أثـر الحـب فـي التربيـة

أثـر الحـب فـي التربيـة

وإن أثر الحب واضح في التربية ولابد من الحب في التربية، فالطفل يأخذ كل شيء عمن يحبه، ولا يجد صعوبة في قبول كل شيء، ويشعر بسعادة كبيرة وهو في حال التلقي والاستفادة، لأنه يرى الكمال وتشتاق النفس لذلك الكمال، ولذلك تأخذ بما تراه كاملاً…

وكنت أحب الشيخ حباً حقيقياً، وأجد الكمال فيه بعقلي وعاطفتي، وأحب كل ما يصدر عنه من أفعال من غير تأمل فيها، ومن خصائص الحب أنه يولد قابليات غير محدودة للاستفادة فتقبل النفس على الأخذ بغير حدود.

والحب عاطفة إنسانية رائعة، ولا تستقيم الحياة بغير الحب، ولا تتوهج شعلة السعادة في كيان الإنسان إلا بالحب، فالحب يجعل الحياة جميلة، لأن المحب يعطي، وسعادة الإنسان في العطاء… والعطاء المتبادل هو سر السعادة…

لماذا أحببت الشيخ ؟ هذا سؤال لم أوجهه لنفسي في مرحلة الطفولة، كان من العبث أن أسأل نفسي هذا التساؤل، كنت أحبه وهذا كل ما أعرفه…

هل أحببته لأنه الجدّ الذي يحبه كل أبنائه وأحفاده… أم هل أحببته لأنه يمثل الكمال بالنسبة لي، أم أنني أحببته لأنني أحببت نفسي، وأحببت كل من يحب هذه النفس..

لا أستطيع أن أجيب عن هذا التساؤل، ولا أعرف الجواب ! ربما كل هذه الأسباب صحيحة، أحببته لعاطفة القرابة وأحببته لما وجدت فيه من خصال الكمال والفضيلة، وأحببته لأنني أحب نفسي، وهذه من طبائع النفس البشرية، إنها تحب كل من يحبها، والأطفال تتجلى فيهم هذه الطبيعة، فقد كان حب الشيخ لي حباً متميزاً واضحاً، وكنت سعيداً به..

هذا الحب لم يضعف عندما كبرت وأصحبت أكثر إدراكاً ومعرفة، بل زاد هذا الحب في نفسي، واكتشفت فيما بعد أنني أحببت فيه كماله الذاتي، والعقول عندما تدرك معنى الكمال تزداد تعلقاً به…

هذا الحب المبكر الذي شدني إلى الشيخ كان له تأثير مباشر وكبير في حياتي في تلك الفترة الزمنية التي تعدّ الأهم في حياة الأطفال، لأنها تمثل المنعطف الخطير في حياة الإنسان، بسبب جموح النفس في مرحلة المراهقة، ولابد في الحب من المجانسة وهي شرط في كمال الحب واستمراره، فالإنسان سواء كان صغيراً أو كبيراً يحب من يجانسه في الطبائع والاهتمامات، لأنه يرى فيه صورة ذاته المحبوبة لديه، وهذا مما ينمي علاقة الصداقة والمودة والألفة بين الأفراد، والمجانسة قد تكون مدركة من خلال التقارب في الاهتمامات الظاهرية والأفكار والميول، وقد تكون غير مدركة وغير ظاهرة، فيقع الميل إلى شيء ما أو إلى شخص ما وترتاح النفس لما لا تعلم سره من أنواع العلاقات الإنسانية.

فيقع الانجذاب القلبي لا لسبب ظاهر مدرك، وإنما لسر خفي يتمثل في تقارب الأرواح وتعارفها وتلاقيها، وهذا هو السر الحقيقي في مشاعر الألفة والصداقة، حيث ينجذب القلب إلى شخص ما بغير سبب ظاهر، ويرتسم في المخيلة صورة ذلك المتخيل المحبوب الذي تتراءى ملامحه بالشكل الذي يتصوره المحب.

والإنسان في الأغلب لا يرى صورة الآخر كما هي في حقيقتها وإنما يراها كما يريد هو أن يراها، فإذا وقع التوافق الروحي رأى الإنسان في الآخر الصورة التي يحبها والتي يرى فيها الكمال والجمال، وإذا وقع التنافر الروحي رأى في الآخر الصورة التي تعبر عن ذلك التنافر وتؤكده، فلا يرى الجمال فيه ولا الكمال.

والإنسان بطبيعته الفطرية وغريزته يحب الكمال ويتعلق به، فلا يحب إلا ما يراه كاملاً ولا ينفر إلا مما يراه ناقصاً، إلا أن مفهوم الكمال ليس واحداً في نظر الناس، بعضهم يرى الكمال في الجمال الحسي الذي يستلذّه الطبع وتميل إليه النفس، وبعضهم الآخر يرى الكمال في حسن الخلق والاستقامة، فإذا رأى حسن الخلق أحبه ولو كان صاحبه قبيح الشكل وإذا رأى صورة السوء كرهه ولو كان صاحبه جميل الشكل..

والأم ترى الكمال في ولدها وترى فيه الجمال، فهي تنظر فيما تراه جميلاً فيه، ولا تنظر فيما تراه قبيحاً، والكمال ليس له صورة واحدة، والحب هو تعلق بالكمال الذي يحبه الإنسان.

والمعلم يحب أن يكون محبوباً، ولا يتأكد الحب إلا بما يراه المتعلم في معلمه من كمال في السلوك والمعرفة والتمسك بكل ما يجسد ذلك الكمال..

رأيت الكمال في الشيخ، ولذلك أحببته، ولم يكن بالإمكان ألا أحبه، أحببته بعاطفتي، الأطفال يحبون بعاطفتهم لأنهم لا يملكون القدرة على التأمل العقلي، والحب بالعاطفة هو الأقوى، لأنه لا تردد فيه، وهو حب أكثر صدقاً، بخلاف الحب العقلي فهو حب متردد، يزداد وينقص، كالإيمان العقلي، أما الإيمان الذوقي فهو أكثر توهجاً، وليس فيه ذلك التردد الذي يعتري أصحاب العقول.

كان الشيخ بالنسبة لي هو المعلم والمربي والمرشد، لم أجد صعوبة في الأخذ عنه والاقتداء به ومحاكاته في أفكاره وسلوكه بسبب تعلقي به، ما ضقت يوماً بما كان يلقيه على سمعي من نصائح وأفكار وتوجيهات، وما تطلعت لصداقة غيره ممن كانوا في مثل سني من الأطفال، وشعرت بقدر من التميز عنهم، كنت أحب أحاديث الكبار واهتماماتهم، ولا تثير اهتمامي القضايا التي كانت تسعد الأطفال عادة…

أستطيع القول بأنني لم أعش طفولتي كما يعيشها الأطفال، لم ألعب كما يلعبون، ولم أقفز في لحظات الانفعال كما يقفزون، ولم اسلك سلوك الأطفال في لحظات الغضب والتمرد.

لا أدري هل كان ذلك شيئاً إيجابياً في حياتي، كل ما أذكره أنني اجتزت تلك المرحلة ولم أندم على طفولتي، ولا أظن أن النظريات التربوية التي عالجت قضايا الطفولة قد أصابت الأهداف المرجوة من التربية، فالتربية أمر نسبي وليست هناك قوانين ثابتة، وليس هناك طريق واحد يمكن اعتباره الطريق الصحيح.

والواقع التربوي شيء يختلف عن النظريات، ولو كانت موثقة بالاختبارات الميدانية والمقاييس المنهجية، وليس هناك ثوابت في السلوكيات الإنسانية، لتداخل العوامل الذاتية والزمان والمكان والمحيط الاجتماعي في توجيه المسارات التربوية، والثابت منها هو الذي يدعمه الواقع ويؤكده.

القابلية للاستفادة:

أهم ما تميزت به تلك الفترة من حياتي هو أنني كنت في موطن القابلية المطلقة وغير المحدودة للأخذ عن الشيخ والاستفادة منه وبخاصة في مجال القيم والأفكار والسلوكيات أحببت ما يحب وكرهت ما يكره، وما زال أثر ذلك في نفسي حتى اليوم، فما كنت أكرهه في تلك الفترة ما زلت حتى الآن لا أستسيغه بسهولة، وأشعر بأثر تلك التربية والتلقين في نفسي…

في الفترة الزمنية اللاحقة للفترة الأولى والتي سافرت فيها إلى دمشق والقاهرة للالتحاق بجامعاتهما، وجدت أثر ذلك التكوين الفكري والتربوي عندما كنت أصطدم بواقع مختلف وأعبر عن ذاتي الأولى من خلال مواقفي الفكرية ورأيت أن أشياء كثيرة قد اختلفت، ولعلي قد اصطدمت بالواقع ورأيته على حقيقته.

على مستوى القيم كان الأمر صعباً، فما تلقيته من الشيخ كان يمثل قمة السمو في المفاهيم، وذلك أفق تربوي من الصعب تلمس آفاقه في عالم الواقع فما كان الشيخ يدعو إليه يختلف كلياً عن تلك المفاهيم.

لم تكن قدراتي الفكرية الأولى تمكنني من إيجاد ذلك التوازن بين عالم الشيخ بآفاقه الروحية وعالم الواقع كما هو في حقيقة الأمر، عالم الشيخ كان متفرداً ومتميزاً بوجود تلك اللحمة بين الفكرة والواقع، بين الدعوة والتطبيق، فالزهد في عالم الشيخ هو زهد حقيقي يتمثل في الإعراض بالقلب عن الانشغال بالدنيا، والعبادة تواصل متجدد بين الله والعبد، والمال أداة لخدمة الإنسان وتوفير أسباب استمراره ووجوده والصداقة مشاركة ومسؤولية ولا تكلف فيها.

والإنسان في عالم الشيخ مكرم ومحترم بسبب إنسانيته والأفضل هو الأتقى والأصفى، في هذا العالم لم أجد النفاق والتملق للأقوى ولصاحب السلطة، فالسلطة أمر مزهود فيه ولا وجود لذلك الشعور المتكلف بالتقرب من رموز السلطة.

هذا ما رأيته في عالم الشيخ، أو ما يدعو إليه الشيخ، مجتمع متحرر من القيود الظاهرة، متحرر من التعلقات المذلة، متحرر من السلوكيات المتكلفة، على الأقل خلال مجالس الشيخ، ولو ساعة من الزمان في يوم أو أسبوع، وساعة تكفي لتزويد النفس بهواء نظيف، حتى إذا ما طلع شمس يوم جديد عاد الكل إلى عمله وكأن شيئاً لم يكن، إلا بقايا ذلك المجلس، ذكريات ونسمات، تعطي إشراقه حلوة لملامح الوجوه.

لم يكن الشيخ يريد أكثر من ذلك الأثر في ترويح النفوس بلحظات مضيئة، لابد إلا أن تنعكس على السلوكيات، ولو بقدر يسير من يقظة القلوب وصلاح خواطرها، من مذموم إلى محمود…

في تلك الطفولة لم أكن أميز بين الأفكار والقيم، كنت بعيداً عن عالم الواقع كما هو، وأعيش في عالم خاص أجد جماله، أحس فيه بدفء مجالسه، والدفء شيء محبب للنفس وعندما تركت مجالس الشيخ وارتحلت طلباً للعلم شعرت بالصقيع والفراغ، كان ذلك أول أثر لذلك الانتقال.

ليست القضايا الروحية مجرد عبث ولهو، ولو كانت كذلك لما بقيت في مواجهة تحديات النزعة المادية الجارفة، إنها شعور قوي دافىء تحس النفس بالحاجة إلى ذلك الشعور وقد تحس بالظمأ إذا ابتعدت عنه، والنفس تشتاق لتلك الرحلة من المادة إلى الروح، ومن المحسوس إلى عالم الصفاء الذي تشرق أنواره في القلوب المظلمة….

عالم الروح فيه غموض، وغموضه يزيده جمالاً وإشراقاً، والنفس تشتاق إليه، وتجد فيه الدفء والسعادة والسكون، ومن أهم خصائصه أنه ينمي في الإنسان القدرة على تحمل الآلام، وكأنه محمول على الأكتاف، فلا يشعر بشيء مما يجري حوله، سواء كانت آلاماً نفسية أو آلاماً بدنية، ويكون أكثر انبساطاً وتفاؤلاً وأملاً، لا يخيفه الموت ولا يخشى الفقر ولا تسيطر عليه المخاوف الوهمية ويتحرر من قبضة التعلق بالدنيا.

وأهم ما يسيطر عليه هو الشعور بالرضا والأنس والاستغراق بما يشغله من مجاهداته وعباداته واهتماماته والزهد فيما يعكر صفو أيامه، ولا شيء يكدر كالطمع والخوف والحقد، فالطمع وصف مذموم لأنه يجعل صاحبه في حركة دائمة بحثاً عن المطامع، فإذا لم يحصل عليها فسد مزاجه وساءت حالته، وإذا حصل عليها انتابه الخوف أن يفقدها وعاش أيامه وهو يقابل الخوف المسيطر عليه، وإذا فقد ما يطمع فيه وما تعلق قلبه به فسرعان ما يسيطر عليه الحقد، ويدفعه للحزن والغضب، ويكدر عليه حياته، فلا يشعر بالسكينة في لحظات أنسه، ولا يستغرق في نومه لأن الكوابيس تلاحقه بملامحها المخيفة، فيستيقظ مرعوباً وجلاً….

عالم الروح فجر يطل من خلف الأفق يبشر بإشراق نور الشمس في يوم جديد، يرى ذلك العالم بالبصيرة ولا يرى بالبصر، من رآه أحبه وتعلق به وذاق حلاوته، ومن أغلقت الأبواب في وجهه فلا يرى منه شيئاً، ومن يراه يحسبه كالسراب، يتراءى ولا وجود له، ليس المهم أن يكون أو لا يكون، وإنما المهم أن من أشرقت أنواره في قلبه تعلق بتلك الأنوار وذاق حلاوتها، ووجد أنسه بها فاطمأنت نفسه وسكنت جوارحه، وهذا المقدار من الشعور كاف للتعلق به..

ليس المهم أن نرى المصباح وإنما المهم أن نرى ضياء ذلك المصباح، فالضياء هو المطلوب والآثار هي المرغوبة، وما تشعر به النفس من سعادة هو الغاية، ولا يعنينا بعد ذلك أن نبحث عن حقيقة الأشياء، فذلك أمر لا تملكه العقول، ولا تقدر عليه، لأنها تدرك ما هو مشاهد بالحواس ولا تدرك ما خلف ذلك من أسرار الكون.

والجمال ليس له معيار محدد، فما يراه الإنسان جميلاً فهو جميل وما يراه قبيحاً فهو قبيح، وما يراه الإنسان نافعاً ومفيداً فهو مطلوب لتحقيق النفع المرجو منه ولو كان وهماً…

والعقل المحمود هو العقل الذي يميز الإنسان به بين الأشياء، لكي يكون الإنسان سعيداً بهذا التمييز، والعقل الذي يشقي صاحبه هو عقل مذموم، لأنه قاد صاحبه إلى الشقاء.

لابد من إعادة قراءة الأشياء، وفي كل قراءة يفهم الإنسان أشياء جديدة عن الحياة، وتتراءى له الأشياء بصورة مغايرة لصورتها الظاهرة، ويتساءل الإنسان عن سر الإنسان والحياة والكون، هل ما اكتشف حتى الآن يكفي للمعرفة، وهل اتضحت الحقيقة أمام الإنسان.

في الطفولة الأولى يرى الإنسان الأشياء وفق معايير محددة ثم تتسع المعرفة، ويكتسب الإنسان معارف جديدة عن تجربته الذاتية، ليست هي المعرفة الأولى على وجه اليقين، وليست نقيضها على وجه التأكيد، وإنما هي معرفة ذات طبيعة نسبية، فما كان بالأمس في دائرة الخطأ لا يعني أنه خطأ، فالألوان ليست هي الأبيض والأسود، فقط، وليست الأحكام هي إما الخطأ أو الصواب، وإما الحق أو الباطل، ولابد من مراعاة النسبية بالنسبة للأشياء ذاتها وبالنسبة للأشخاص بحسب المتغيرات الزمانية والمكانية.

ليست هناك أحكام ثابتة، الحقيقة كامنة في أعماق الذات الإنسانية، ولابد من البحث عنها، ولكل فرد حقيقة خاصة به، حقيقة نسبية، هي بالنسبة له حقيقة وقد لا تكون كذلك بالنسبة للآخرين.

ولذلك لابد من التزام الأدب في كل شيء، الأدب في تعامل الإنسان مع ذاته والأدب مع الجمادات والأدب مع النباتات، كل شيء يمثل الكمال ولا شيء من ذلك خلق عبثاً، والإنسان هو جزء من الكون وليس هو الكون كله، هو مستخلف لأجل عمارة الأرض، كل مخلوق مسخر لما خلق له ومستخلف على المهمة التي سخر لها.

أثناء صحبتي للشيخ كنت أملأ خزانتي العقلية بكل ما أسمع، كنت أجد الشيخ كالبحر المحيط في سعة رؤيته، مفاهيمه للأشياء كانت مختلفة كلياً عن المألوف من أمثاله، رأيت سعة في الفهم لم أجدها في معاصريه، رأيت أفقاً يتسع لكل فكر ولكل ثقافة.

هناك سلوكيات واختيارات التزم بها كمنهج يعبر عن الكمال الذي أحبه وارتضاه لنفسه وفي الوقت ذاته كان يحترم خصوصيات الآخرين في اختيارهم لمنهج كمالهم.

كان يعنيه الباطن ولا يعنيه الظاهر، وكان يقول: [كونوا كيف شئتم في ظاهركم، والمهم هو ما انطوت عليه القلوب، وهذه الكلمة بحد ذاتها تلخص منهجه الشمولي في بحثه عن حقيقة الأشياء..].

أشياء كثيرة، أقوال وسلوكيات ومواقف كنت أفهمها في سن الطفولة بطريقة ضيقة، وربما فهمها الكثيرون بهذه الدلالة، وبنوا عليها نتائج خاطئة، وعندما اتسعت زاوية الرؤية قرأتها بطريقة مغايرة وفهمتها في إطار النظرة الشمولية الواسعة.

لم يكن يهتم بالسلوكيات الظاهرة التي يمكن لأي فرد أن يحسن أداءها، وقد يؤديها رغبـة في مراعاة الناس وطمعاً في حسن السمعة، وإنما كان يهتم بما وراء ذلك من مراعاة الأدب في الأداء والإخلاص في العمل والصدق في النية.

والنص ليس في ذاته وإنما فيما يقرأ، فقد يقرأ بطريقة حرفية ضيقة وقد يقرأ بطريقة شمولية واسعة، والمشكلة ليست في النص وإنما في كيفية قراءته، والقارىء متعدد ومتجدد ومتنوع، ويفهم القارئ من النص ما يريد فهمه مما يوافق استعداده الذاتي، ولذلك لابد من الانتقال من النص إلى قارىء النص، والمشكلة تكمن فيه، فهو أداة الفهم وهو النص الناطق والجمود لا يكون في النص، وإنما يكون في قراءة النص، وهو الإنسان، والضيق لا يكون في النص وإنما يكون في التفسير، وإذا نظرنا في نص فعلينا أن نفتح الأبواب والنوافذ لكي يدخل الهواء النقي إلى الغرفة، فالمكان المظلم المكتئب لا تقرأ النصوص فيه بوضوح، لأن الظلام يلقى على النص شحوبه فلا تبين حروفه.

كل شيء يمكن أن يكون واسعاً وضيقاً وكل فكر يمكن أن يكون منفتحاً ومنغلقاً وكل ثقافة يمكن أن تكون أنانية وإنسانية، والعبرة في الإنسان فهو ثمرة المكان والزمان، وهو أداة الفهم والاستنتاج، ولابد من العناية بالإنسان وتعهده بالفهم العميق وتزويده بأدوات الرؤية، لكي ينظر إلى بعيد، من خلال نافذة إنسانية يرى فيها الكون بشموليته واتساعه، فالأرض بكل ما فيها لا تتجاوز حجم القرية الصغيرة بأحيائها المتناثرة على أرضها.

بداية التأمل:

لاحظ الشيخ أن الطفل الصغير لم يعد كما كان، بعد سن السادسة عشرة بدأت ملامح شخصية جديدة، ليست هي الأولى، وليست غيرها، هي امتداد للمرحلة الأولى بخصوصيات ذاتية، بدأ الاختيار والتمييز، حوار داخلي مع الذات، حوار يتجدد في كل صباح، تساؤلات ملحة وبحث عن الذات، أين موقعها في هذه المسيرة…. ؟!

الحوار مع الذات بدأ يتفاعل، ويؤتي ثمراته في سلوكيات متميزة، إنها رغبة في معرفة كل شيء، محاولة للاستكشاف ومعرفة الآخر، الآخر هو جزء من الواقع، وهو حقيقة لا مجال لإنكارها…

واتجه اهتمامي إلى القراءة، لأجل المعرفة، قراءة كل شيء وكل الآراء وكل الفلسفات وكل النظريات، ذلك هو الآخر الفكري وأصبحت من رواد دار الكتب الوطنية بحلب من الصباح إلى المساء، وقراءة كل شيء بنهم عجيب، في مجال الفكر والثقافة والأدب والرواية وأصبحت صديقاً لمفكرين كبار ولأدباء لامعين، عرفتهم من خلال كتبهم وآثارهم، وأحببتهم وأعجبت بما يكتبون.

اكتشفت عالماً جديداً من المعرفة، متعة عقلية ومعرفة بفنون المعرفة وآفاقها، رأيت الفضاء الفسيح بامتداده اللانهائي، عبر الكون رأيت ضوءاً خافتاً خلف الجدران، ولابد من اكتشافه والاستنارة بنوره..

كان الشيخ يتابع كل ذلك باهتمام، ويوصيني أن أحسن اختيار ما أقرأ في المرحلة الأولى، حيث تكون القابليات قوية للاستفادة وادخار المعلومات، فالنفس في بداية انطلاقها قد لا تحسن الاختيار إلا إذا كان تكوينها قوياً وراسخاً.

في هذه المرحلة التي امتدت لفترة سنتين كان البحث عن الذات واضحاً من خلال تلك الجولة الثقافية في عالم الكتب والمعرفة والثقافة، وأصبحت أكثر قدرة على فهم آراء الشيخ ومتابعة أحاديثه ومذاكراته، اكتشفت البعد الإنساني في هذه الأفكار..

أسلوب التلقي لم يعد كما كان، أصبح التلقي أداة للفهم، واكتشفت أن عالم المعرفة واحد لا يتجزأ، وأن المعرفة لا تقود إلى ضلال أبداً فالضلال هو نتاج الجهل بالمعرفة، ضلال المعرفة لا يخرج عن إطار التدافع للبحث عن الحق والصواب، أما ضلال الجهل فهو ضلال مظلم، وهو كالكهف المهجور الذي لا يدخله النور أبداً…

تذكرت كلام الشيخ وهو يقول لي: العلم كله محمود والمعرفة كلها نور، فما يذم العلم لذاته ولا تذم المعرفة لذاتها، وإنما يذم الاستخدام السيء للعلم بما لا يفيد الإنسان أو بما يضره، فالذم يرتبط بالإنسان والإنسان الكامل يرتقي بمستوى فهمه لدور العلم في تكريس قيم الخير في المجتمع، والمعرفة هي التي تعطي للفضائل السلوكية أبعادها الإنسانية لكي تكون في مستوى وعي الإنسان.

ولأول مرة بدأت أتأمل سلوكيات البشر كما هي، فأرى فيها الجميل والقبيح، وأميز فيها بين الحسن وغير الحسن، واكتشفت أن الظاهر ليس هو الباطن، وما يتراءى للناس من أنواع السلوك ليس هو الحقيقة، وأن الدين له ظاهر مرئي وله باطن يدرك بالبصيرة، وغاية الدين هو إصلاح الحياة والارتقاء بمستوى وعي الإنسان وسلوكه.

واكتشفت أن الشيخ على حق في توجيه اهتمامه إلى الأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمعات الإسلامية الملتزمة بأداء الفرائض الدينية، وأهم هذه الأمراض الاكتفاء بالظاهر وإغفال الثمرة المرجوة، والتي تحض على المحبة والألفة والإيثار والصدق والإخلاص. والابتعاد عن الأحقاد والأطماع والحسد والعجب والاستكبار، فالعبادات في الإسلام هي فرائض عينية وهي في الوقت ذاته وسائل تربوية لتهذيب النفوس وتزكيتها والارتقاء بمستوى سلوكها، لكي يكون الخير هو ثمرة الدين في المجتمع والعمل الصالح هو أداة التمييز والتفاضل بين الإنسان والإنسان، وبين الشعوب والحضارات والثقافات….

ما سمعته من الشيخ كان يمثل الركيزة الأساسية بالنسبة لي، كل فكرة جديدة كنت أنظر إليها عبر التراث التربوي الذي ترسخ في كياني، وكلما تفتحت لي فكرة جديدة أو لاحت لي من بعيد بارقة غير معهودة نظرت إليها من خلال القيم التي ترسخت في ذهني، كنت مشدوداً إلى ذلك الموروث الروحي وكأنه يمسك بي بقبضته ويعيدني إليه، كنت أسافر في رحلات بعيدة عبر تلك الفضاءات الثقافية وسرعان ما يشدني الحنين إلى وطني الأول حيث ولدت وعشت طفولتي الدافئة.

لا أدري هل كان ذلك شيئاً حتمياً بالنسبة لي أم إنني اخترت ذلك المسلك بمحض إرادتي، لأنني أحببته ووجدت فيه ذاتي، رحلاتي لم تنسني ذلك الحي الدافىء الذي أمضيت فيه طفولتي، ذلك الصخب والضجيج الذي رافق حياتي الجديدة كان ممتعاً إلا أنني كنت أشتاق في أحيان كثيرة إلى ذلك السكون الروحي، هو شوق إلى شيء ما لا أدري حقيقته.

عندما غادرت مدينة حلب في رحلتي الدراسية إلى دمشق والقاهرة كان الأمل يدفعني إلى اقتحام ذلك المجهول، وبدأ التدافع والتغالب بين إرادتين إرادة البقاء وإرادة الرحيل، وفي الحقيقة كانت الإرادة واحدة هي الرحيل في مواجهة الدفء الروحي والسكن النفسي، إرادة الرحيل كانت هي الأقوى، لأن الطموح لم يكن لأجل العلم ولا لأجل الشهادة ولا لأجل الشهرة والجاه وإنما هو طموح إلى الكمال ولا حدود للكمال. فالتعلق بالكمال يدفع صاحبه إلى المجهول حيث كان، لأنه يرى في ذلك المجهول بحثاً عن الذات وهي رحلة شاقة إلا أن النفس تستعذبها وتميل إليها وتنساق وراءها.

في دمشق عالم جديد، وفضاء فسيح، كنت أحاول أن أجد ذاتي في تلك الفضاءات العلمية الواسعة، أحببت العلم وتعلقت به، وطرقت أبوابه واقتحمت حصونه، أسعدني ذلك لأنني وجدت ذاتي من خلال الانصراف إلى العلم، كنت أنهل من ذلك البحر الواسع وكأنني في حالة نهم مرضي..

لم يتوقف حنيني إلى أمسي القريب في مجالس الشيخ الروحية، وبحثت عن ذاتي الأولى من خلال بحثي عن مظان هذه المجالس في البلدان التي أقمت فيها، ورأيت الجديد في أشكال مختلفة، رأيت طقوساً منقولة ومكررة، واكتشفت أن عالم الروحيات هم العالم الأكثر غموضاً والأقل استقامة، والصادقون فيه قلائل، والمخلصون فيه نوادر، كلهم يدعون وصلاً بليلى، طمعاً في دنيا يصيبونها أو جاهٍ يلتمسونه عند عوام الناس، والجهل فيه فاش بين الأتباع والطمع فيه ظاهر بين أدعياء الولاية، والاستقامة فيه قليلة…

رأيت مخلصين صادقين هم مظان الصلاح والولاية، إلا أن ظاهرهم لا ينبىء عن حقيقتهم، تراهم وتعجب باستقامتهم ودينهم، إيمانهم عميق وعبادتهم صادقة، ليسوا بأهل دعوة وطريقة، قلوبهم معلقة بالله، إذا رأيتهم رأيت إشراقة النور في وجوههم، هؤلاء ممن يرجى دعاؤهم يعملون الخير لأنهم لا يحسنون غيره.

ومن المؤسف أن تختلف الأمور وأن يدعي الجهلة انتماءهم للتصوف، ومعرفتهم بأسراره وأحواله، ويتكلمون بما لا يفهم من الأفكار والأحوال، فيغتر العامة بما يسمعون، طمعاً في رزق يبشرون به، وجاه يبحثون عنه ويرجون أن يسمعوا من أخبار الغيب ما ترتاح إليه نفوسهم، وهذا دليل على الجهل بالإسلام، وليست هناك آفة تقود المجتمع إلى التخلف مثل الجهل بأمور الدين.

كنت في مثل هذه المواقف استحضر شخصية الشيخ، وأقارن ما أسمعه بما كنت أراه قبلاً من حياة الشيخ وصدقه في كلامه فتعود لي الثقة بأصالة هذا النهج، ولولا ما كنت أعلمه وأراه وأشاهده لأنكرت حقيقة هذا الأمر وحذرت من خطره، بسبب ما أصاب هذا المنهج الصوفي من تشويه وتضليل على يد من ادعوا المشيخة الصوفية وهم عنها مبعدون بسبب تعلقهم بمطامعها الدنيوية، واستغلالهم جهل العامة للتحكم في عقولهم…

ابتعدت كلياً عن هذا الطريق الذي اكتشفت الجديد من أمره، لم أنكره لأنني نشأت في رحابه النظيفة وآفاقه الأخلاقية وقيمه الأصيلة، ولم أقبل صورته القاتمة كما بدت لي من خلال ما رأيته، وأقبلت على العلم لعلي أجد فيه الصورة المثلى النقية الصادقة، ولا يمكن للعلم إلا أن يكون مضيئاً للعقول….

( الزيارات : 1٬745 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *