نبذة عن حياة الامام الغزالى

الإمام الغزالي :
ولد أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي الطوسي بمدينة طوس عام 450، وتوفي عام 505، كان والده يعمل في غزل الصوف، ولما حضرته الوفاة أوصى أحد الصالحين بولديه محمد وأحمد، وعكف الغزالي على طلب العلم , وأخذ علمه عن شيخه “إمام الحرمين” ودرس عليه المنطق والحكمة والفلسفة، واشتهر بالذكاء والمناظرة. وأعجب به الوزير نظام الملك، واختاره لكي يكون أستاذا في المدرسة النظامية في بغداد، وزادت شهرته وعظُمت مكانته… وتطلعت الأنظار إليه إعجابا به..
وصف الغزالي نفسه في كتابه “المنقذ من الضلال” قال :
«لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السنُّ على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور.. وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، أقتحم كل ورطة، وأتفحّص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميّـز بين محق ومبطل، ومتسنّن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، …ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته»(المنقذ، ص5).
ووصف نفسه بأن التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختباري وحيلتي..
وبعد رحلة شاقة وطويلة شرح الله صدره لطريق أهل الصفوة والصوفية، وعبّر عن ذلك بقوله.
لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم وإيمانهم بعلم وعمل،.. وعلل اختياره لطريق الصوفية بأن منهجهم يقوم على أساس قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله (المنقذ43)
وعكف على تأليف كتابه “الإحياء”، لإحياء علوم الدين أولا والكشف عن مناهج الأئمة المتقدمين ثانياً، وإيضاح مباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالح ثالثا..
ويتميّز هذا الكتاب بخمسةأمور كما وصفها بنفسه :
– الأول : حل ما عقدوه، وكشف ما أحملوه
– الثاني : ترتيب ما بددوه، ونظم ما فرّقوه
– الثالث : إيجاز ما طولوه، وضبط ما قرّروه
– الرابع : حذف ما كرروه، وإثبات ما حرروه
– الخامس : تحقيق أمور غامضة لم يعرض لها العلماء من قبل.
وهذا النص يلقي أضواء كاشفة على شخصية الغزالي في مرحلة مبكرة من حياته العلمية، فقد كان يبحث عن ذلك اليقين الذي يوحي له بالفهم النقي والسكون القلبي، ويبدو من كلامه أنه كان يرفض كل المسلّمات التي كانت منتشرة في عصره، وأخذ يبحث بنفسه عن الحقيقة، والحقيقة مطلب صعب المنال أمام عدد من المذاهب والآراء الكلامية، والفلسفية والفقهية، وكل فريق يستدل بأدلته للتوصل إلى ما يدعم رأيه ومذهبه.
ويعترف الغزالي، “ان البحث عن الحقيقة أمر شاق، وهو بحر عميق، غرق فيه الكثيرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكان يريد الوصول إلى العلم اليقيني الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا ريب فيه”.
كان الغزالي يرفض منهج التقليد في الاعتقاد، لأن الفطرة الأصلية ترفض الأخذ بآراء الآخرين، والتسليم بما يرون..
وقال في ذلك :
“كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني ..(المنقذص.7).
وابتدأ رحلته في البحث عن الحسيات ، إلا أنه سرعان ما اكتشف أن الحسيات لا توصله إلى اليقين،فأخذ يتساءل :
من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة تعرف أنه متحرك..
هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذّبه حاكم العقل تكذيباً لا سبيل لمرافقته.. فأين الثقة بالمحسوسات.
انتقل الغزالي إلى عالم العقليات وهي لا تخطئ، فالعشرة أكثر من الخمسة، والإثبات والنفي لا يجتمعان في الشيء الواحد، ومن جديد انطلقت ثورة الشك في نفسه، وبدأت مشاعر الارتياب، لكي تتساقط من جديد أوراق الثقة بكل المسلمات كما تتساقط أوراق الخريف مخلفة وراءها أغصانا جرداء , إلا أن الحقيقة سرعان ما تنبثق عن “لحظة العدم” وهي لحظة قد تكون منجبة وولودة.
وأخذ التساؤل من جديد :
بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقاً بها، فجاء حاكم العقل فكذبها.. فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذّب العقل في حكمه..(المنقذ،9)
وأثقل الشك كاهل الغزالي، ووجد نفسه طريح مرض عضال من الحيرة والشك، وأصبح كما يصف نفسه على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، وفجأة تفجرت ينابيع الأمل في نفسه، وتشققت الأرض عن بذور ولودة أنجبت، ومدّت الأجنة رؤوسها منطلقة للحياة متوثبة، وكأن الخريف ما كان، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في صدره، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف.
وقال في وصف ذلك :
ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة..، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي، في بعض الأحايين، ويجب الترصد له (المنقذ،11).
كان اليقين الذي وصل إليه الغزالي هو يقين روحي لأن جدران المدركات العقلية قد تهدمت، وكان لابد من يقين، يرمم ذلك الكيان ويعيد إلى النفس توازنها..
ومصدر هذا النور أمران :
– الأول : الجود الإلهي والكمال الفطري، وهو يعبر عن الرعاية الإلهية التي لا تفسير لها، ولا ترتبط بالأسباب، وهي تهجم على القلب الصافي الطاهر عن طريق الإلهام لا الاستدلال العقلي، والقلب مستعد لكي تتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، إلا أنها قد تحجب هذه الحقيقة لأسباب تتعلق بالحجب والمعاصي وانصراف الهمم، وتنعكس الحقيقة في القلب كانعكاس صورة الأشياء في المياه الصافية..
– الثاني : المجاهدات والرياضات النفسية التي تهدف إلى طهارة القلوب، عن طريق حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المحمود في السلوكيات..
أقبل الغزالي بكل همته على طريق التصوف وهو طريق يعتمد على علم وعمل معاً، ويقتضي قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله.
وأول خطوة بدأها في هذا الطريق هو محاسبة نفسه، ووجد نفسه مكبلا بالعلائق التي أحدقت به، وأهمها التدريس، وقال في وصف ذلك:
“ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت فتيقنت أنني على شفا جرف هار.” (المنقذ،46 ).
فجأة، وعلى غير توقع، صوت من أعماق الغزالي يناديه ويلح في النداء، ويرتفع الصوت ويعلو صداه، كان هامساً في البداية، ثم تعالى هادرا في كيانه مجلجلا: الرحيل..الرحيل..
– فلم يبق من العمر إلا قليل وبين يديك السفر الطويل، جميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق، فمتى تقطع؟…
نداءات من داخله ملحة تناديه، وشهوات الدنيا والجاه العريض في بغداد تجاذبه بسلاسلها إلى المقام في بغداد حيث المكانة والحظوة…
ما أقسى ما كان الغزالي يعانيه من تردد.. رغبة في الحياة والجاه والعبث , ونداء الرحيل يتعالى ويلح في النداء…
حيرة وتردد وصراع داخلي.. هل يستطيع الغزالي أن يغالب ما هو فيه؟
وفجأة… وعلى غير توقع.. يتوقف اللحن الحزين ويتقرر المصير..
توقف لسانه عن التعبير.. وأصبح يغالبه فلا يستطيع، والتجأ إلى الله تعالى طالبا منه أن يفرج كربته وأن يشرح صدره..
وقال في وصف نفسه:
“إذ أقفل الله على لساني حتى أعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لاينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزنا في القلب” (المنقذ،48).
أقفلت جميع الأبواب، وبقيت نافذة صغيرة قاسية ضيقة مكلفة ثقيلة.. هي الوحيدة التي كانت تريحه وانشرح صدره لها..
الرحيل..الرحيل.

( الزيارات : 766 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *