محاضرة عن مفهوم الدولة عند ابن خلدون

مفهوم الدولة عند ابن خلدون

محاضرة عن مفهوم الدولة عند ابن خلدون  القيت فى الاكاديمية الملكية المغربية فى الرباط فى اواخر سنة 2013 وتمت امناقشتها من اعضاء الاكادية 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يسعدني أن أتحدث في هذه الجلسة عن موضوع مهم جدا، أهم ما تحدث عنه ابن خلدون، وهو موضوع الدولة، قيام الدولة، سقوط الدولة، شباب الدولة، هرم الدولة، كيف تقوم الدولة؟

كتب ابن خلدون “التاريخ” وقدم لهذا التاريخ بمقدمة طويلة سماها “مقدمة ابن خلدون”.

اشتهرت “المقدمة” أكثر مما اشتهر “التاريخ”، ومازال العلماء منذ عهد ابن خلدون حتى اليوم يتحدثون عن “المقدمة” وما تضمنته من أفكار في علم الاجتماع الإنساني.

ماذا أراد ابن خلدون أن يقول عندما كتب مقدمته؟ لعله أراد أن يبرر أو يضع منهجاً للمؤرخين عندما قال في مقدمة “المقدمة” كلمة رائعة وهي أن الرواية التاريخية لا تخرج عن أصول العادة وقواعد العمران. فإذا خرجت الرواية عن قواعد العمران، فهذا يعني أنها قد دخلها التحريف والتزييف والكذب.

قال كلمة أخرى مهمة جداً: تكلم عن الخبر التاريخي والخبر الشرعي، قال إن الخبر الشرعي يثبت بالرواية، والرواية تعتمد قاعدة الجرح والتعليل ومعرفة الرجال الرواة. هذا هو الخبر الشرعي عند علماء الحديث، فهم يعتمدون عن الرواية فيقولون روى فلان عن فلان عن فلان…

إذا ثبت السند نقول إن الحديث صحيح، هذا هو الخبر الشرعي.

أما الخبر التاريخي، فمعياره مختلف جدا، وهو أن نبحث من الناحية العقلية هل هذا الخبر ممكن أم غير ممكن.

ماهو معيار المعرفة ؟ هو أن يكون مطابقاً لقواعد العمران. وهذا ما اتجه إليه ابن خلدون عندما أراد أن يكتب عن العمران البدوي والعمران الحضري، وأن يكتب عن كل المكونات التي تؤثر في ذلك العمران ليضع منهجاً لمعرفة الرواية التاريخية الممكنة وغير الممكنة.

فعندما نقول إن هذه الدولة قد قامت، فهناك أسباب لقيامها، وعندما نقول إن الدولة قد سقطت، فهناك أسباب لسقوطها، فلا يمكن لدولة أن تسقط إذا لم تكن الظروف مهيأة لذلك.

تكلم في هذا عند حديثه عن البداوة والحضارة، تكلم عن الـمُلك، تكلم عن العصبية، تكلم عن الترف، تكلم عن الظلم، تكلم عن كل المؤثرات التي ترتبط بالعمران.

أول قضية بحث فيها هي قضية البداوة والحضارة، وضع لوحتين، لوحة أولى للبداوة ولوحة أخرى للحضارة.

الحضارة: الدلع والترف والاستقرار، قلة الحذر، الاعتماد على الدولة في حفظ أمنك وسلامتك،هذه هي الحضارة.

البداوة، لوحة أخرى : الحذر، الاعتماد على النفس، أي ليس هناك دولة تحميك، الصدق، الأمانة، التكافل، التلاحم.

لماذا العصبية ؟ لأنك تريد أن تدافع عن نفسك، ليس هناك دولة سوف تدافع عنك، إذا لابد أن تبحث عن وسائل الدفاع عن نفسك وهي تكوين العصبية إما عن طريق النسب أو عن طريق الالتحاق، التحاق الضعيف بالقوي.

يقول: “الملك لا يكون إلا بالتغلب، والتغلب لا يكون إلا بالعصبية أي بالتلاحم، هذا الكلام صحيح وموجود حتى اليوم. إذن، عندما يقع التصادم بين اللوحتين البداوة والحضارة سنجد أن البداوة هي الغالبة لماذا ؟

لأن هناك مجتمع فيه استرخاء، وفيه ترف، مجتمع فيه قلة الحذر والاعتماد على الدولة. وهناك المجتمع الذي لا ينام، مجتمع اليقظة و الحذر الذي يعتمد على نفسه،  فالبدوي عندما يسمع بسارق في داره ، يمسك سلاحه ويخرج ويبحث عنه ويلاحقه.

ابن الحضارة عندما يسمع سارقاً عند الباب، يقفل الباب ويتصل بالتلفون بالدولة لكي تحميه.

إذن تكوين هذه الشخصية ليس مثل تلك، فعندما تكون المغالبة، منطقاً فالبداوة هي التي ستنجح بتكوين الشخصية الذاتية القادرة على الدخول في المغالبة.

ولهذا دائماً، عندما تصل الدولة إلى مرحلة الهرم، تصل إلى مرحلة الاسترخاء، هنا يزدهر الصناع في هرم الدولة أي في نهايتها ولذلك تبقى حياة الترف، والإنفاق والدعوة للسكون.حين تكون الدولة في مرحلة استرخاء تكون هناك عصبية متربصة وراء الباب، وهذه العصبية تأتي من المنطقة البدوية، تأتي متلاحمة ومتكتلة وصامدة متحدية، تدخل إلى هذه الدولة المستقرة فتغالبها ولابد هنا أن تنتصر البداوة على الحضارة، تزيل هذا الملك وتأتي بملك جديد وعصبية جديدة، غالبة تحكم سيطرتها على الملك والسلطة

هذا ما أراد ابن خلدون أن يقول، دولة ابن خلدون ليست هي دولة المؤسسات.

نحن نعرف أن العلوم السياسية تقول إن الدولة تقوم على أركان ثلاثة : الأرض، الشعب، السلطة.

السلطة هي جزء من الدولة. وهو جزء يتغير بينما الشعب يبقى والأرض تبقى.

أما السلطة فهي مفوضة وهذا هو المنهج الديمقراطي.

 فهذه السلطة شرعيتها مرتبطة بالتفويض الإرادي للأمة. كل الأنظمة السياسية سترحل يوماً ولكن الأرض والشعب سيبقيان.

ابن خلدون تكلم عما كان موجوداً في عصره، ومازال موجوداً في عصرنا الآن، أي أن الدولة هي الأسرة الحاكمة.

لما يقال سقطت الدولة، فهذا يعني سقطت الأسرة أو العصبية القائمة.

نقول سقطت الدولة الأموية، لم تسقط الشعوب ولم تسقط الأرض وإنما ذهب الأمويون وجاء العباسيون.

قامت دولة العثمانيين، ثم سقطت الدولة العثمانية، أي الأسرة التي كانت تحكم، ويمكن أن تكون قبيلة أو طائفة أو طبقة من الناس هي التي تحكم.

وهذا ما كان موجوداً في عصر ابن خلدون. وما كتب عن ذلك العصر مصدره هو التجربة الشخصية، بالإضافة إلى موهبته في التقاط الظاهرة الاجتماعية.

اعتمد على عنصرين : شخصيته وقدرته على التقاط الظاهرة الاجتماعية ثم تسجيلها. والجزء الثاني هو التجربة التي عاشها وكانت غنية وكبيرة في حياته.

 مر بأدوار مهمة جداً. هو ذو أصول أندلسية، وهاجرت أسرته إلى تونس، وكانت الأسرة الأندلسية تستعمل وزن “فعول” للدلالة على التكريم. “خالد” يقال له خلدون “زيد يقال له “زيدون”، فكانت أسرته شريفة بالمفهوم الاجتماعي ومعروفة بمجدها التاريخي.

هاجرت إلى تونس ولكن ابن خلدون في طموحه كان يريد أن يعيش في مملكة المرينيين في فاس، فوصل إليها معتمداً على ذكائه ولكنه فوجئ بمحنة كبيرة.

كان هناك أمير بجاية، وكان من عادة ملوك المرينيين- وكان مُلكهم يمتد أحيانا إلى  تونس – عندما يزهد السلطان، يأخذ كل  الملوك الذين في طريقهأسرى ويحكم سيطرته على بلادهم، ومن جملتهم كان سلطان بجاية. فأخذه ووضعه في السجن ليحكم سيطرته عليه.

جاء ابن خلدون وأقام علاقة مع هذا السلطان الأسير، وكان يريد أن يُخرجه من السجن، ولو هرب سيعيد سلطانه لبلاده. فاكتُشف أمره ووضع ابن خلدون في السجن في فاس.

ولما خرج، ذهب إلى الأندلس ولقي ترحيباً في غرناطة، واستقبله لسان الدين ابنالخطيب وأصبح جليس السلطان. وقد تحدث كثيراً في كتابه عن هذا اللقاء وذكر الأشعار التي رحّب بها من قبل لسان الدين ابن الخطيب. ولكن الحسد والخلاف بدأ بينهما واضطر أن يغادر الأندلس. في هذه الفترة كان سلطان بجاية قد هرب من سجنه وعاد إلى بجاية  ليسترجع ملكه عليها. فقرر ابن خلدون ـأن يكون قريباً من سلطان بجاية، وهنا حقق الحلم الكبير وأصبح الرجل الثاني في الدولة. فقد أكرمه الملك كل التكريم وقربه من حكمه.

لم يطل الأمر بسلطان بجاية، فقد سقط حكمه من جديد بتأثير الموجات المتلاحقة، والامتدادات التي كانت بين القبائل – الغالب والمغلوب – فقتل السلطان وهرب ابن خلدون من بجاية وقد أصيب بنهزة نفسية كبيرة. فذهب إلى تونس وأقام بها لمدة أربع سنوات في قلعة ابن سلامة، عرض عليه أن يعود، فلم يعد، وبدأ يكتب مقدمته، في تلك الجلسة التأملية التي ابتعد فيها عن الناس، بعد ذلك ذهب إلى مصر وعاش بقية أيامه هناك.

هذه تجربة غنية، وهو يعرف هذه الموجات المتلاحقة التي كانت تترنح، نظام يقوم ونظام يسقط.

وهكذا قال كلمته عن العصبية والتغلب، كذلك قال إن الدعوة الدينية إذا اعتمدت على عصبية، فهي غالبة متحدية ومنتصرة وإلا لم تبق.

يقول إن فكرة العصبية إذا تبنت فكراً دينيا فستكون أقوى.العصبية القبلية المتماسكة، إذا كان لها عقيدة دينية تكون أكثر تماسكاً وأكثر قدرة على الاستشهاد والإخلاص والصمود.

ويقول إن الدولة العظيمة كلما كان لها أصل ديني، يمكن لها أن تجد قاعدتها الواسعة. كما كان الشأن بالنسبة للمرابطين والموحدين. وكان مصدره الأساسي تاريخ المغرب.

يقول :«الدعوة الدينية لابدّ لها من العصبية الدينية، بدون عصبية تكون معرضة للتفكيك والتفتيت».

والعصبية بدون دعوة دينية تكون معرضة للتفكيك والتفتيت. فهؤلاء الذين يؤمنون بقضية يدافعون عنها، وهم أقدر على الصمود.

وصلنا الآن إلى الملك. لقد بدأنا بالدولة التي تبدأ من البداوة، وتكلم عن الزراعة وقال: «الزراعة مهنة المستضعفين وأصحابها مستدلون، أي يعاملون بمهانة ولا يأخذون قيم أعمالهم، يربحون أقل من قيمة عملهم مع أن الزراعة هي المصدر الأهم للاقتصاد، ولكن هذا المزارع يأخذ أقل من عمله، لذلك كان من يريد أن يحافظ على كرامته لا يعمل في مجال الزراعة».

“البؤس يكوّن خُلُقَ البَأس” خلق البأس والقوة التي تأتي من كثرة المعاناة والبؤس.  فمن يعاني في طفولته منَ بأسالعيش سيكون أقدر على المواجهة والصمود والتحدي.

ندخل في مسألة المدافعة: كيف تتكون العصبية؟

تتكونالعصبية من شعور هذه المجموعة المستضعفة بأنها يجب أن تدافع عن نفسها، كيف ذلك؟ عن طريق التلاحم. في الماضي كان التلاحم القبلي أو الالتحاق بقبيلة. أما اليوم فيحدث بالالتحاق بنقابات وكونفدراليات مهنية. وكما يقول كارل ماركس:«بتلاحم هؤلاء العمال، لابد أن تقوم الثورة الصناعية، وهي الطبقة الجديدة من البؤساء المحكوم عليهم بالبؤس، هؤلاء سيصبحون يوماً ضد من ظلمهم فتتكون المدافعة». تكوين ظروف الدفاع عن النفس. هذا هو تكوين العصبية، وهذا هو حد التاريخ في الانتقال من البداوة إلى الحضارة، الانتقال من البؤس إلى حياة الترف.

الإنسان دائماً يتطلع إلى الكمال، البداوة تتطلع إلى الحضارة، ليس هناك أحد في الحضارة يتطلع إلى البداوة، لكن كل من يعيش في البداوة يتطلع إلى حياة المدن، إلى حياة الترف والاستقرار. والبداوة تعتقد أن هذه الحضارة تظلمها وبالتالي فهي تريد أن تنتقم منها. وتعيش فيها. وإذا وصلت إلى ذلك فقد أدّت مهمتها، وإذا اكتملت فلابد أن تصل إلى مرحلة الهرم والسكون. هذا منطق التاريخ.

الآن وصلنا إلى منطق الملك، وهنا يجب أن نذكر أن ابن خلدون انفرد أيضاً في مفرداته اللغوية، تحدث ببعض الألفاظ مثل “الاستطالة” ومعناها “الطغيان”، استطالة الملوك بمعنى طغيانهم.

فكلمة استطالة عند ابن خلدون تعني تجاوز، وهناك مفردات أخرى مثل “التوحش” يقول:«العرب أمة وحشية». وبعض النقاد آخذ عليه هذا التعبير لأنه بمثابة قذف في العرب، إلا أن ابن خلدون كان يعني بكلمة العرب “الأعراب” الذين كانوا في بلاد المغرب ولما يصفهم يقول إنهم إذا دخلوا إلى مدينة يهدمون القصور ويبنون الخيم الخ…

النقطة الثانية:يقول:«أمة وحشية!» وهو يتكلم عن حياة التوحش، ويريد بـ “التوحش”: خلق التوحش وطبيعة التوحش وهو “الانعزال”.

نقول:«أنا دخلت إلى بيت ليس فيه أحد، وشعرت بوحشة»، نقول هذا لما يسافر الابن تقول له الأم «وحشتني» أي أشعرتني بالعزلة، بالوحدة.

يقول: البداوة تعيش حياة الوحشة، العزلة في الصحراء، ليس هناك ترابط أو اجتماع الإنسانية الموجودة في المدن، كل واحد يعيش في مكان بعيد عن الآخر، وهذا يُكوّن خلقاً هو خلق البداوة، خلق الحذر والشجاعة، فيقول “خلق التوحش”.

فطبائع الحذر الموجودة في الإنسان الذي يعيش في البادية مقرونة بطبيعة الانعزال والشجاعة. ماذا سيحدث الآن إذا ما وصلنا إلى الملك ؟

هذه العصبية وصلت إلى الملك، والملك شيء ملذوذ، كل الناس تتطلع إلى الملك…

إذاً، سينفرد أحدها بالمجد، هذه القبيلة يوجد فيها مائة إنسان يقاتل، وبعد ذلك مجموعة قليةتصل إلى الملك. وماذا سيحدث للبقية؟ سيصابون بخيبة الأمل، مثل الأحزاب اليوم، الحزب يقاتل ويناضل لعشرين سنة أو أكثر في سبيل الوصول إلى الحكم، ولما يصل إلى الحكم تجد فقط عشرين منهم في الوزارة، ومائة واحد منهم في المناصب السامية، وبقية العمال يبقون عمالا كما كانوا. وكانوا مكافحين ومناضلين، ولم يستفيدوا شيئاً، فالعامل بقي عاملا كما كان. أكثر من هذا، فإن هذا الإنسان الذي يصل إلى الحكم من أصحاب العصبية، يبتدأ الحجاب بينه وبين العامة؛ بعدما كان واحداً منهم، وكان يسكن في حيهم، فيبتعد عن العامة، ولا يستقبلهم، ثم يبدأ الحجاب بينه وبين الخاصة، بين أقرب الناس إليه.

ماذا سيحدث نفسياً ؟ ماذا سيحدث في العالم ؟

سيحدث انفراد بالمجد (فلان وصل إلى الملك)، والبقية ظلوا كما هم.  ولذا أول مظهر لهذه العصبية سيكون التفكك، سوف تتفكك هذه العصبية وتتفتت، وهذا هو الواقع السياسي، نرى هذا مثلا، لما يصل حزب في المعارضة إلى الحكم، حزب قوي وله نقابات، لما يصل إلى الحكم يبدأ التفكيك في الفصول وفي النقابات، هذا جزء من القانون الإنساني، يحدث في كل عصر وكل مكان.

إذن فريقمنهم انفرد بالمجد وبدأت الانقسامات والإحباط في الأغلبية، فالعدو الذي التحموا عليه قد راح، ولكن الملك دخل في هذه المرحلة وسوف يستعملون نفس الأسلوب للقضاء على خصومهم الذين كانوا شركاء لهم في السلطة، فصاحب المجد لا يجب أن يذكره أحد بتاريخه حينما يصل إلى المجد، أو يمن عليه بما فعله من أجله، هذه الفرقة المتبقية من العصبية لا تمنح للحاكم ما يستحقه من مجد، يريدون أن يتقاسموا السلطة معه وهو لا يريد ذلك، هو يريد فريقا جديداً من المنافقين والمتملقين لأن هؤلاء لا يشاركونه في المجد، فهو يصنعهم لأجل أن يكونوا في خدمته، فيُبْعِد أهل عصبيته، ويأتي بمجموعة جديدة تمنحه التملق والشعور بالعزة والكرامة.

الصداقة تعتمد على عنصرين: تبادل العواطف أو تبادل المصالح، إذن هذه العصبية وصلت إلى الملك، الملك يعتمد على عنصرين: الجند والمال، لا يستمر الملك إلا بالعنصر ين معا. قوة الجند وقوة المال.

جند بغير مال سيهرب منك، ومال بغير جند لن تستطيع أن تصنع به شيئاً.

عندما تفقر الدولة، فالجيش يغيب، إذن لابدّ من وجود العنصرين.

في المرحلة الأولى يكون الحاكم يحكم بعقلية المجاهد المقاتل من أجل المجد والصمود. لا وقت للمتعة والسكون، فقط المقاومة والصمود وبالتالي أصحابه يكونون من بين قادة الجند، في هذا الوقت لا يستقبل الشعراء، هؤلاء يأتون في المرحلة الثانية والثالثة من عهد الحكم، في مرحلة استقرار الدولة.

في المرحلة الأولى يحتاج الملك إلى ولاء قادة الجند، فلما يموت الملك ويأتي آخر يُبعد الجند وقادته ويأتي بالشعراء لكي يمجدونه، فهذا طور الاستقرار، وأول مظاهر الاستقرار هو أن الدولة تستغني عن عصبيتها، هذا كلام ابن خلدون، لهذا نقول إن الثورة تأكل أهلهالأن الانفراد بالمجد يخلق هذا. فلما جاء عبد الناصر للحكم لم يكن معه زملاءه، فهؤلاء لم يرضوا منه بما يقبله الآخرون، فبدأوا ينسحبون واحداً تلو الآخر.

في الدور الثاني، تضعف العصبية، وتبدأ الدولة تتمدد ولكن تمتد على جميع الأطراف، والناس سيقبلون الولاء للدولة بحكم الأمر الواقع.

 الدور الثالث يبتدئ مع الاستقرار، وأول مظاهر الاستقرار هو المدن، حياة الترف والرغبة في بناء القصور. تزدهر الصنائع في مرحلة استقرار الدولة وليس في بدايتها، وهذا من مظاهر هرم الدولة.

فهنا يضعف الجند، ويبقى الواقف وراء الأبواب ينتبه وهو يقظ ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض على هذه العصبية. وهنا نرى أن ابن خلدون يشرح طبائع النفس في سلوكها عندما تكون الدولة في أولها يكون غضب وتوتر ثم يأتي الاستقرار فالانهيار.

المرحلة الرابعة في حياة الدولة هي مرحلة الهرم، مرحلة السقوط.

في هذه المرحلة من التاريخ لابد من التجديد، والجيل الجديد يأتي من الثورة. إذا هذا ما أراده ابن خلدون عندما كتب عن الدولة في مقدمته، هذا ما كتبته عن المقدمة وفكر ابن خلدون.

كان ابن خلدون رجلاً سياسياً، يحسن الوصول إلى ما يريد. مثلا لما ذهب إلى دمشق والتقى تيمور لنك أعطاه معلومات على المغرب، وقد أوخذ عليه هذا من طرف المؤرخين، لكنه يذكر هذا في كتابه، فلا يمكن أن نقول إنه كان ملتزما، ولكنه مفكر ومؤرخ ممتاز، فمنطق ابن خلدون كان متميزاً وهو يستحق أن نذكره وأن نستفيد مما كتبه نظراً للمنهج العلمي الذي نهجه ليروي التاريخ في عصره.

————————————–

( الزيارات : 4٬339 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *