أثر الدين في استقرار المجتمعات

كان الدين وما يزال هو العمود الفقري للنظام السياسي، وهو العامل الأهم في استقرار الملكية، وهو الذي الدينية، والتراث الديني حافل بالنصوص والقيم التي تفرض طاعة ولي الأمر، وتحذر من الخروج عليه ومخالفة أمره، انطلاقا من البيعة الشرعية التي تعتبر العقد الملزم الذي يتعهد فيه المحكوم بطاعة ولي الأمر، والعلماء في المغرب يحظون بمكانة الاحترام والرعاية والتكريم، ويقبل منهم ما لا يقبل من غيرهم، وكان لهم دور فعال في تاريخ المغرب السياسي، وكانوا دائما في ركب السلطان كوزراء ومستشارين نظرا لمكانتهم الشعبية والعلمية، ولما تراجع دور العلماء بتأثير تراجع مكانتهم الاجتماعية احتفظ المغرب لهم بهذه المكانة رعاية لهم، وهم يكتفون بالقليل من الرعاية بعد أن كانوا شركاء في الحكم، والسلطة تحترم القوة، وهي تريد أن تأخذ أكثر مما تعطي، والحاكم لا يضيع وقته بالعبث، ولا يستميل إلا الأقوياء، والضعفاء لا مكان لهم في مجالس الحكام، إلا عندما تقع الحاجة إليهم لمخاطبة العامة.. 

لقد فقد العلماء في المجتمعات الاسلامية مكانتهم في نظر العامة، ولم يعودوا كما كانوا رموز المواقف الوطنية وأبطال الجهاد والمقاومة وقادة المواكب المدافعة عن الحريات العامة والحقوق الإنسانية، وأصبحوا مجرد موظفين لدى الأوقاف يشرفون على أداء الشعائر الدينية ويفتون في قضايا الحلال والحرام ويتحدثون عن مواقف مؤثرة في تراثنا الديني، ويتجاهلون دورهم القيادي في المجتمع كدعاة للحق يناصرون المستضعفين ويسهمون في نهضة مجتمعهم..

في تاريخ مصر كان الأزهر قلعة الإسلام الحصينة، وكان علماؤه هم قادة الأمة ورجالاتها، إذا غضب الأزهر أو وقع تجاهله اهتزت الأرض وتحركت الجماهير لنصرته وخاف الحكام ورضخوا لإرادة العلماء، ولما أصبح الأزهر إدارة تابعة للدولة يتلقى القائمون عليه توجيهاتهم من الأجهزة الأمنية المختصة التي تأمرهم فيفعلون فقد الأزهر مكانته وهيبته في نظر المجتمع ولم تعد له مصداقية على مستوى العالم الإسلامي..

تاريخنا مليء بذكر أعلام كانوا بالنسبة لعصرهم رموز الكلمة الناصحة والمواقف الشجاعة، ورأيت نماذج من هؤلاء في جيلنا، وهم قلة، والقليل من هؤلاء يكفي، ومن أبرز من عرفت الأستاذ علال الفاسي في المغرب وكان من الرجال الذين يفخر بهم عصرهم جهادا و فكرا.

ومن المؤسف أن المواقف الجهادية التي كانت في الماضي مفخرة لأصحابها لم تعد اليوم كذلك، فقد اختلطت الأوراق وتعددت المصطلحات، وأطلق الإعلام الأوروبي قذائفه على معاقلنا التي لم تعد حصينة، فاختلط الحابل بالنابل، وتداخلت لفظة المقاومة بالإرهاب، ولم نعد نفرق بين ما هو صحيح وخاطئ، وبين ما هو مجاهد ومخرب، وتصدى بعض الجهلة بسبب سذاجة أفكارهم لرفع شعارات خاطئة ولارتكاب أفعال مخجلة، ووجهوا بنادقهم نحو مجتمعاتهم لنشر الفتنة والفوضى وتقويض الاستقرار..

ليست هذه هي المقاومة المشروعة، وليس هذا هو طريق الجهاد الصحيح، ولابد من وقفة عاقلة لتصحيح المفاهيم ووضع معايير سليمة للمقاومة التي تستهدف تحرير الأرض وتحقيق النصر..

ووقف العقلاء في زاوية منعزلة بعيدة عن المواكب التائهة في صحراء محرقة، يحذرون حينا وينصحون حينا آخر، ويرفعون أصواتهم العاقلة الرزينة فلا يسمع احد ما يقولون، وتسير القافلة التائهة، وهي لا تدري إلى أين تسير..

ليس هذا هو طريق الجهاد والمقاومة، وليس هذا هو منهج الإصلاح ودرب التحرير…لقد تداخلت الأمور والتبست المقاصد، وانعزل العقلاء وضاعت في الزحام صيحة الحكماء، ولم يعد هناك من قائد أو موجه أو ناصح أو كبير يحتكم إليه، وما يجري الآن على الساحة لا تستسيغه العقول، ولا يحقق فائدة مرجوة، كنت أتأمل ما يجري على الساحة العربية والإسلامية، وأرقب المشهد وأقف حائرا مترددا لا ادري أي الطرق هو الأصح والذي يقود إلى الحق…كل طرف يدلي بحجته ويدافع عن وجهة نظره، وعندما كنت أنصت لأي فريق التمس له العذر فيما سار فيه وأخذ به، قد أعاتبه على تجاوزاته ولكنني في أعماق ذاتي كنت أتفهم اختياره..

أليس جميع هؤلاء هم أفراد هذه الأسرة، أليسوا طرفا أساسيا في المعادلة، أليسوا هم أصحاب البيت، ويملكون من الحقوق ما يملك غيرهم، لو استشيروا في أمرهم لما خرجوا عن الجادة، ولو اعترفت الأسرة بكل أعضائها لما تمرد الصغار على الكبار ولما ارتفعت أصواتهم بالاحتجاج والإنكار.

شيء ما خاطئ في مسيرة هذه الأمة، خلل ما في جسد هذه الأمة هو الذي يرفع حرارة الأبدان، وقبل أن نمسك بالعصا والسيف والبندقية لكي نخيف بها المستضعفين اليائسين المهمشين علينا أن ندعو هذه الفئة الغاضبة المتمردة لمائدة حوار عائلية نسمع منهم ما يؤلمهم، ونصغي إلى ما يشتكون منه، نشعرهم بذلك الدفء العائلي الذي افتقدوه منذ نعومة أظافرهم..

هناك حقوق إنسانية لكل فئات الشعب، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، حاكمهم ومحكومهم، قويهم وضعيفهم، ولا يمكن تجاهل هذه الحقوق، فالمستضعفون في حالة اليأس والإحباط هم الأقوى، والمحكومون إذا نفذ صبرهم بسياسات الإذلال يخيفون بأنيابهم الحادة أقوى الجيوش المحصنة بالأسلحة الفتاكة..

كنت أدين كل مظاهر العنف المخجل الذي يلجا إليه اليائسون المحبطون من أبناء هذه الأمة، وكنت أتألم لأولئك الأبرياء الذين يسقطون في الساحات العامة ولا يعرفون سببا لترويعهم والعدوان عليهم، ولا يمكن لعاقل أن يقبل هذه السلوكيات مهما كانت أسبابها، وفي الوقت ذاته كنت أسائل نفسي عن  الأسباب التي دفعت هؤلاء لهذه الأفعال المنكرة، وقد سدت في وجوهم كل النوافذ المضيئة ، وكممت أفواههم لكيلا تنطق بما ترى وتسمع، وجردوا من أي حق من حقوقهم، وسلطت عليهم أجهزة قهر وإذلال ترقب حركتهم في ليل ونهار تحصي عليهم أنفاسهم إذا استنشقوا هواء نظيفا..

ما اشق هذه المعادلة، والى أي فريق يجب أن ينحاز العقلاء والحكماء… فهل ينحازون إلى السلطة الحاكمة المستبدة المحمية بسيوف القوة حماية لمصالحهم المادية وطمعا في مكاسب يرتجونها أم يتعاطفون مع أولئك المهمشين المستضعفين المحبطين الذين تسمع أنينهم في الليالي المظلمة وهم يتألمون من الجوع والمرض..

أحيانا كنت ارفع صوتي في بعض المؤتمرات والندوات وفيما كنت اكتبه من مقالات مذكرا الحكماء بضرورة الالتفات إلى إصلاح الأوضاع وتصحيح المعادلات واحترام إنسانية هؤلاء الضعفاء ومراعاة مشاعرهم بالتخفيف من سلوكيات التحدي سواء بمظاهر الترف أو بتجاهل المطالب الضرورية في الحريات العامة..

عندما كنت أزور بلدا عربيا لحضور مؤتمر علمي والتقي بالطبقة الأولى من مفكري جيلنا المعاصر ومثقفيه كنت ألاحظ الفجوة الكبيرة بين ما نفكر فيه وما نعيشه، فما نفكر فيه لا يخرج عن إطار المنهج التقريري الذي لا علاقة له بالواقع وكأننا نحاور تراثنا في قضايا لا علاقة لها بالواقع، فما نقوله لا يعني جيلنا، ولا يعبر عنه، أما ما نعيشه فهو أمر ينظر إليه من عل، بأسلوب الاستعلاء والتجاهل لحقيقة المشكلات الحقيقية…

وأحيانا كنت أحاور أصدقائي وزملائي في هذه اللقاءات بما كنت اشعر به، واكتشف أن الكل يفكر بما كنت أفكر فيه، ولا احد يمكنه أن يعبر عن هذه الحقيقة مكتفيا بالقول: هذا ما يمكن أن يقال، ولا يمكن أن يقع تجاوز ما هو مرسوم ومخطط لهذه اللقاءات..

هناك شيء ما يراد أن يقال… وتعقد هذه اللقاءات لهذا الهدف، وعندما يقع تجاوز ما هو مرسوم سرعان ما يمسك المشرفون على هذه اللقاءات بالمقود ويعيدون القافلة الشاردة في بحار البحث عن الحقيقة إلى الشواطئ الآمنة معلنين بذلك نهاية الرحلة..

وليست بلادنا سواء في مدى قبولها لما تنتجه العقول من أفكار التصحيح والتجديد، ولا بد من التصحيح والتجديد، والتجديد لا يأتي إلا بخير على المدى الطويل، ولا بد من تحرير الأفكار من سيطرة أصحاب المصالح الذين يخشون على مصالحهم أن تنتقص أو يقع تجاوزها..

( الزيارات : 1٬461 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *