محاضرة عن الادوار التاريخية للفقه الاسلامى

الأدوار التاريخية للفقه الإسلامي

محاضرة فى الاكاديمية الملكية المغربية  فى شهر ديسمب 2013

يسعدني أن أتحدث في هذه الجلسة في موضوع مهم جداً، هو الأدوار التاريخية للفقه الإسلامي.

هذا الموضوع من الموضوعات الشاقة التي تحتاج إلى اهتمام كبير بتطور علم الفقه من مرحلة النشأة إلى مرحلة التأسيس، ومرحلة الازدهار؛ ثم إلى العصر الحديث، وما يمكن أن يكون أيضاً في المستقبل.

لم أكتب هذا الموضوع لأنني أعرف أنه ، بسبب طبيعته، قد تكون القراءة فيه مملة. ولا يمكن أن يتتبع الجزئيات المرتبطة به.

 الموضوع شامل وواسع، سأحرص ألا أخوض في الفروع الجزئية المرتبطة بكل مشكلة من المشاكل.

هناك قضايا كثيرة جدا مرتبطة بهذا الموضوع، ولكن سأحاول أن أمر بها لأنني لابد أن أتكلم عن التطور التاريخي للفقه الإسلامي، كيف نشأ وكيف تطور وكيف توقف.

فهو ككل شيء يبدأ صغيراً، ثم يكبر، ثم يمر بمراحل قد تكون مرحلة توقف أو ركود.

هذا ما نعيشه نحن اليوم فيما يتعلق بالفقه الإسلامي، كشأن كل الحضارات، والثقافات. تمر ب مراحل، وأحياناً تتوقف.

كيف يمكننا نحن أن نستوعب هذه الدروس ونستفيد منها في هذا التطور. ما أسباب الازدهار؟ ما أسباب التوقف والركود والجمود؟

لابدّ أن هناك أشياء كثيرة. سأبدأ الحديث بتعريف الفقه. الفقه فيالغة هو الفهم “اللهم فقِّهْهُ في الدين” أي فقِّهْه، وفهِّمْهُ شؤون الدين.

كما نجد في الآية الكريمة ﴿لهم قلوب يفقهون بها﴾ أي يفهمون بها.

أصبحت كلمة الفقه الإسلامي يراد بها معنى خاص – ليس من باب الفهم بالمعنى اللغوي. الفهم في كل العلوم، ولكن مجموعة الأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة الإجمالية. فكل حكم اجتهادي نافذ، ومستنبط من النص، أو مستنبط عن طريق الرأي، ولكن بتأصيله، وارتباطه بالفقه عن طريق القياس – كل رأي في السابق أو في اللاحق، أو في ما يحدث في المستقبل. كل ذلك يعتبر فقهاً إسلامياً.

إذن مجموعة الأحكام الفرعية التفصيلية المستمدة من المصادر الإجمالية للفقه الإسلامي، مجموعة الأحكام، كل ما قاله العلماء على امتداد التاريخ، في كل المذاهب الإسلامية.

لا يمكن أن نقول هذا خارج نطاق الفقه طالما له تأصيل، حيث يمكن أن نقول خطأ أو صواب. لكن لا يمكننا أن نقول إنه ليس من ضمن الفقه الإسلامي.

لو أن أي إنسان اليوم قال رأياً، نحن اليوم في الأكاديمية، لو حاولنا الاجتهاد في أمر وكنا من أهل الاختصاص، سينضم هذا الرأي إلى الفقه الإسلامي. فالفقه الإسلامي لا حدود له.

كما هو الشأن في الفقه القانوني، فهو لا حدود له أيضاً. لا حدود لقدرات فهم الإنسان طالما هناك نص موجود، هناك عقل يستنبط، هناك خطاب، هناك مخاطَب يفهم النص. وهناك مخاطَب به. النص هو المخاطَب به.

ما دام الإنسان يتغير فإن الفهم يتغير. الأجيال ليست متكافئة. هي متكافئة في قدراتها لكنها ليست متماثلة في عطاءاتها.

هناك أجيال أعطت، وأجيال لم تستطع أن تعطي. وهذا هو السبب في كون عنصر الازدهار وعنصر الجمود والركود. الأجيال ليست متماثلة في عطائها.هناك أجيال عاشت عالة على الأجيال السابقة.

وهذا العصر الذي سنتحدث عنه. هو العصر الرابع من هذه العصور.

 إذن، الفقه مجموعة الأحكام التفصيلية الشرعية المستمدّة من المصادر الكلية.

ما الفرق بين كلمة الفقه والشريعة؟الفقه أضيق من كلمة الشريعة.

الشريعة قد يُراد بها الفقه أحيانا. نقول: هذا الحكم مستمد من الشريعة الإسلامية، بمعنى مستمَدّ من الفقه الإسلامي. وأحياناً نريد بكلمة “الشريعة” مجموعة العلوم الشرعية. فالتفسير والحديث هما من  علوم الشريعة.وأحياناً يراد ب “الشريعة” كل الأحكام الفقهية.

إذن علم التفسير ليس من الفقه، وإنما من مصادر الفقه. القرآن من مصادر الفقه. ليس هو الفقه، هو المصدر.

ماهي المصادر الكلية في هذا الفقه؟هي اثنان: نص ورأي.

وحي وإنسان، أو نقل وعقل، أو رواية ودراية. كلها معنى واحد.

رواية تقابلها الدراية أي الفهم، ونقل يقابله العقل، ونص يقابله الرأي.

كلها معنى واحد. هي مصادر الفقه.

فالنص هو الأساس في مصادر الفقه. لابد من النص. وهو الخطاب الإلهي. أو أن يرتبط ببيانه وهو السنة.

القرآن هو الأساس، والسنة البيانية، بيان للقرآن﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾هذا هو البيان.

الإنسان هو المخاطَب، والمخاطَب متجدد في قدراته، وفي ظروفه، وفي بيئته.

إذن، فهمه للخطاب لن يكون واحداً. ستتعدد المدارس الفقهية ما بين الالتزام بالنص كاملا، وما بين التوسّع في مجال الرأي. هذا ما حدث لتاريخ الفقه الإسلامي.

المراحل التاريخية في الفقه الإسلامي عرفت أحداثاً لا أريد الخوض فيها. هناك شكوك أثيرت حول الفقه الإسلامي، وهو أنه مستمد من القانون الروماني.

هناك فروق ناقشها العلماء، لا أود أن أخوض في هذا. ولكن العلماء أثبتوا أن هناك خلافاً كبيراً بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني من جوانب ثلاثة. في مصادره، وفي خصائصه وفي الطابع العام للفقه الإسلامي من حيث الرضائية والشكلية وأشياء كثيرة يختلف فيها القانون عن الفقه الإسلامي بالأخلاق.

ففيمؤتمر دولي عقد في لاهاي عام 1949 م ، حول قانون الفقه المقارن أقر بأن الفقه الإسلامي هو مصدر من مصادر الفقه العام. أو القانون العام. الذي ينبغي أن يأخذ في الاعتبار.

وفي هذا المؤتمر الدولي اعتراف كامل بأهمية الفقه الإسلامي كفقه مستقل متكامل. وهو أحد مصادر الفقه المقارن على مستوى الدراسات القانونية.

عمداء كليات الحقوق عام 1973 – 1974، أقروا بأن الطريق الوحيد للتقريب بين القوانين العربية هو أن يكون لها مصدر واحد يساعد هذه القوانين على إيجاد وحدة بينها من حيث المرجعية الإسلامية الفقهية.

–                 الأدوار التاريخية للفقه الأسلامي

الأدوار التاريخية خمسة وممكن أن تكون ستة.

–                 المرحلة الأولى مرحلة النشأة. وهي عصر النبوة، هذا العصر الأول هو عصر النشأة. أنا أعتبر أن له خصائص مختلفة عن الأدوار المختلفة.

العصر الثاني هو عصر التأسيس، وينقسم إلى قسمين.

المائة سنة الأولى من بعد الهجرة كانت لها خصائص. ومائة وخمسين سنة تالية وهي عصر ظهور الأئمة وله خصائصه.

وعصر واحد نسميه عصر النشأة.

 في هذا العصر، مائتان وخمسون سنة، من وفاة النبي ﷺ إلى عام مائة وخمسين سنة عن وفاة الأئمة الأربعة.

 السنة الثانية هو عصر له خصائص مختلفة عن خصائص العصر الأول والعصر اللاحق، هذا العصر التأسيسي للعصر الإسلامي.

العصر الثالث، وهو عصر التدوين الفقهي، ازدهار التدوين الفقهي، والمؤلفات والموسوعات الكبيرة التي ظهرت ما بين 250 هـ إلى عام 500 هـ.

كان أوسع الموسوعات الفقهية المعروفة اليوم مثل كتاب “الأم”للشافعي وكتاب “بدائع الصنائع” وكتاب “المبسوط” وكتاب “نهاية المحتاج”.

هذه الكتب التي تعتبر موسوعات كبيرة، وذات قيمة. كل واحد فيه عشر او عشرون مجلدا، الخ… كل الموسوعات الفقهية الكبيرة ظهرت في هذه الفترة فترة دامت ثلاث أو أربع مائة سنة، يختلف العلماء في تقسيمها. كان عصر ازدهار تدويني، لا حدود له.

كل الموسوعات – حتى لما كنا ندرس أطاريحالدكتوراه، لما يأتي باحث نقول له : «ينبغي أن ترجع إلى الكتب الأصيلة» لا يمكن أن يأتي الباحث ويقول قال الشافعي، ويستشهد من كتاب فقه المذاهب الأربعة. فالباحث يجب أن يرجع إلى كتاب معتَمد في المذهب. فإذا أراد أن يتحدث عن المذهب الحنبلي مثلا، سأقول له: ارجع لكتاب البوغني، أو في المذهب الظاهر، سأقول له ارجع إلى كتاب ابن حزم الخ…

الدور الرابع وهو أطول هذه العقود. وقد امتد من عام 600 هـ. إلى ما قبل 100 سنة. سبعة قرون تقريباً. وهو ما أسميه عصر التوقف.

بعض العلماء يسميه عصر الجمود أو الركود.

حدث جو من التقليد والتعصب المذهبي.

لم يعد هناك خروج من المذهب. وليس هناك جديد، كانت هناك أشياء جديدة مقابل هذا الركود في الشرق. وكان هناك ازدهار في الغرب الإسلامي. فقد ظهر أعلام كبار في هذا العصر من أمثال الشاطبي الذي ظهر في الغرب الإسلامي في هذه الفترة. في الأندلس والغرب الأندلسي ،هناك بدأت الحركة الفقهية متأخرة. كان الاعتماد الأول على الرواية أيام ابن وضاح. ثم بعد ذلك بدأت الدراية؛ وظهر أعلام مثل القاضي عياض وابن عبد البر. عدد كبير من أعلام كبار ظهروا في هذا العصر الذي كان فيه ركود وتوقف ولم يبق هناك إضافات.

إذن أصبح الرأي الفقهي الذي يخرج عن آراء السابقين يعتبر خروجاً على الأصل.

ابن تيمية خرج في هذه الفترة. كانت له آراء فقهية مهمّة جداً. واعتبرت آراؤه خروجاً أو خلافاً لما هو سائد في المذهب، حتى كانوا يقولون : مجتهد في إطار المذهب أو مجتهد مطلق.

ليس هناك مجتهد مطلق، أو مجتهد في إطار مذهب، مثل ابن رشد الذي خالف الإمام مالك في قضايا، في كتاب “بداية المجتهد” قال: لي اختياراتي. كانت له اختياراته، لم يخرج عن المذهب المالكي، ولكن كانت له آراء واختيارات.

لقد اشتغلنا على دكتوراه شارك فيها الدكتور محمد بنشريفة، حول موضوع “اختيارات ابن رشد الفقهية من خلال كتابه بداية المجتهد”، ونوقشت هذه الأطروحة في دار الحديث الحسنية.

هناك العصر الأخير. متى ابتدأ العصر الأخير؟ ولماذا سميناه خروجاً عن عصر التفريط؟

طبعاً يجب أن ننتظر زهاء مائة سنة حتى ندرك ان هناك تحولاً من حالة إلى حالة..

قبل مائة سنة عام 1895 م كانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها.وكان المذهب الحنفي هو المذهب السائد. لم يكن هناك خروجاً عن المذهب إطلاقاً. كان الخروج عن المذهبية خروج عن الدّين.

وقع تطور في مجال القضاء. دول أجنبية تدخلت لتنظيم القضاء في الدولة العثمانية.  أصدرت الدولة العثمانية مجلة “الأحكام العدلية”. أول قانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي. وفيه قرابة 1800 مبدأ. معظمها من الفقه الحنفي، إلا القليل الذي خرج عن هذا المذهب.

لكن أهمية هذه المجلة، هو أنها أصبحت قانوناً معتمَداً واستمرت 50 سنة. فقد انتهت الدولة العثمانية واستمرت هذه الأحكام في كثير من الدول مثل مصر وسوريا والعراق. فكانت هذه الأحكام هي السائدة. وتدرس في كلية الحقوق. وبعض الأساتذة المسيحيون كانوا يدرسون القانون المدني ويرجعون إلى الكتب الفقهية لأنها قانون، إلى أن تم استبدال هذه المجلة بالقانون الفرنسي.

في بداية هذا التحول واجهت هذه المرحلة الكثير من الصعوبات، إلى أن وقع إقرار بأن يكون هناك تقنين للمواد الفقهية. لأن اللغة الفقهية، هي غير اللغة القانونية.لأن اللغة القانونية لغة آمرة.

اللغة الفقهية مباينة. فيها بيان، وقد تقول بهذا الرأي أم ذاك أما اللغة القانونية فهي لغة ملزمة، ليس فيها اختيارات.

السعودية حتى اليوم، لا تقبل فكرة التقنين، ليس هناك قانون حتى من الفقه الإسلامي!

القضاء يأخذ من الفقه مباشرة. ولذلك يقع التناقض أحياناً بين محكمة ومحكمة لعدم وجود نص آمر واضح لا يمكن الخروج عنه، ويقول لا نقبل التقنين.

بيد أن التقنين عملية تنظيمية. وهو لا يعني الخروج عن الشريعة. التقنين هو إعادة صياغة الأحكام كما تقول “مدونة الأحوال الشخصية في المغرب”. فهي مستمدة من الفقه الإسلامي. ولكن بصيغة قانونية ملزمة.

هذه هي المرحلة الأخيرة. وأنا أعتبرها بداية تحول صدرت فيها مجلة الأحكام العدلية في عام 1916. وصدر أول قانون للأسرة، عن الدولة العثمانية في أواخر عهدها سمي بقانون العائلة. ثم بعد ذلك بدأت قوانين الأسرة موجودة في كل بلد، في المغرب، في مصر، في سوريا. فأصبح قانون الأسرة قانوناً مستمداً من الفقه الإسلامي ولكن فيه سعة.

فمجلة الأحكام العدلية أخذ عليها أنها كانت مغرقة في المذهبية التي كانت سائدة في تلك الفترة. لم يكن هناك خروج عن المذهب الحنفي، ولم يكن ممكن الخروج حتى على المذاهب الأربعة الموجودة إلا في نطاق ضيّق. وهذا ما أخذ عليها.

أخذ عليها كذلك بعض الجوانب في الصياغة القانونية.

هذه هي المرحلة الأخيرة، ولا زلنا نحن في هذه المرحلة. هناك نظرة للمستقبل. أعود إلى هذه المراحل الخمسة المختلفة التي عرضتها باختصار.

العصر الأول هو عصر النبوة، هذا العصر لم يكن فيه علم الفقه. هو عصر النشأة. فهو عصر المصادر. لم يكن فيه اجتهاد. العلماء اختلفوا في هل النبي ﷺ يجتهد أم لا ؟

الأشاعرة قالوا: لا يجتهد النبي. لأنه لا ينطق عن الهوى. عدد من العلماء الأخرين قالوا إن النبيﷺ يجتهد. ولو كان معصوما، فهو يجتهد. وقد اجتهد في بعض القضايا كقضية تربية النخل.

ولكن سواء كان اجتهاداً أم لاـكلام النبي ﷺ له صفة الالتزام لأنه بيان. فلا يقبل خصائص الاجتهاد القابل للخطأ والصواب. فهو بيان للقرآن.

فإذن، عصر النبوة من خصائصه أنه عصر لم يكن فيه فقه والقضايا الجديدة المستحدثة يُسأل عنها النبي ﷺ فيجيب، فإن أجاب اعتبرت الإجابة حكما نصياً آمراً.وإن سكت عنها اعتبر إقراراً بها.

نحن نعرف أن السنة قول أو فعل أو إقرار. فإذا أقر أمراً فكأنه أقره على ما عليه.

أنتقل من دائرة الاجتهاد إلى دائرة النص. هذه خصائص العصر الأول، عصر النبوة.

عندما ننتقل إلى العصر الثاني، وهو عصر الازدهار أو عصر تأسيس الفقه – عندما توفي النبي ﷺ بدأت قضايا جديدة كان لابد فيها من الاجتهاد.

أول قضية واجهت المسلمين هي قضية الخلافة.

كان لابد من إيجاد طريقة لاختيار خليفة لرسول الله ﷺ هذه هي القضية الأولى. وكانت أول مواجهة للرأي كيف نختار ؟ ماهي الكيفية لكي نختار خليفة رسول الله ؟

النقطة الثانية هي جمع القرآن. القرآن كان موزّعاً. كل كاتب من كتاب الوحي كان له مجموعة من كتاب القرآن. وكان لابد من جمع القرآن. وهنا أيضاً وقع الاختلاف في هذه القضية بين الصحابة.

هل يجمعون القرآن أم لا؟

قام أبو بكر بهذه المبادرة، وجمع القرآن. لكن بقيت نصوص موجودة لدى الصحابة، ولكن اعتمدت لجنة رباعية وجمع القرآن.

القضية الثالثة وهي قضية حروب الردة. بعض الذين ينتمون للإسلام ارتدوا عنه أو امتنعوا عن دفع الزكاة. هل نحاربهم أو نتفاوض معهم؟

أبو بكر يميل لمحاربتهم. هذا يحتاج إلى اجتهاد. واجتهاد الخليفة يكون ملزماً، ليس كاجتهاد الفقيه. الفقيه يجتهد ويبدي رأيه ليس في موطن الالتزام أما القاضي عندما يجتهد فهو في موطن القرار. الخليفة أيضاً عندما يجتهد فهو في موطن القرار لابد أن ينفذ.

التطور الأكبر الذي حدث في عصر عمر، قضايا فقهية صغيرة، لم يكن لها نص.كيف نواجه هذه القضايا؟

قضايا في الإرث وقضايا في القتل وقضايا في توزيع الأدوار وفي إلغاء الأمائم، وفي مؤلف الزكاة …الخ. قضايا جديدة لم تكن موجودة من قبل. كان لابد من الاجتهاد فيها.

عصر عمر كان من أفضل العصور. ويمكننا أن نقول أن عمرهو مؤسس الفقه الإسلامي، بمنظور واسع. يراعى فيه كثير من االأشياء،كالمقاصد التي نزل النص لأجلها. ويراعى المصالح الاجتماعية، مصالح الناس. وتراعى روح النص وماذا أراد النص.

ولهذا كان يتخطى في بعض الأحيان النصوص، لكي يجد حلولا ممكنة لقضايا وقعت في المجتمع الإسلامي. وكانت تقع فتن كبيرة في هذه القضايا.

ومن بين هذه القضايا قضية أراضي السواد.

ماهي أراضي السواد؟

أراضي العراق والشام عندما فتحت. قضية ما يسمى حكم الغنائم، في الشريعة الإسلامية أو في النص.

أربعة أخماس للغنائم والخمس للموزع!

وتطبق هذه على الأراضي وعلى المنقولات وعلى كل شيء.

عندما فتحت أراضي الشام والعراق، وكانت أراضي واسعة، جاء الغانمون وقالوا:«يا عمر، قسم علينا هذه الأراضي كما تقسم». فأجابهم عمر: هذا لا يمكن، فكيف تقسّم هذه الأراضي؟

أولا أين سيذهب سكان هذه الأراضي؟

سيخرجون ويعودون مقاتلين!

النقطة الثانية، أن من ستوزع عليه هذه الأراضي من الجيش، سوف يصبح ملاّكاً لهذه الأراضي، فسيتفكك الجيش ولن يعود هناك جيش مطلقا.

ومن أين سأمول هذه الجيوش؟

إذن هذا لا يمكن أن نطبقه. ورجع إلى نص القرآن، وبدأ يبحث عن نص يساعده على التوصل لحل.

جمع عشرة صحابة، خمسة مهاجرين، وخمسة أنصار وقال لهم أعطوني رأياً. أنا لا يمكن أن أقسم الأراضي على الغانمين.

وهؤلاء قالوا إذا لم يقسم سوف نقاتل بالسيف، ولكنه رفض. حتى وجد في النص ما يساعده وقال:«الغنائم تكون في المنقولات وليس في الأراضي. هذه الأراضي تبقى بيد أصحابها، ولا يخرجون منها، ويدفعون عنها». وهذا ما أدّى إلى دخول أراضي الشام والعراق وشعوبها يدفعون الخراج والجزية عن الرؤوس.

لو أن عمر أخرجهم وطردهم ووزعهم كما فعل في أرض خيبر… لكن عمر رفض ذلك.

هذه أهم قضية مرت في عصر عمر.

القضية الثانية، قضية المؤلفة قلوبهم.

جاؤوا لعمر وقالوا له: أعطينا من أموال الزكاة.

قال لا أبدا، الرسول ﷺ مع نص القرآن هم من يأخذون من أموال الزكاة، هم لا يدخلون في الإسلام ولكن يعطى لهم مالا من أموال الزكاة.

قال: لا، كنا ضعافا ودفعنا لكم لكي نستميلكم. أما الآن إما أن تكونوا مسلمين وإما أن تكونوا غير مسلمين، ولا حصة لكم في أموال الزكاة.

 طبعاً كان عمر يشعر بالقوة ولم يعطهم زكاة.

القضية الثالثة: قضية الإرث. الجد ليس له حكم في الآيات، آيات المواريث.

عمر قال لهم: الجد يأخذ حق الأب. ما يأخذه الأب يأخذه الجد.

عندما يغيب الأب، الجد يأخذ حكمه. هذا اجتهادا، قضية أكبر من هذه وهي ما يسمى القضية الغمرية.

الغمرية أو الغمريّة وهي قضية في الإرث. ماهي هذه؟

سيّدة توفيت، تركت زوجاً، أباً وأماً، وليس هناك أولاد. كيف نوزع الإرث عليهم؟

القاعدة هنا في توزيع الإرث: الزوج سيأخذ النصف. الأم ستأخذ الثلث.

كم سيبقى؟ المسألة تكون هنا من ستة. أي أن توزيع الأسهم ستة.

بقي واحد، الأم أحذت اثنين، الأب أخذ واحداً، فقال عمر: لا يمكن هذا، فنحن ما أعطيناه حتى يأخذ نصف حصة الأم، فإذا كانت المسألة على ستة، إذن الزوج سيأخذ ثلاثة بالفريضة. والسدس (اثنين للأم.

إذن بقي واحد، إذن الأب أخذ نصف الإرث.

قال: لا أبداً.  سيأخذ الأب والأم السدس الباقي. يأخذ الزوج الثلث والثلث الباقي نعطيه للأم واحد. والثاني للأب

هذا يعتبر خروجاً عن القاعدة المعروفة.

قضية أخرى، هي قضية قتل الجماعة لواحد.وقعت هذه الحادثة في اليمن. مجموعة من الناس هجموا على شخص وقتلوه.

فجاؤوا إلى عمر وقالوا ماذا نفعل؟

قال عمر يقتلون جميعاً. والله لو اجتمع أهل صنعاء جميعاً على قتل رجل لقتلهم.

وفي الفقه القصاص هو المساواة. كيف أقتل عشرة بواحد؟

ففي هذه الجريمة كما أجمعت مجموعة على قتل شخص واحد، فكلهم مسؤولون. والقصاص سيأخذ من الجميع.

هذه قضايا في عصر عمر. ونلاحظ في ظاهرها خروجاً عن النص القرآني.

في حقيقة الأمر هي ليست خروجاً عن النص. بل هو فهم لحقيقة النص.

كما هو أيضاً موضوع قضع الأيدي في حالة سرقة.

فلما كانت هناك مجاعة، قال عمر «الذين يسرقون في أيام المجاعة ليسوا لصوصاً. هؤلاء لا أقطع يدهم ولا أعتبرهم مجرمين لأن هؤلاء دفعهم الجوع إلى السرقة». هذا يبدو أيضاً خروجاً على ظاهر النص. وفي الحقيقة هو تحقيق لغاية من غايات النص.

فعندما قلت مقاصد الدين، مقاصد الشريعة، فهذه مراعاة المصالح الاجتماعية.

النقطة الثالثة فهم روح النص.

النص لا يفهم بطريقة جامدة. هذا منهج عمر.

وهو في الحقيقة لم يدرس بطريقة جيدة.

عمر يحتاج إلى دراسة هذا المنهج في الفهم.

كيف نتعامل مع النص بنوع من السعة، بنوع من الفهم، هذه هي غاية النص.

فالغاية ليست أن نأخذ النص ونطبقه بغض النظر عن غايته، بدأت بعد عصر عمر قضايا كثيرة.

هنا سنجد أن الحركة الفقهية بدأت عملية ظهور آراء فقهية.

هذا هو الحوار الذي بدأ يدور في المجتمع الإسلامي في قضايا بين مختلف أطراف المجتمع، قضايا جديدة لم تكن موجودة تؤدي إلى أسلوب جيد في الفهم.

طبعاً جاء عصر التابعين وبدأت المدارس الفقهية، بدأ تكون اتجاهات فقهية مختلفة.

اتجاه تغلب عليه الرواية. والتمسك بالرواية وعدم الخروج عن الرواية.

وفريق آخر يوسع دائرة الرأي والعقل، بدأ هذا منذ بداية الأمر.

بدأ يتطور لمدة 30 عاماً والحركة الفقهية تأخذ هذا المنحى.

تكونت مدارس، المدرسة الأولى هي المدرسة الحجازية التي ظهرت بعد 200 سنة، فقد جاء الإمام مالك، وأرسى دعائم هذه المدرسة التي تسمى المدرسة الحجازية.

بعد 150 سنة أو أقل، جاء أبو حنيفة في العراق وأرسى دعائم مدرسة الرأي في العراق.

100 سنة من التطور. ماذا حدث خلال المائة سنة الأولى؟ لم يكن هناك تدوين فقهي إطلاقاً. لم يكن هناك كتاب فقهي، فلم يكن هناك تدوين للحديث أصلاً. هناك تدوين بسيط للقضايا الفقهية تسمّى مسائل.

لم يكن هناك تدوين للحديث لأن النبي ﷺ نهى عن تدوين الحديث وكتابته. «لا تكتبوا عني غير القرآن».

فيبقى المجتمع الإسلامي يخشى من الكتابة. لما أمرهم النبي ﷺ ألا يكتبوا غير القرآن، كان ذلك لكيلا تختلط الكتابة بالقرآن. أن يختلط نص الحديث بالقرآن. لكن هذه المشكلة انتهت.

لما جاء عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الثاني وجد أنه اختلط الحديث الصحيح بغير الصحيح. أصبحت عشرات الآلاف من الأحاديث، ولا نعرف إن كانت صحيحة أم لا. وبخاصة عندما وقعت الفتن وأصبح كل واحد يقول “قال الرسول…” وانتهت المشكلة. ويروي مباشرة في الإسرائيليات عن ابن عياد أو يروي عن أحد الصحابة الذين اشتهروا بالرواية.

في نهاية القرن الأول جاء عمر بن عبد العزيز وأمر الامام الزهري لأول مرة بتدوين الحديث، وهذه أول مرحلة من مراحل التدوين.

لما قام الإمام الزهري بتدوين الحديث، لم يكن هناك الإمام مالك. فهذا الأخير جاء بعد 100 سنة. بدأ الزهري يدون ولكن كيف يدون؟

الأحاديث لم تكن تعرف هل هي صحيحة أم لا.

إذن لابدّ من البحث عن منهج جديد في التأكد من هذه الرواية.

عندما يقول: “قال رسول الله” يسأله من أين سمعتهذا؟ سيجيب سمعناه من شيخي فلان رواه، وشيخي سمعه من الشيخ فلان.

إذن علي أن أبحث عن الشخص الذي روى أولا، أن أبحث عمن يروي، وهل اجتمع معه. إلى أن يصل الحديث. وأن أتأكد من أمرين: العدالة والضبط. العدالة في الراوي، فعندما يقول لي فلان، أعرف إذا كان صادقاً أم غير صادق، وأعرف هل هو قادر على ضبط ما يروي أم لا.

 فيمكنه أن يكون رجلا تقياً وصالحاً لكنه لا يُحسن الرواية. إذن لابد من ضبط أمرين العدالة والضبط. مثلا جاء شخص وروى لي حديثاً وقال أنا سمعته من الشيخ المختار السوسي، والمختار السوسي سمعه من شيخه. إذن أنا علي أن أبحث عن الشيخ حسين كذا كذا. ماهي سمعته؟ هل التقى بالشيخ المختار السوسي أم لميلتق؟ وهذه نقطة مهمة أيضاً.

ثانيا سمعته، ماذا يقول الناس عنه؟ أسجل كل هذا وأقول في النهاية عادل.

روي عن الشيخ المختار السوسي كذا… والشيخ روى عن شيخه وهكذا نبتدئ بالسند الذي روى الحديث إلى الثاني والثالث…الخ

هذه العملية كلفت 100 عام من الجهد الكبير إلى أن جاء الإمام البخاري وأقامها على أسس صحيحة، كانت بدايتها 10سنوات من الجهد الكبير لكي نتأكد 10 في المائة ممن قال هذه الرواية. يأتي فلان بعد أربعة أجيال أو خمسة، ويقول قال فلان عن فلان عن فلان…الخ. إذن يجب عليناأن نتأكد من كل هذا السند ونتأكد من التواصل فيما بينهم. ونتأكد ألا يكون هناك جرح. وهذا ما يسمى علم الجرح والتعديل. إذا قلنا ان هذا الراوي معروف بالكذبوألا نأخذ به. إذا حدث انقطاع، مثلا الشيخ حسين روى عن شخص لم يلتق به. يعني ولد بعد الأول إذن وقع انقطاع.

لابدّ إذن أن يكون السند المتصل من فلان عن فلان إلى رسول الله ﷺ.

فإذن بدأ علم الجرج والتعديل. لم يدون. بل بدأ كثقافة لدى أهل الاختصاص يتناقلون هذه الأخبار، فلان عن فلان الخ… يعتمدون على الحفظ. لم تكن هناك مدونات.

 في القضايا الفقهية، بدأ أيضاً التفكير في كيف نستنبط.

عندما يأتي عمر ويجتهدـ يقول عمر من أين جئت بهذا النص؟ يقول جئت به من القرآن. نعود نحن ونقرأ القرآن ونرى هذا النص. قد يأتي لنا نص آخر ويناقض هذا الاجتهاد.

إذن علينا أن نأخذ بوجهة النظر هذه أو بنقيضها.

هنا بدأ تكوين خطين أحدهما في العراق والثاني في الحجاز.

كانت طبيعة الحياة في الحجاز ميسّرة، على نفس ما كان عليه الأمر في عهد النبي ﷺ لذلك لما جاء الإمام مالك قال نعتمد على عمل أهل المدينة. وهكذا بدأ العمل في الفقه المالكي.

ما جرى عليه العمل في المدينة هو حجة. علماء العراق قالوا: نحن لنا قضايا ليست موجودة في المدينة.

هناك قضايا في القيم وفي المعاملات ليست موجودة في المدينة ولابدّ أن نجتهد فيها.

والحديث كان يصل إلى العراق مكذوباً.

في الحجاز ما كان يمكن أن يقع ذلك لكثرة الرواة.

لكن في العراق من سيقولإن هذا الحديث ليس صحيحاً؟ لا أحد. فكثر الوضع في العراق إلى درجة كبيرة.

جاء أبو حنيفة (توفي عام 150 هـ) معنى ذلك أنه عاش في مرحلة الفتنة، سقوط الدولة الأموية، وخروج الدولة العباسية. أبو حنيفة كان تاجراً. ووجد أن المعاملات التجارية تطورت في العراق، وظهرت قضايا جديدة. ومستحدثة حتى في موضوع البيع وفي موضوع العلاقات والأعراف.

كان لابد من وضع قاعدة قياسية، وهو أن تعتمد على الرأي حتى الرأي أفضل من رأي الأحاد.

بمعنى إن كان عندنا رأي أحاد أو رأي في حديث لا نعرف مدى صحته، نأخذ بالرأي القياس. فالقياس على الأقل يعتبر دليلا ظنياً ليس يقينياً – ولكن هو أقرب مما نأخذ بحديث لا أصل له.

بدأت معالم هذه المدرسة، التي بدأها عبد الله بن مسعود في العراق. ثم انتقلت إلى أن وصلت إلى أبي حنيفة. أبو حنيفة كان تاجراً ومن أصول فارسية. ولكنه كان موهوباً في الأقيسة العقلية.

ولهذا نجد البعض من تلاميذه كانوا أعلم منه في الفقه وأكثر منه معرفة به، كالإمام محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف. وكتبوا كتباً في هذا الميدان.

أبو حنيفة لم يكتب شيئاً، كانت هناك كتب لتلاميذه الذين كانوا أكثر منه قدة على فهم وإضافة الكثير من الآراء. إنما كانت لأبي حنيفة موهبة في الاستنباط، وهو القياس. ماهو القياس ؟أي إلحاق الفروع بالأصول.

القياس يتطلب أشياء أربعة: وجود أصل ووجود فرع. الأصل هو الذي ورد فيه النص. الفرع لم يرد فيه النص. نحن نبحث على الحكم، إذن يجب أن نعرف علة الحكم. إذا عرفنا علة الحكم في الأصل، نستطيع أن نقيس عليه.

مثلا يطلب منك الطبيب ألا تأخذ كوكا كولا. تسأل نفسك لماذا ؟ هل لأن فيها سكر أم لأنها سائل ؟ فإذا قال الطبيب لأنها سائل، فسوف تأخذها لأن السوائل غير مضرة. أما إذا قال لأن فيها سكراً فهذا شيء آخر. وكل ما فيه سكر ينطبق عليه الحكم وإن لم يكن سائلا.

 هذا مبدأ القياس. أن أقيس الفروع الجديدة على الأصول عندما تكون العلة واحدة.

هذا هو الرأي.

هنا بدأت مدرسة العراق. واضطرت هذه المدرسة أن تترك الحديث. ليس الحديث الصحيح، ولكن الحديث الذي كان منتشراً في تلك الفترة لم يكن موثقاً.

توفي أبو حنيفة عام 150 هـ، والإمام مالك بعد 30 سنة، عام 179 هـ،. إذن مالك ردّ على أبي حنيفة وقال له: كيف تترك الحديث وأنت تستعمل القياس. الحديث هو موضوعي وأنا عالم الحديث وعالم المدينة.

إذن الإمام مالك أخذ خطاً مواجهاً لأبي حنيفة، وكتب أول كتاب في الفقه الإسلامي هو كتاب “الموطأ”، هو أول مدونة فقهية. قبله لم تكن هناك كتب إطلاقاً. كان ينسب إلى الإمام زيد كتاباً اسمه “المجموع” ولكنه ليس موثوقاً أنه له.

إذن أول كتاب موثق في الفقه الحديث هو “الموطأ”. وضعه الإمام مالك قبل عام 179، أي في حياته. وأراد به أن يثبت لأبي حنيفة أو علماء المدرسة العراقية بأن الحديث يستوعب كل القضايا التي يحتاج إليها الإنسان.

ورتب الموطأ على أساس الترتيب الفقهي وفقاً للأحكام، أحكام الصلاة، أحكام الزكاة، أحكام العبادات …الخ، الترتيب الفقهي ليؤكد أن الفقه والرواية تغني عن القياس.

ظهر الإمام الشافعي، (توفي الإمام الشافعي عام 240 م )أي 25 سنة من وفاة الإمام مالك. كان تلميذاً لمالك وملتزما مع مالك. نقل الإمام الشافعي بتهمة سياسية إلى العراق، بتهمة الانتساب لآل البيت. وأخذ معتقلا إلى العراق. فتشفع له الإمام محمد الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وشهد له شهادة خرج منها وبقي يلتقي بعلماء العراق، يسمع منهم كيف يفكرون في القضايا الفقهية.

الإمام الشافعي تربى على يد الإمام مالك في الأخذ بالحديث. وكان عالماً بالحديث، ولكنه سمع من رواد المدرسة العراقية منهاجها في القياس. وخالف الإمام مالك في كثير من القضايا التي أخذ بها الأمام مالك. وبدأ يجمع ما بين الحديث وما بين العقل. ما بين الرأي أو القياس.

أوجد مدرسة وسيطة بين الخطين اشتهرت بالوسطية، حافظت على الحديث، وتوسعت في مجال الرأي.

هذا هو منهج الإمام الشافعي.

قام بعمل أكبر بكثير من هذا، ولأول مرة، وهذا نوع من الإبداع لدى الإمام الشافعي. كان من العلماء الكبار ويتميّز بعقلية. كيف كتب كتاب سماه ‘الرسالة”، ما أهمية هذا الكتاب؟

هو أول كتاب في أصول علم الفقه.

أصول الفقه ليست هي الفقه. أصول الفقه هي القواعد المتبعة في استنباط الأحكام الفقهية.كيف استنبط، وماهي الطريقة التي استنبط بها.

وكما نقول اليوم: هناك قانون وهناك أصول المرافعات، كيف تتقاضى، وكيف تصل إلى حكم ؟

أصول الفقه هو العلم الذي يوصلك إلى كيفية استنباط الحكم ليس الحكم، بمعنى يجب أن تبحث في قضايا ثلاث في أصول الفقه:

–                 تبحث في الخطاب

–                 تبحث في المخاطب

–                 تبحث في المخاطب به.

او الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم به.

الحاكم : هذا النص من أين جاء، هذا قرآن، هذه سنة.

المحكوم عليه: من هو ؟ هو إنسان مكلف؟ والجنين تثبت له حقوق مستقلة ويرث بعد ولادته. إذن له وجود.

الجنين في بطن أمه هل هو مكلف أم لا ؟ يجب أن نبحث إذا كان له وجود الخ…

هذه ضوابط الفقه.

النقطة الثالثة في هذه الأصول وهو المحكوم به، وهو الحكم، كيف تستنبط الحكم ؟ كيف عرفت أن الصلاة واجب ﴿وأقيموا الصلاة﴾

هذا أمر، والقاعدة الأصولية تقول: “الأمر يفيد الوجوب”، كل أمر يفيد الوجوب.

إذن إذا قال القانون افعل هذا، فهذا يفيد الوجوب إلا إذا أقام دليلا على عدم الوجوب.

والنهي، يفيد الوجوب بالتحريم، إلا إذا قام دليل على خلاف ذلك.

وإذا اجتمع الخطاب عاما وخاصاً، كيف تفعل؟ هل تقدم العام أم الخاص؟ تقدم الخاص.

إذا قلت لطلابي : اكتبوا – أي كل الطلاب عليهم أن يكتبوا، وإن قلت يا فلان أنت لا تكتب، هذا خاص.

إذن هذا خطاب خاص له ألا يكتب. فهو خرج عن دائرة العموم.

ولذلك الاستثناء يكون أحياناً بالصفة. البالغون العاقلون، البالغون الساكنون في الرباط. هذا خطاب يخصص. هذه دلالة الألفاظ.

وأول من كتب هذا العلم في كتابه “الرسالة”، هو الإمام الشافعي. وكان مبدعاً في هذا الكتاب. أثبت فيه كل القواعد التي اعتمدها.

كان في الماضي الكل يجتهد بغير قواعد.

كانت قواعد منطقية ولكن لم تكن مدونة.

أول عملية قام بها الإمام الشافعي أنه قام بتدوين هذه القواعد التي كان يفكر فيها.

في قضية الإجماع كان يقال إجماع أهل “المدينة”، الإمام الشافعي قال هذا لا يمكن. يجب أن يكون إجماع المسلمين جميعاً، ليس فقط إجماع أهل المدينة.

وطبعاً بدأت اختلافات في المصطلحات والمفاهيم وفي قضايا كثيرة.

هنا بدأت المرحلة الثانية. في نهاية هذه المرحلة، أي ظهور الأئمة، ظهر الأمام أحمد وهو تلميذ الإمام الشافعي.

الإمام أحمد كان مُحدِّثاً أكثر منه فقيها. لم يترك منهجاً واضحاً. اشتهر بالمحنة التي مرّ بها وهي خلق القرآن.

كانت له قاعدة وهي : لا نضيف شيئاً في العبادات ولا نحرم شيئاً في العبادات ولا نسند حكماً في العبادات ليس موجوداً. وهذا منهج السلفية اليوم.

في العبادات لا نضيف شيئاً وفي المعاملات كل شيء مباح إلا ما قام الدليل عليه. هذا معنى صحيح. فالأصل في الأشياء الإباحة.

أبو يوسف كتب كتاب الخراج. وهو أول كتاب يكتب في قضايا المالية. ثم الكتب الستة للإمام محمد الحسن الشيباني التي هي أصل لكتاب “المبسوط” وكتاب “بدائع الصنائع”.

بدأ عصر الأئمة، العصر السالف، بعد عام 205 هـ، بدأ عصر ما سميته الازدهار التدويني، بدأت فيه عملية التدوين بغير حدود. حركة قوية جداً. فأصبحنا نجد مئات الكتب في كل العلوم المختلفة، وكتباً أصيلة في كل المذاهب ابتداء من مذهب مالك، مذهب أبو حنيفة، مذهب الشافعي، في كتب علم الأصول، في كل شيء.

أصبحت هناك موسوعات في علم الحديث وفي التفسير، موسوعات لا حدود لها.

 ظهر مثلا تفسير الطبري الذي يعتبر من أهم كتب التفسير وبعد ذلك تفاسير أخرى. في علم الحديث بدأ الإمام البخاري ثم الكتب الستة المعروفة (الصحاح الستة) وتفاسيرها وشروحها. وتطورت هذه البحوث إلى درجة كبيرة.

 هذه البحوث خدمت آراء الأئمة، علماء المذاهب والأئمة لم تنجب علماء آخرين. كان هناك علماء لا يقلون عن العلماء السابقين. ولكن لم يتركوا منهجاً متميّزاً كما تركه الأئمة.

كانت هناك مذاهب أخرى غير سنية.

جعفر الصادق ترك تراثاً كبيراً. فالمذهب الجعفري اليوم له شأن كبير.

كان هناك المذهب الزيدي الموجود اليوم في اليمن.

كان هناك منهج الخوارج الموجود اليوم في عمان.

كان هناك منهج ظهر متأخراً للإمام الظاهري في مصر في كتابه “المحلل”

عشرات العلماء الكبار الذين لم يُخدم فقههم، بالإضافة إلى هؤلاء الذين خدم فقههم. الإمام مالك خدم فقهه في بلاد الأندلس والمغرب وبلاد الغرب الإسلامي كله. خدم فقهه بطريقة كبيرة جداً.

مذهب الحنفي خُدم في أيام الدولة العباسية وأيام الدولة العثمانية، وظهرت مئات الكتب.

المذهب الشافعي حتى اليوم، خُدم خدمة كبيرة جداً.

الإمام أحمد يُخدم الآن. ربما السعودية اليوم تحاول أن تخدم الفقه الحنبلي عن طريق كتابات ابن تيمية. وهو أبرز من ظهر في هذا.

هناك كتاب مهم جدا في مذهب الفقه الحنبلي وهو كتاب “المغني” هو أقرب ما يكون لفقه المقارنة. فهو يتحدث عن آراء الفقهاء في القضية الواحدة. هذا هو العصر الثاني.

وإذا انتقلنا إلى العصر الثالث عصر الموسوعات العلمية في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي الأصول.

بدأت عشرات الكتب. هنا حدث بالنسبة لهذا العصر ثلاث خصائص بالنسبة للقرآن. وثلاث خصائص بالنسبة للسنة وثلاث خصائص بالنسبة للفقه.

ماهي الخصائص الثلاثة المتعلقىةبالقرآن في هذه العصور.

–                 النقطة الأولى : جمع القرآن

–                 النقطة الثانية : التنقيط والشكل والتجويد

–                 النقطة الثالثة : ظهور علوم القرآن والتفسير.

الفراهيدي كان مبدعاً في عملية التنقيط. فلم يكن هناك تنقيط، ووقع التباس كبير. وكان هناك موضوع الشكل لم يكن هناك شكل مثل قضية العروض وقواعد النحو.طبعاً تطورت علوم النحو في هذا العصر.

 بالنسبة للحديث أيضاً أشياء ثلاثة :

–                 تدوين الحديث أولا

–                 ظهور علم مصطلح الحديث كعلم مستقل لا سابق له. وهو علم الرجال أو علم الجرح والتعديل.

–                 النقطة الثالثة، ظهور كتب الصحاح والموسوعات الحديثة.

بالنسبة للفقه ظهرت أيضاً أشياء ثلاثة :

–                 النقطة الأولى : تدوين الفقه

–                 النقطة الثانية : ظهور علم أصول الفقه، وهو علم جديد

–                 النقطة الثالثة : ظهور الموسوعات الفقهية.

ننتقل إلى المرحلة الرابعة وهي العصر الذي جاء بعد ذلك، عصر الركود.

عصر تقليد ظهر فيه التقليد والتعصب المذهبي.

التقليد، بمعنى أي أنه لم يعد هناك اجتهاد، أغلق اباب الاجتهاد.

لماذا ؟ لأن المجتمع تخلف.

تدخل الأنظمة في القضاء أخاف الناس من الاجتهاد. كان الحاكم يأتي ويقول اجتهد في هذه القضية. إذا أراد أن يأخذ أموال الناس يأمر الفقهاء بالاجتهاد في ذلك.

فقرر العلماء إغلاق باب الاجتهاد.  وحدث ذلك.

بدأ الانكباب على الفقه المذهبي المدون. إما أن تكتب متناً له، تشرح هذا المتن ثم تكتب عليه حاشية. نقول مثلا هذا متن الأجروميّة في النحو من عشرين صفحة. يأتي شخص ويقول هذا شرح الأجرومية.

يأتي آخر ويقول هذا شرح حاشية الأجرومية. ثم يعود رابع ويكتب تعليقات فلان على هذا الكتاب. لم تعد هناك إضافة.

ففي إطار المذهب خدمة الكتاب، كان هناك منهج تقليدي. لم يكن هناك أحد يخالف شيخ المذهب أو يراجع في المذهب، مهما كان عالما. فقد ينظر إليه بازدراء كبير كأنه خرج عن المذهب وعن الإسلام.

فأصبح هناك تعصب من المذاهب.

الشافعي ينظر إلى الحنفي نظرة ازدراء، والمالكي ينظر إلى الحنفي نظرة ازدراء وهكذا. أصبح نوع من المذهبية وكل مذهب يرفض المذهب الآخر. بل يقع أحيانا صراع بين اتباع المذاهب وكأنه هو الخصم الكبير.

أصبح نوع من التعصب المذهبي. وهنا لا نتكلم عن السنة والشيعة، فحتى في المذاهب السنية كان تعصب مذهبي، وانخراط في دائرة المتون والشروح وكذا. لم يعد هناك شيء جديد إلا اجتهادات بسيطة لا تمس الأصول.

أصبح التقليد هو المنهج المقرر. وامتد ذلك لمدة طويلة جداً 70 سنة. ونحن في هذا المنهج.

لم تكن هناك إضافات، هناك كتب ظهرت ولكن هذه الكتب لا تحمل جديداً. هي تقرير لما هو موجود. إلى أن جاءت الدولة العثمانية وبدأت في عملية قانون الأحوال الشخصية. قانون المجلة.

عندما صدر قانون المجلة، كانت أاول مرحلة أنه بدأنا ننتقل من مرحلة ركود إلى مرحلة فتح باب الاجتهاد. نخرج من الإطار المذهبي.

خلال المائة سنة الماضية، ظهرت بحوث قيمة.

بدا الفقه الجديد، والخروج من الفقه المقارن إلى فقه جديد اليوم مدونة الأسرة في المغرب تستمد أحكامها من كل المذاهب الفقهية. لم يعد المذهب المالكي هو الأصل ولكن يمكنها أن تأخذ من أفكار المذاهب الفقهية الأخرى.

وأحياناً قد تستحدث حكما جديداً لم يكن موجوداً.

النقطة الثانية : أسلوب الكتابة في الفقه اليوم تغير. كان أسلوب الكتابة الفقهية فيه شيء من الضغط الكبير. يعني لما تقرأ النص تجد صعوبة كبيرة كي تفهم النص اليوم أصبحت الكتابة الفقهية ميسرة. فأصبحت تقرأ الكتاب الفقهي مثلما تقرأ الكتاب الأدبي.

أما في الماضي كنت تقرأ سطرين وتحتاج إلى ساعة كاملة لكي تفك ألغاز الكتابة الفقهية.

فقديماً كان الأستاذ يشرح النص الفقهي كلمة كلمة وليس كموضوع. اليوم لما تقرأ كتابة فقهية تجد أسلوباً راقياً، أدبياً جميلا، وكذلك استفادوا كثيراً من الكلمات القانونية التي لم تكن في الماضي. نقول استعمال حق التعسف الخ. لم تكن كلمة حق موجودة في الفقه الإسلامي.

إذن أخذت بعض الألفاظ من القانون، فقد استفاد العلماء من المناهج القانونية في تطوير الفقه الإسلامي.

ظهرت موسوعات فقهية لأول مرة في مجلات صدرت في الكويت منذ سنوات. وهذا مجهود كبير. وقد أخذت من المذاهب الأربعة.

أصبحت هناك مؤتمرات مختصة في علوم مرتبطة بالفقه الإسلامي، عن الاقتصاد الإسلامي، وعن العقوبات فأصبحت الدراسات اليوم تأخذ جانباً منهجياً. لم نعد نسمع موضوع الفقه الإسلامي. فالفقه الإسلامي فيه موضوعات يمكن أن نقارن بين النظام السياسي والنظام الجنائي الخ….

أصبح فيه نوع من التخصص. فالعالم أصبح إما متخصصاً في نوع أو آخر من مواضيع الفقه الحديث.

تطور الفقه الإسلامي، مازالت قضية الاجتهاد خجولة، فالأنظمة تتهيب من الفقهاء وخصوصاً الأعوام يغلب عليهم التقليد.

لكن قوانين الأسرة استطاعت أن تستفيد من الإسلام ككل.

في عام 1979 اقترحت على جلالة الملك موضوعاً كنت قد ناقشته في دروسي الحسنية اقترحت فيه إنشاء مجمع فقهي إسلامي، تطرح فيه قضايا الإسلام. وفعلا جلالة الملك اهتم بهذه الفكرة وقرر إنشاء مجمع فقهي إسلامي في ذلك العام وأعلن عنه وكان ممكناً أن يكون ثمة مؤتمر القمة تبناه وأنشأ المجمع بعد عشرين سنة ولكن ليس بالصورة التي كنت أتمنى أن تكون.أخذ يدرس بعض القضايا ولكن لا يضيف شيئاً. الفقه الإسلامي ما كان وما سوف يكون.

كل جهد نبذله في الفقه الإسلامي سيضاف إلى هذا الفقه وطالما أن الحياة الاجتماعية تتطور فالفقه الإسلامي يتطور مع الحياة الاجتماعية ويعطي حلولا مناسبة لقضايا الناس.

لا يمكن أن أعيش مشكلة اليوم وأبحث عنها في كتاب كتب قبل 500 أو 700 سنة.

لقد كانت لهم قضاياهم. ويناقشون قضاياهم من منطلق واقعهم.

نحن اليوم أمام قضايا جديدة لها طبيعة مختلفة. ولهذا، فالفقه المالكي كان واسعاً فيما يسمى النوازل.

فقه النوازل كان يعبر عن حاجات اجتماعية مختلفة أو ما يسمى فقه العمل. العمل الرباطي والعمل الفاسي والعملالسوسي والعمل الأندلسي.

فهذا يعبر عن حاجة المجتمع لقضايا قد تكون مستجدة ، لها ظروفها ولها أحوالها.

هذا موضوع من الموضوعات التي تحتاج إلى دراسة.

لكي نفهم الفقه الإسلامي لابد ان ندرس تاريخ الفقه الإسلامي كيف بدأ، كيف تطور، عوامل الازدهار، عوامل الجمود والتوقف. لكي نستفيد منها في إظهار منهج جديد، نستطيع به أن نواكب حركة التاريخ ومسيرة الإنسان في مناقشة قضايانا الفقهية، التي لا نستطيع أن نستغني عنها. سواء في مجال الأسرة أو في مجال المالية، أو في مجال الحكم وكل المجالات الفقهية المختلفة.

أشعر بسعادة كبيرة وأنا أقدم هذا البحث.وأعتذر لأنني أطلت كثيراً. ولكن حاولت الاختصار بقدر الإمكان. أرجو أن يكون الموضوع واضحاً، واستطعت أن أوضح مواضيعه بطريقة مبسطة.

( الزيارات : 2٬409 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *