أهمية مراعاة الفضيلة في تفسير النصوص القانونية المتعلقة بالأسرة

أهمية مراعاة الفضيلة

في تفسير النصوص القانونية المتعلقة بالأسرة

مسؤول

  

  • بحث مُقَدَّم إلى جامعة الصحوة الإسلامية في دورتها الخامسة في موضوع “حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام” التي نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب (رجب 1419/أكتوبر 1998).

 

يعتبر تفسير النص التشريعي والقانوني من أصعب المهمات التي تعترض طريق القضاء، ويحتاج التفسير إلى موهبة خاصة تتمثل في امتلاك المفسر لناصية الفهم السليم الذي يتفق مع أهداف الشرع ومقاصده، كما يحتاج التفسير إلى قدرات علمية متميزة تمكّن المفسّر من معرفة الدلالات اللفظية..

وعندما يفقد المفسر أحد هذين الشرطين الذاتي والعلمي فإن من الصعب عليه أن يتوصل إلى المعنى المُراد الذي يتفق مع إرادة المشرع في تشريعه للأحكام بحيث يكون الحكم المستنبط متفقاً مع مقاصد الشرع وروحه..

وتختلف طبيعة التفسير القضائي عن التفسير الفقهي من حيث طبيعة الحكم المستنبط، فبينما يراعي الفقيه الدلالة اللفظية للمفردات اللغوية، مستعيناً بذلك بالقواعد الأصولية المنظمة لعملية الفهم والاستنباط فإن القاضي يأخذ بالاعتبار روح الشريعة ومبادئ العدالة، لئلا يؤدي تفسيره للنصوص إلى منافاة روح الشريعة في حرصها على احترام قيم الفضيلة ومبادئ العدالة.

ولا يمكن للقضاء أن يتجاهل أهمية مراعاة القيم الإنسانية في تفسير النصوص التشريعية، ويعتبر القضاء من أهم المصادر التي أغنت الفقه الإسلامي بالآراء والاجتهادات، وعندما يتولى الفقيه مهمة القضاء فإن إطار رؤيته يتسع لكي يستوعب كل الوقائع والأحداث والاحتمالات الممكنة التي مرت عليه في حياته القضائية..

والأقضية الصادرة عن القضاة مصدر مهم من مصادر المعرفة الفقهية، لارتباط القضاء بحياة الناس، ويكفل القضاء للفقه أن يتجدد في كل عصر بالنوازل المستجدة التي تفرض على القاضي أن يحكم فيها، معتمداً في ذلك على بصيرته الفقهية المستمدة من علمه وتجربته..

ومن اليسير علينا أن نكتشف حجم التلاحم بين الفقه والقضاء، فالفقه يمد القضاء بالفهم والقضاء يمد الفقه بالتجربة، وكل منهما يحتاج إلى الآخر، في إغناء الثروة الفقهية، التي تعتبر من أهم مصادر القضاء، فالنظر الفقهي يحتاج إلى التأمل في الفهم وإلى التوسع في الاستنباط، والحكم القضائي يتصف بالواقعية والمرونة لأنه مرتبط بحياة الناس ومصالحهم وحقوقهم..

والتجديد في مجال الفكر الإسلامي لا يتمثل في تجاوز النصوص الثابتة وتجاهلها، لأن تجاوز النص هو إهدار لذلك النص وهدم له، وإنما يتمثل التجديد في تجديد العلاقة بين النص والعقل، في إطار التكليف، بحيث يكون المُخاطَب بالنص في موطن المسؤولية عن فهم ذلك النص مُراعياً بذلك كل الضوابط الخاصة بالاجتهاد السليم..

وتعتبر “الفضيلة” المعبرة عن المصلحة الاجتماعية والمحكومة بقواعد العدالة والمقيدة بمقاصد الشريعة هي الإطار العام لفهم النصوص، فالحق في نظر الفقه الإسلامي هو المصلحة المُعترَف بها شرعاً والمعبّرة عن الفضيلة بمفهومها الأخلاقي، ولا يمكن للحق في نظر الفقهاء المسلمين أن يكون منافياً للفضيلة الاجتماعية، المرتبطة بمصالح الناس والمقيدة بضوابط العدالة.

وتبرز الحاجة إلى الفضيلة كمعيار تشريعي وأخلاقي في جميع الأحكام المرتبطة بالمعاملات الإنسانية، وتشتد هذه الحاجة بصورة واضحة وملحّة في مجال الأحكام الفقهية المرتبطة بالأسرة، لأن هذه الأحكام شديدة الصلة بالعلاقات الإنسانية المؤثرة في السلوك والعواطف والمشاعر، ولا يمكن تجاهل مفهوم الفضيلة بمفهومها الإنساني في علاقات الفرد بزوجته وأولاده وأبويه، سواء في مجال الحقوق الإنسانية المتمثلة في أحكام الزواج والطلاق والحضانة أو في مجال الحقوق المالية المتمثلة في أحكام النفقات.

وبالرغم من وجود قوانين تنظم أحكام الأسرة وتراعي قواعد العدالة في إقرار تلك القوانين فإن القضاء يقف حائراً متردداً أمام وقائع ونوازل يختلف النظر فيها بحسب كل واقعة، لاختلاف الطبائع الإنسانية والبيئات الاجتماعية، ويقف كل فرد مدافعاً عن حقه كما يراه بنفسه، متجاهلاً حقوق الآخرين، منكراً على القانون حكمه، مطالباً بالتغيير والتبديل، وكأن القانون له وحده وليس لغيره..

ولو وقفنا وقفة إنصاف لأدركنا أن قانون الأسرة ينظر إلى الأمور نظرة شمولية، ويضع الأحكام التي توفر العدالة والإنصاف وتحمي الأسرة من التفكك والانهيار، وتضع ضوابط للرضاعة والحضانة والولاية والنفقات لحماية قيم إنسانية ثابتة..

والشريعة الإسلامية اتسعت لجميع الآراء الفقهية ونجد فيها من الآراء والاجتهادات ما يجعل جميع أوجه النظر في موطن الاهتمام والرعاية، وإذا ضاق رأي فسرعان ما نجد السعة في رأيٍ آخر، في جهدٍ متكامل معبر عن كل التصورات الممكنة.

ولا يمكن تجاهل التطورات الاجتماعية والاقتصادية والعوامل الثقافية التي جعلت مجتمع اليوم يختلف عن مجتمع الأمس، وجيل الآباء يختلف عن جيل الأبناء، إلا أن هذه التطورات والعوامل لا يمكن لها أن تُلغي القيم الاجتماعية السائدة والأعراف والعادات والتي مازال مجتمعنا مؤمناً بها متمسكاً بناصيتها، حريصاً على استمرارها لأنها من ركائز الاستقرار الاجتماعي، فالأسرة في مجتمعنا الإسلامي مازالت متماسكة متكافلة، ومازالت مؤسسة الزواج هي الخلية الأولى في بناء المجتمع وفي استقراره، ولا يمكن إقرار أحكام سريعة لتفكيك الأسرة وهدم أركانها، تحت ضغط ظروف استثنائية وممارسات تعسفية.

وهذا لا ينفي الحاجة إلى إعادة النظر في قوانين الأسرة لكي تستجيب للحاجات الاجتماعية، ولكي تعبر بصدق وأمانة عن أخلاقية فقهنا وعدالة أحكامنا وسمو رؤيتنا لطبيعة العلاقات الإنسانية، فالقانون يجب أن يجسد مفاهيم العدالة، وأن يراعي معاني الفضيلة في أبعادها الأخلاقية والإنسانية، وقانون الأسرة هو القانون الأهم في حياة الفرد والمجتمع، لارتباطه الكامل بالحياة الخاصة للإنسان سواء في علاقته مع زوجته وأولاده أو في علاقته مع أهله وأسرته، وهو العامل الأهم من عوامل الاستقرار النفسي والأمن الاجتماعي..

إن تماسك الأسرة وصمودها في وجه التحديات يكمن في عدالة قانون الأسرة الذي يجب أن يجسد القيم الإسلامية الحقيقية المستمدة من روح القرآن والسنة ومقاصد الشريعة التي تحرص على احترام إنسانية الإنسان وتحريره من العبودية المذلة والظلم الناتج عن تفاوت في القدرات الإنسانية، والإمكانات المادية..

والحق سلطة معترف بها في نظر الشرع والقانون إلا أن هذه السلطة ليست سلطة استبداد وليست سلطة مطلقة، ولا بد لها من قيد، وأهم ما يقيد هذه السلطة أمران:

الأمر الأول: أن يمارس صاحب الحق سلطته في إطار الفضيلة الاجتماعية التي تجسدها المصالح المعترف بها لأصحابها والتي تمثل مبادئ العدالة التي جاءت الأديان لإقرارها وتكريسها والدفاع عنها، ولا يمكن لصاحب حق أن يدعي لنفسه سلطة مطلقة في ممارسة حقوقه المشروعة، فالحق يمارس بطريقة عادلة ومن غير تعسف ولا إضرار بالآخرين، فإذا ترتبت على ممارسة الحق مفاسد اجتماعية وجب على ولي الأمر أن يتدخل من باب السياسة الشرعية لتقييد الحقوق بما يتفق مع غايتها المشروعة وبما يرفع الظلم الناتج عن ممارسة حق بطريقة خاطئة وبخاصة في حالات التعسف في استعمال الحق والذي يتمثل في استهداف إلحاق ضرر مقصود بالآخر، أو استغلال ظروفه وحاجاته، فالأنانية في استعمال الحق تؤدي إلى فوضى اجتماعية وتجعل النفوس مهيأة لسلوكيات خاطئة ومنحرفة للدفاع عن ذاتها في لحظة الإحباط النفسي، والتزام الفضيلة في مفهومها الأخلاقي والإنساني يجعل الحقوق أداة لتحقيق العدالة في مفهومها الإنساني، ويخفف من حجم المعاناة التي تتولد من استعمال الإنسان لحقوقه..

وسلطة ولي الأمر واسعة في الدفاع عن قيم الفضيلة وفي إقرار مبادئ العدل، عن طريق وضع قوانين للأسرة تحترم إنسانية الإنسان في إطار المرجعية الشرعية، وفي ظل الالتزام بإسلامية المنطلق وأخلاقية السلوك، وشمولية الرؤيا للقضايا الإنسانية.

الأمر الثاني: مراعاة المقاصد الشرعية، وهذه المقاصد هي الغايات المرجوة من إقرار الأحكام، ولا يمكن فصل الحكم الشرعي عن مقاصده، لأن مقاصد الشريعة ثابتة بالنصوص المتواترة، ولا مجال للتشكيك في قطعية ثبوتها ودلالتها، وجاءت الشريعة لإقرار القيم الإنسانية وللدفاع عن مبادئ العدالة ولمواجهة المظالم الاجتماعية، وكل حكم يؤدي إلى ظلم فليس من الشريعة.

 وبناءً على هذه الأسس فإن قانون الأسرة يجب أن يراعي المصالح الاجتماعية، وأن يبرز القيم الإنسانية في إقراره للأحكام، وأن يعبر عن احترام الإسلام لحقوق الإنسان، وهذه الأهداف واضحة في الأحكام الفقهية المتعلقة بالأسرة، وإذا ضاق مذهب فمن اليسير أن نجد السعة في مذهب آخر، لأن الفقه الإسلامي يشمل كل ذلك التراث الفقهي من الاجتهادات والأقضية والفتاوى والنوازل وما جرى عليه العمل، وكل ذلك يدخل ضمن الفقه الإسلامي المستمد من مصادره المعتمدة.

وليس هناك من الأدلة ما يمنع من الاستفادة من آراء الفقهاء الملتزمين بقواعد الاستنباط السليم والذين يقيمون الدليل على آرائهم، فعظمة فقهنا الإسلامي تتمثل في قدرة مصادره على إمداد هذا الفقه بفكر جديد واجتهادات جديدة تجعله الفقه المتجدد بعطاءات الأجيال المتعاقبة من الفقهاء القادرين على الفهم والاستنباط..

والمذهبية الفقهية أداة لتنظيم عملية الاجتهاد وإيجاد بنية فقهية متكاملة معتمدة على أصول موحدة، تساعد الفقيه على الفهم، وتيسّر له أسباب الاستنباط، والمذاهب الفقهية متكافلة في التعبير عن حكم الشرع في الوقائع والنوازل ولا يمكن للمذهبية أن تغلق أبواب الاستفادة من المذاهب الأخرى، في بعض الأحكام التي تبرز الحاجة فيها إلى درء مفسدة أو جلب مصلحة، وقانون الأسرة هو القانون الأهم الذي ينظم العلاقات الإنسانية، ولا بد من مراعاة اختلاف البيئات الاجتماعية والأعراف السائدة، فما يعتبر مقبولاً في مجتمع قد لا يكون مقبولاً في مجتمع آخر، وما ترتضيه بيئة لتنظيم العلاقات بين أفراد الأسرة قد لا ترتضيه بيئة أخرى، وما كان بالأمس مقبولاً قد لا يكون اليوم كذلك، لاختلاف الزمان والمكان، وهذه العوامل مؤثرة في النظر الفقهي، ولا يمكن إنكار أثر هذه الاختلافات في تكوين عقلية الفقيه، وصياغة ملَكته الفقهية..

ومن المستحسن في هذا المجال أن نضع أهم الضوابط التي يمكن أن يُستفاد منها في مجال القوانين المنظمة لأحكام الأسرة:

أولاً- يجب أن نحافظ على إسلامية هذه القوانين فأحكام الدين في نظر المسلم مقدسة ومحترمة، ولا يضيق المسلم بما أقرته عقيدته، وبما جاء في كتاب الله  وسُنّة رسوله..

ثانياً- الاستفادة من الفقه الإسلامي كله، واعتماد منهج التأصيل الشرعي المعتمد على الأدلة في الترجيح والاختيار وهذا لا يمنع من التزام المذهبية واحترام المذهب السائد، كإطار أساسي لاختيار الأحكام، لارتباط الأعراف والتقاليد بذلك..

ثالثاً- مقاومة أية دعوة مشبوهة لتجاوز الأحكام الشرعية كلياً أو جزئياً في قوانين الأسرة، لأن هذا التجاوز يضعف من قدسية هذه القوانين، ويجعلها في مرتبة القوانين الوضعية التي يقع التحايل عليها، لافتقادها لصبغة الاحترام التي تُضفيها العقيدة على الأحكام.

رابعاً- مراعاة المصالح الاجتماعية، وتطبيق القانون في إطار القيم الإنسانية واحترام حقوق الإنسان، فلا شرعية لحكم يناقض الأصل الذي بُنيت عليه الأحكام وهو درء المفاسد، والظلم مفسدة، فإذا ثبت الظلم وجب رفعه لأن الشريعة لا تقر ظلماً..

خامساً- اعتماد مبدإ الفضيلة كقيد من القيود التي يعتمد عليها المشرع الوضعي في صياغته لأحكام الأسرة، كما تعتبر الفضيلة في بُعدها الأخلاقي والإنساني هي الإطار الذي يلتزم به القضاء في تفسيره للنصوص القانونية.

ويجب أن نضع في الاعتبار أن قانون الأسرة يضع أحكاماً للمجتمع كله، في الأرياف والمدن، ولجميع الطبقات الاجتماعية المختلفة في تكوينها الثقافي وفي نظرتها لقيمها الاجتماعية، ولا يمكن لفريق من المجتمع أن ينظر إلى هذا القانون من زاوية نظرته الضيقة متجاهلاً حقوق الآخرين ومصالحهم، فما يطالب به البعض قد لا يرتضيه الآخرون، ولا بد من مراعاة ذلك واحترام المصالح لجميع الفئات في إطار الالتزام بالأخلاقية الإسلامية في مجال الحقوق.

( الزيارات : 971 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *