مواقف عظماء الرجال..

ذاكرة الايام..مواقف كبار الرجال..

مازال موضوع الثقافة الاسلامية يثير اهتمامى , كنت ارى ان شبابنا فى الحامعات يحتاج الى خطاب علمى يحترم المخاطب ويرتقي به الى الافضل ويسهم فى تكوينه الفكرى والاخلاقى , كانت مادة الثقافة الاسلامية احدى اهم المواد التى اعتمدتها معظم الجامعات فى البلاد الاسلامية , لكي تسهم فى تكوين الشباب بمنهجية تربوية راقية , كنت ارى وما زلت ارى ان اسلوب الوعظ والارشاد الذى يتبعه الاعلام الدينى لا يصلح لتكوين الشباب , ولا بد فى اي خطاب يخاطب به الشباب  ان يحترم المخاطب وان يخاطبه بمنهجية علمية تعتمد المعايير التربوية , كما هو الشأن فى كل المواد العلمية , وكنت ارى ان اسلوب الوعظ والارشاد لا يصلح فى الجامعات , وليس هو الاسلوب الذى يسهم فى تكوين اولئك الشباب الذى يريد ان يسمع ما يقنعه وما يصل اليه , والتربية ليست عاطفة سريعة التأثير,  وانما هي منهج تربوى يحتاج لمختصين وعلماء والا وقع الاستغناء عن تلك التربية,  ولا بد من مخاطبة العقول بالحجة والدليل لتحقيق نتائج ايجابية , كان يعجبنى ان تكون مؤسسات العلم ذات منهج علمى وتعتمد ذلك المنهج الذى يحترم العقول ويسهم فى تنمية قدراتها , وكنت ارى ان كل المؤسسات العلمية يجب ان تكون علمية وتهتم بالتكوين السليم الذى يسهم فى رقي هذا الجيل وبخاصة فى الجامعات والمؤسسات العلمة , اسلوب الوعظ قد يكون مفيدا فى بعض المنابر التوجيهية , ومع هذا فيجب ان يكون الخطاب راقي المفاهيم والدلالات يحترم المخاطب ويمنحه الحرية للتأمل والتفكيروالا نعتمد اسلوب المبالفات والانفعالات الذى اصبح اليوم هو المنهج المعتمد والسائد  , وانا لا اقلل من اهمية تكوين مؤسسات الوعظ وتكوين المؤهلين لهذه المهمة القادرين على التأثير فى المخاطبين , وما ادعو اليه انه يجب ان يكون الخطاب مناسبا للمخاطب ويشعره بالاحترام , والا نخاطبه بما لا يراه صحيحا ولا سليما من الافكار ,  وعندما تعتمد  المعاهد العلمية العالية منهج الوعظ وتغفل التكوين التربوى والعلمي تفقد خصوصيتها العلمية وثقة مجتمعها بها وعندئذ لا بد الا ان يقع الاستغناء عنها ولو بالاهمال حينا والاعراض حينا اخر , ولا بد من الاهتمام بتكوين الشخصية القادرة على الفهم والاختيار والقرار. ..

وما زلت اذكر موقفا لى قبل اربعين سنة , عندما كلفنى الملك الحسن الثانى رحمه الله بادارة اهم مؤسسة علمية اسلامية فى المغرب وتضم كبار علماء المغرب  وهي من منجزاته العلمية لتشجيع العلوم الاسلامية التى ميزت عصره  وما زالت تؤدى دورها العلمى  , وكان رحمه الله  يشرف عليها ويرعاها  ويهتم بها وكانت تابعة له وللمصالح الملكية , وكنت يومها فى جامعة الكويت , وعندما تسلمت ادارتها عام 1977 فى حفل كبير اعترضتنى مشكلة وهي التداخل بين مفهوم التكوين العلمى التربوى الذى يحتاج الى كفاءات علمية قادرة على هذا التكوين وبين المناهج الدعوية التى تحتاج الى مؤهلات اخرى وقدرات شخصية , ولا بد فى البداية من تحد يد الهدف الذى نريده لمؤسساتنا العلمية , كانت مهمة شاقة ومتداخلة ومعقدة , وكان لا بد من الوضوح فى الرؤية من البداية  لكي يكون الاختيارسليما , وكنت اواجه ضغوطات قوية فى اختيار الطريق الافضل , تعددت الاراء وتداخلت وادت الى اختلافات وانقسامات فيما يمكن ان يكون هو المراد والمطلوب , كنت فى تلك الفترة اكثر حماسا واقل حكمة , ولم ابلغ سن الحكمة بعد فى تلك الفترة , كنت صادقا مع نفسي  وهذا يكفى بالنسبة لى  , فى ذلك العام وهو عام 1978 كلفنى جلالة الملك رحمه الله ان القي درسا امامه فى شهر رمضان فى مجالس الدروس الحسنية والمعروفة باسم الدروس الحسنية , وهي من اشهر المجالس العلمية الرمضانية التى كانت تحظى بكل الاهتمام الرسمى والشعبى , وكان كل رجال الدولة من وزراء وسفراء وعلماء وقادة يحضرونها يوميا فى القصر الملكى خلال شهر رمضان وكبار علماء العالم الاسلامى يشاركون فيها  , وكان الشعب المغربى كله يتابعها بواسطة التلفزة ويهتم بها , وكنت قد شاركت فيها من قبل  عندما كنت فى الكويت , اخترت موضوعا بعنوان : منعطفات فى مسيرة الثقافة الاسلامية , كان الدرس يستغرق ساعة  , واعتدت ان القي دروسي مرتجلا لكي اتمكن من التعبير عما كنت افكر فيه وكان الملك ينصت باهتمام كبير , وكان عالما متميزا ويحسن فهم ما يقال فى مجلسه من افكار ومعرفة الرجال , واعترف ان هذا المنبر العلمى هو الاحب الي من كل المحاضرات والدروس الاخرى التى شاركت فيها فى مختلف المؤتمرات , كنت اقول ما اريد قوله من غير تردد , كانت الحرية مطلقة ولا رقابة على المتكلم وكل من تكلم فهو مؤتمن ومسؤول عما يقول ويختار من افكاره وما اشق المسؤولية واصعب الاختيار  , وعندما تتكلم فى مجلس الملك فلا احد يعترض عليك فالملك هو الحكم فيما تقول , تكلمت عن المنعطفات التاريخية فى مسيرة الثقافة الاسلامية بمنهجية علمية والتزام بالثوابت وموضوعية واعترف ان الموضوع شاق وفيه الكثير من المنزلقات التاريخية والانحدارات ومنعطفات ركود وتراجع تحتاج الى منهجية نقدية دقيقة وعادلة وموصوعية , واشهد ان الملك الحسن الثانى رحمه الله كان من اصدق من عرفت من القادة الذين عرفتهم او اقتربت منهم غيرة على الثقافة الاسلامية  والقيم الايمانية والروحية وكان عميق التأمل فى القرأن كثير الاستشهاد به فى كلماته التوجيهية ,  وكان يحترم العلم والعلماء  ويحسن اختيار من يتكلم فى مجلسه منهم , ويحترم المنهجية العلمية الرصينة التى تشهد لصاحبها بحسن الفهم  ويؤمن بحرية الفكر ويشجع عليه , وقد رأيته فى مواقف كثيرة يحترم كل رأي يسمعه وينصت جيدا لما يسمعه من اقوال المتكلمين من كبار العلماء , قلت فى درسي هذا كل ما كنت اريد ان اقوله , حول قضايا علمية وموضوع التراث  الاسلامى واحياء ذلك التراث و مهمة الثقافة فى مجتمعها ومسؤوليات وزاراتها  فى كل مجتمع ومنهجية التجديد والدعوة اليه ومسؤوليات  المثقفين , كنت صريحا فيما قلت  ولعلى قد تجاوزت ما هو معتاد فى تلك المجالس التى تراعي فيها  بعض المعايير ولم اكن ادرك كل ذلك  , كنت اريد ان اقول الكلمة الصادقة كما هي , كلنا نخطئ فى البداية , وعندما تكلمت عن دار الحديث الحسنية قلت لجلالة الملك  : مهمة دار الحيث الحسنية تكوين قيادات فكرية راقية ملتزمة ذات قدرات متميزة وليست مهمتها تكوين وعاظ ومرشدين وتابعت حديثى  مقتحما ابوابا لا يحسن تجاوزها  وقضايا لا يحسن الخوض فىها فى مجالس الملوك  , اراد احد علماء الازهر ممن اشتهر بالوعظ والارشاد ان يعترض ورفع يده محتجا , اومأ اليه الملك ان ينصت , فى نهاية الدرس تناول الملك الحديث وتكلم لمدة عشرين دقيقة الكل ينصت لكلامه  مؤكدا احترامه لحرية الرأي وان الاختلاف امر طبيعي وهو حق ,  ثم تكلم عن مهمة المؤسسات العلمية واكد انه ليس مهمتها الوعظ والارشاد لان مهمتها تكوين كفاءات علمية عالية تحسن الفهم والرأي واعتبرت ذلك مساندة لى وتشجيعا وهذا موقف اعتز به ..

 اربعون سنة مرت على هذه الواقعة ومعظم المغاربة يذكرونها حتى الان , وهي مسجلة ضمن وثائق الدروس الحسنية , اليوم استعيد تلك الواقعة , لو كنت اليوم لما قلت ما قلته , كان الملك الحسن الثانى  رحمه  الله  من افضل من عرفت علما وفهما وادبا وسموا فى المواقف ووفاءا لقيم اصيلة , فى ذلك الموقف تعلمت درسا لن انساه ابدا , كنت اعلم اننى قد تجاوزت ولم يكن من اللائق ان اقول ما قلت , ولكن الملك كان عظيما وكبيرا ..

 استمرت مسؤوليتى الادارية والعلمية فى دار الحديث الحسنية مدة ثلاث وعشرين سنة بعد ذلك اليوم الى عام 2000. بعد وفاته ,  رحم الله الحسن الثانى فقد كان من انبل من عرفت  من عظماء الرجال

( الزيارات : 932 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *