيه حقائق الكون من اللوح المحفوظ  ومعرفة استدلالية برهانية مصدرها العقل الانسانى عن طريق التجربة والاستقراء واكتشاف قوانين الطبيعة ,

وكنت اتوقع ذلك الخلاف بين المنهجين فقد تأثر ابن رشد وكل الفلاسفة بفلاسفة اليونان القدماء سقراط وافلاطون وارسطو , وهذه الفلسفة لا يمكنها ان تنسجم مع التصور الايمانى الذى جاء به الاسلام , التناقض امر حتمي , كنت اتفهم المنهج الاستدلالى فى قضايا الاستنباط الفقهي وهو امر ضرورى لان امور الاحكام لا بد من الاحتكام فيها الى المصالح الاجتماعية وهي معرفة استدلالية واستنباطية  , والعقل متاثر بعصره ومجتمعه ويتجدد باستمرار والعقل الذى لا يتجدد من وقائع  الحياة وبالحياة يضمر ويهزل ويضعف , الثقة بالعقل منهج العقلاء ولا تقليد ولا تعصب , كنت اشجع المنهج العقلانى فى فهم الخطاب الشرعي عن طريق وسائل البحث المعتمدة من تحليل الخطاب وفهم مفرداته واستيعاب مقاصده بما يحقق المصالح الاجتماعية التى هي الغاية المرجوة ولا تجاوز لها ولا تجاهل لاهميتها , فكرة الايمان بالله تتنافى مع فكرة السببية التى تلغي فكرة الله , التصور الاسلامى يقوم على اساس الايمان بالله وان الله تعالى هو الخالق والعالم والمدبر ويعلم الكليات والجزئيات فى الكون , وان كل ما يكون هو بامره , ليست السببية منفصلة عن فكرة الايمان , فالله تعالى هو الذى جعل النار تحرق,  والله تعالى هو الذى جعل الحديد يتمدد فى النار , كل شيء فى الكون هو بامر الله , ولا يعنى هذا انتفاء الاسباب الظاهرة , بل ان ارادة الله تكون بالاسباب التى وضعها الله لكي تترتب عليها اثارها لا غياب للارادة فى الاسباب  , لقد واجه الامام الغزالى مقاومة من الفلاسفة ومن علماء الحديث والرواية وخصوم الصوفية  بسبب دفاعه عن التصوف العقلانى , وانكر الكثير من الانحرافات فى التربية الروحية كما انكر الشطحات والمبالغات فى المجاهدات الروحية , وقد انكر عليه  علماء الحديث استدلاله بكثير من الاحاديث الضعيفة وهم على حق في ذلك , وكان يجب عليه ان يتحرى ما يرويه ويتاكد منه , ولا عذر له فى ذلك , اما اتهامه بانه هو الذى تسبب فى تهافت الفلسفة فاقول بان الحصون القوية ذات الاعمدة القوة لا تسقط بهذه السرعة الا اذا كانت متهالكة من الاساس , فلا يمكن للغزالى ان يهدم المناهج العقلانية الا اذا كانت هشة ومتهالكة , ومن اهم اسباب تخلف الفلسفة  ان الفلاسفة المسلمين ومنهم ابن سينا وابن رشد والفارابي لم يستطيعوا ان يبنوا فلسفة اسلامية اصيلة ذات جذور اسلامية تتفق مع التوابت الاسلامية وتنطلق منها لبناء صرح فلسفة عميقة الجذور وليست منقولة عن فلاسفة الاغريق ..عوامل انحطاط المجتمعات ليس مجرد كتاب ناقد وانما هو بسبب اعتماد ثقافتنا على اقتباس افكار الاخرين مما يتناقض مع ما نحتاجه من فهم اصيل لمعنى الفلسفة كجهد عقلانى لنمو المعرفة التى يحتاجها مجتمعنا للنهوض ..

( الزيارات : 772 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *