أزمة البحث عن هوية في مواجهة الحضارة الغربية

بحث عن هوية

في مواجهة الحضارة الغربية*

للدكتورمحمد فاروق النبهان

 

أصبحت قضية العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب من أبرز القضايا المعاصرة التي انصرف إليها اهتمام الباحثين المعاصرين، ومن الصعب فهم ظاهرة التطرف التي أصبحت اليوم القضية الأولى في مجال الإعلام السياسي قبل البحث عن المرحلة التاريخية التي تعيشها أمتنا، ولا شك أن السلوك الإنساني هو وليد مشاعر وأحاسيس نفسية تتفاعل في وجدان الفرد، ثم تبرز كظاهرة عامة عندما تتلاقى السلوكيات الفردية وتتوافق، وتجد نفسها في ساحة واحدة أو في ساحات متجاورة تتحرك حركة متجانسة أو متشابهة.

ولسنا اليوم في موقف التأييد أو التنديد بظاهرة التطرف، التي أصبحت من معالم الشخصية الإسلامية، مع أننا نعرف جيدًا أن الشخصية الإسلامية أقرب إلى الاعتدال وأبعد عن العنف بفضل التربية الإسلامية التي تنمي معاني الكرامة الإنسانية وتحض على قيم التعايش والتساكن بين الأديان السماوية.

والحضارة الإسلامية ليست حضارة عنصرية ولا قومية، وإنما هي حضارة ذات تكوين شمولي، أسهمت شعوب كثيرة في صياغة معالمها وأفكارها، وحملت مشعلها أمم كثيرة في الشرق والغرب، ومازالت الشخصية الإسلامية تأنف من فكرة القوميات الضيقة والجهويات الجغرافية.

وهذه الحضارة وليدة تفاعل ثقافي بين شعوب ذات تاريخ كبير، أسهمت في حركة التاريخ، وأضافت الكثير من عطائها في مجال تطوير الفكر الإنساني، وما زلنا نذكر بإعجاب إسهام علماء الإسلام في مجال العلوم المختلفة والآداب والعلوم الإنسانية.

والصحوة الإسلامية المعاصرة ليست وليدة صدفة، وليست أمرًا مفاجئًا، وإنما هي تطور حتمي لنمو حركة الوعي الثقافي في البلاد الإسلامية، وبخاصةً بعد أن استطاعت هذه البلاد أن تحقق استقلالها السياسي بعد جهاد وتضحيات، ومازالت تريد تحقيق استقلالها الفكري والثقافي، وأن تستكمل حريتها في ممارسة كامل حقوقها في كل ما يتعلق بقراراتها ومصالحها الحيوية.

إن الأزمة اليوم هي أزمة البحث عن هوية، أزمة أمة تريد أن تمارس سيادتها على أرضها، من غير وصاية أو تدخُّل، وهذا حق مشروع، ولهذا فإن حركة المجتمع الإسلامي المعاصر تتجه نحو تحقيق أهداف محددة، وهذه الأهداف هي المكونات الحقيقية للهوية الذاتية.. وتتمثل في ثلاثة اتجاهات:

أولاً: الاعتزاز بالعقيدة الإسلامية، نظرًا لأن الإسلام يمثل الامتداد الطبيعي لشخصية المواطن، والمسلم يجد ذاته في الإسلام، فكرًا وعقيدةً وثقافةً وتاريخًا، ومن هذا المنطلق برزت ظاهرة الصحوة الإسلامية، وهي ظاهرة حتمية، وسوف يزداد تعلُّق المسلم بعقيدته، والصحوة الإسلامية هي تجسيد لمعنى الانتماء، وليس لها أي صفة عدوانية، والانتماء حق طبيعي، وعندما يقع الاعتراف للمواطن بحقه في التعبير عن انتمائه فمن الطبيعي أن تنمو الظاهرة نموًا عاديًا وهادئًا، وعندما يقع التصدي لها بالعنف، فمن الطبيعي أن تبحث عن مسارات خاطئة تعبر بها عن ذاتها، كالمياه المتدفقة من أعالي الجبال إذا سدت مجاري الأنهار في وجهها فسرعان ما تقتلع الأشجار والزروع وتغرق المدن الآهلة بالسكان.

ثانيًا: التمسك باللغة، واللغة هي أداة التواصل بين البشر، واللغة العربية هي لغة القرآن، ولهذا حظيت بمكانة متميزة بين المسلمين، ومن حق شعوبنا العربية أن تدافع عن لغتها، لأنها رمز استقلالها، ورمز شخصيتها، وأسهمت هذه اللغة في تكوين ثقافة إسلامية متميزة، ولا يمكن إنكار حق أي أمة في الدفاع عن لغتها، لأنها تجد في مفرداتها اللغوية الموسيقى التعبيرية ذات الامتداد التاريخي والديني والأخلاقي والثقافي، فالمصطلح هو جزء من الشخصية الإنسانية، في لحظات التفكير والتأمل، ويملك قدرة مذهلة على الإيمان بأسمى العواطف والانفعالات والمشاعر..

ثالثًا: الاعتزاز بالتراث بمفهومه الشمولي الذي يجسد كل أنواع الموروث الفكري والثقافي والمواقف والتاريخ والأحداث وما تحتضنه الذاكرة من كلمات وعبارات وأمثال وقصص وأساطير، وما تعتز به الشخصية من أزياء معبرة وموسيقى شعبية وحركات فنية وآثار تاريخية..

ومن حق المواطن أن يبحث عن هويته، لأنها امتداده الإنساني، وأن يدافع عن تلك الهوية، وعندما يجد التفهم الواقي لتلك الأشواق والتطلعات فمن الطبيعي أن تهدأ نفسه، وأن يطمئن إلى واقعه ومستقبله، وعندما يشعر أن خطرًا يهدد هويته فسرعان ما يندفع بحذر وغضب، حاملاً مشعله المضيء يبحث عن ذلك الخصم الذي ينكر عليه حقه.

ومن المؤسف أن الإعلام الغربي من خلال مواقفه المعلنة تعامل بطريقة خاطئة مع تطلعات هذه الأمة للبحث عن ذاتها فنمت في أعماق النفوس حالة من الحذر والخوف أيقظت ذكريات قديمة مازالت ماثلة في الأذهان. وبخاصة وأن شعوبنا مازالت حتى اليوم تسمع من الآباء والأجداد تاريخ الحركات الوطنية التي حملت لواء الاستقلال، ومازالت الأحياء الشعبية تذكر باعتزاز جهادها الوطني وتردد أسماء الشهداء الذين قُتلوا دفاعًا عن كرامة الوطن والمواطن..

ونلاحظ أن الحضارة الغربية تعاملت مع الشعوب المتطلعة للحرية تعامل الغالب والمتفوق، وفرضت على شعوبنا سياسة الهيمنة والوصاية، وتدخلت في قضايانا الداخلية، وتصدت بطريقة غير ذكية لتطلّع شعوبنا للبحث عن ذاتها، مما أوجد حالة من الحذر والغضب تمثلت في مواقف الرفض والتمرد والعنف، وتكونت خلايا متمردة ثائرة رافضة وجدت في مواقف الغرب مطيتها في توسيع قاعدة التطرف.

وقد نتساءل عن سر التصادم والتنافر بين مدرستين، المدرسة الإسلامية التي أصبحت تمثل الاتجاه الثقافي والفكري الصاعد والمتنامي سواء على صعيد الطبقة المثقفة في الجامعات والمعاهد أو على صعيد المواطن العادي الذي يعيش في الأرياف والأحياء الشعبية وبين المدرسة العلمانية التي أخذت مواقعها وقلاعها تتساقط وتعلن ولاءها للمدرسة الإسلامية، مؤكدةً بذلك أصالة المنهج الإسلامية وحتمية انتصاره، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: تكامل المشروع الحضاري الإسلامي، وشمولية نظرته للحياة، وذلك لاشتماله على مقومات راسخة، تتمثل في العقيدة كمنطلق، والتشريع كنظام، والأخلاق كسلوكية، والتراث كذاكرة وطنية، والتاريخ كتجربة حية مؤثرة، وقد حقق هذا المشروع الإسلامي أهدافه في تكوين مجتمع إسلامي خلال فترة هامة من تاريخنا، وهو اليوم قادر على أن يقدم التصور المتكامل لحركة انبعاث جديدة، تلائم تطلعات الشعوب الإسلامية في التنمية والتحرير.

ثانيًا: فشل المشروع الحضاري الذي قدمته المدرسة العلمانية في تقديم تصورات فكرية وأفكار منسجمة، ويمكن وصف ذلك المشروع العلماني بأنه مجرد أفكار متناثرة ومتنافرة، اقتبسها رموز هذه المدرسة من أفكار غربية ومن كتابات فلاسفة الغرب من يسار ويمين، أرادوا من خلالها أن يقوموا بصياغة تصور متكامل، فوقعوا في تناقض مبين، ووجدوا  أنفسهم في أحضان مشروعات حضارية غربية تناقض كليًا مكونات الهوية، وتدخل في صراع مع ثوابت يؤمن بها شعبنا، سواء فيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين المجتمع والإسلام أو فيما يتعلق بالموقف من التراث وقيم الأصالة..

ولما اكتشف رموز هذه المدرسة العلمانية أن فكرهم يجسد الرؤيا الغربية وأنه يحقق هدفًا من أهداف المشروع الاستعماري في هدم أي تصور إسلامي للنهضة والتقدم، حاولوا ترميم هذا المشروع الحضاري بأسلمة بعض منطلقاته وإيجاد قنوات مع المدرسة الإسلامية لتأصيل بعض الأفكار، وهذه المحاولات محكوم عليها بالإخفاق، لأن المنطلق الأساسي لهذه المدرسة يقوم على أساس رفض الهوية الإسلامية كمنطلق للتغيير والتجديد.

وبالرغم من توافق الاتجاهات الإسلامية على وحدة المنطلقات، فإن هناك اختلافًا بينًا وواضحًا وعميقًا في الرؤية، بين الاتجاهات والمواقف والقناعات، وذلك بسبب اختلاف هذه المدارس في التفسير والاجتهاد والفهم، وكل اتجاه يتأثر بالبيئة المحيطة به وبالتصورات السائدة، والتطلعات الممكنة..

وتبرز هذه التعددية من خلال عاملين اثنين:

العامل الأول: الموقف من الحضارة الغربية، هل هو موقف تكامل أو موقف تناقض؟ ففي ظل التكامل يكون الحوار أداة التقارب لإيجاد صيغ توافقية، وفي ظل التناقض يتوقف الحوار لانعدام الفائدة منه، لأن الحضارة الغالبة ستفرض رؤيتها، وعندئذٍ يصبح الحوار أداة اختراق حضاري لمكونات الهوية، المتعلقة بالدين واللغة والتراث..

العامل الثاني: العلاقة بين العقل والنقل، هل هي علاقة تبعية أو علاقة تفسير؟ والفرق بين الاتجاهين وهمي، وليس هناك تناقض حقيقي بين العلاقة التبعية وعلاقة التفسير، فتفسير النصوص بالعقل لا يُلغي التبعية والتبعية لا تتجاهل دور العقل في التفسير، ولا أعتقد أن دعاة السلفية يرفضون منهج التفسير الذي يُعطي للعقل دوره في الإثراء والإغناء، وهذا الخلاف قديم بين المدارس في مجال التفسير بين مدرسة المأثور ومدرسة الرأي، وفي مجال الفقه بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي.

وما نراه اليوم من رفض للحضارة الغربية لا يعني الرفض المطلق للآخر، وإنما يعني رفض أن تكون هذه الصيغة الغربية مفروضة على شعبنا كاختيار حتمي، مدعوم بقوة النظام العالمي الجديد الذي يسخر كل طاقاته لمحو الهوية الإسلامية، ويشك في قدرتها على تطوير العالم الإسلامي، ويضيق بمظاهر الاعتزاز بالإسلام، ويتعامل بعنصرية ضيقة مع أنواع من السلوكيات الإسلامية، ويعلن خوفه من نمو المشاعر الإسلامية، وقضية التفاعل بين الحضارات أمر طبيعي، ويعتمد على مقومات أساسية:

أولاً: الاستعداد النفسي، ويتكون هذا الاستعداد من خلال طبيعة العلاقة بين الحضارات، هل هي علاقة تنافس وانسجام، أو علاقة تضاد وتنافر، وبالرغم من أن هذه العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لا يمكن أن توصف بالانسجام فإنه لا يمكن أن توصف بالتنافر، لأن الشعوب المؤمنة بالأديان السماوية تلتقي في قضايا كثيرة، فيما اتفقت فيه تلك الأديان من العقائد والأحكام والأخلاق.

ثانيًا: قدرة الحضارة الأقوى على العطاء، ومن أهم شروط العطاء احترام خصوصيات الحضارات الأخرى، والتعامل معها بإيجابية، لأن تلك الخصوصيات تمثل الهوية الذاتية لكل حضارة، فإذا وقع احترام الخصوصيات أصبح الطريق معبدًا أمام تفاعل حضاري بَنّاء في تقدُّم المسيرة الإنسانية..

ثالثًا: الاعتراف بأثر التعددية الحضارية في نمو قيم حضارية رفيعة، فالرؤية الحضارية ليست وليدة قوة مادية وإنما وليدة تجربة حضارية أصيلة، تمتد جذورها في أعماق التاريخ الإنساني، وتستشرف آفاق المستقبل في تطلع إنساني إلى الأفضل والأسمى، فيما يحقق للإنسان كرامته وحريته.

ويجب أن نعترف بأثر الأديان السماوية في تطوير الرؤية الحضارية وفي تنمية قيم الفضيلة وفي إقرار حقوق الإنسان.

ولا يمكن إغفال دور الأجيال السابقة في تكوين الرؤية الحضارية، وفي تطوير مفهوم الحق والفضيلة، ولا يمكن لأية حضارة أن تغفل جذورها وامتدادها، فالجذور امتداد حيوي وضروري لإبراز الخصوصيات الحضارية، ولهذا فإن عملية التدافع والتمازُج بين الحضارات أمرٌ طبيعي، ومن حق أي حضارة أن تدافع عن هويتها التي تميزها عن غيرها وتحميها من أخطار الذوبان في خضم التسارع الحضاري.

والمسلم المعاصر يعيش حالة توتر واحتقان، ويبحث عن هويته الفكرية والثقافية، وكلما وجد الطوق يحاول أن يكبل حريته انطلقت من أعماقه مشاعر الخوف والحذر، والحذر ينمي مشاعر الفردية في السلوك، إلى أن تنقطع الصلة بين الإنسان ومحيطه الخارجي..

وبالرغم من أن البحث عن الهوية لا يعني المواجهة مع الآخر، وبالرغم من أن حضارتنا الإسلامية كانت تجسد قيم التعايش والتساكن بين الأديان السماوية، من خلال اعتراف الإسلام بحق الآخر في دينه وعقيدته وحقوقه الإنسانية، فإن البحث عن الهوية أصبح اليوم في نظر المسلم المعاصر يستدعي المواجهة مع الآخر، والآخر هو الحضارة الغربية، بكل ما تشتمل عليه من ثقافة وفكر وقيم وسلوكيات..

وهنا نطرح هذا التساؤل: لماذا المواجهة وليس التعايش؟ من المسؤول عن هذا التوجه.. نحن أم الحضارة الغربية..؟

من اليسير علينا أن ندافع عن فكرة التعايش والتساكن الإنساني، ومن واجبنا أن نؤكد على أهمية التواصل مع الحضارة الغربية، وأن نحذر من خطورة المواجهة بين حضارة قوية مدعمة بكل أنواع التفوق التكنولوجي والحربي والإعلامي وبين حضارة إسلامية تحمل مشعلها أمم وشعوب مثقلة بتاريخ طويل من التخلف والانقسام والاحتلال، ومازالت حتى اليوم تئن تحت وطأة تلك الحقبة القاسية، وتحاول اليوم بخطى مترددة وخجولة أن ترمم واقعها بسياسات مرتجلة، وأن تبحث عن طريقها وسط غابات متداخلة، يعبث فيها العابثون من أعداء هذه الأمة.

ولا أعتقد أن هناك مَن يناقش حق أي أمة في البحث عن هويتها، فهذا حق مشروع، وهو جزء من فلسفة حقوق الإنسان، وهو الركن الأهم في الوثائق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في اختيار مصيرها والتعبير عن إرادتها، والحقوق لا تتجزأ، ولا تقبل النسبية، والأبعاد الإنسانية لمبدأ تقرير المصير الذي أقرّته الأمم المتحدة تشمل كل ما يحقق الذاتية الإنسانية في التعبير عن ذاتها وكيانها..

والهوية لا تعني مجرد الانتماء العصبي والقبلي والعنصري والجغرافي، وإنما تعني كامل الانتماء بكل أبعاده المادية والمعنوية، والثقافية والاقتصادية، ولا يمكن لأي شعب من الشعوب أن يرضى لنفسه بأن يكون في موطن الوصاية، فالوصاية لا تكون إلا بسبب قصور في الإدراك، وإذا انتفت فكرة الوصاية أصبح من حق شعبنا أن يمارس حريته كاملة على أرضه، سواء في اختياراته السياسية والاقتصادية أو في معتقداته وأفكاره، وعندما تمارس سياسة الوصاية على شعب فمن الطبيعي أن يستغضب وأن يستفز، وأن يقف في الشوارع والشرفات معبرًا عن مشاعره بسلوكيات غير منضبطة، وأن تصدر عنه من العبارات القاسية ما يمكن أن يعتبر في موطن الإدانة..

ولعل هذا هو السبب الحقيقي في تفسير ظاهرة التطرف في مجتمعنا، وعندما يبتدئ التطرف يتوقف الحوار، والإنسان المستغضب لا يقبل الحوار، وعلينا أن نوفر أسباب الحوار قبل الدعوة إليه، لكي يكون الحوار مجديًا ومفيدًا..

ومن حق مجتمعنا الذي يعاني من حالة إحباط شديد بسبب ما تراكم عليه من آلام وتحديات، أن يرفض النموذج الغربي كمثل أعلى له، لا من منطلق التعصب الذميم، وإنما من منطلق البحث عن الذات وتأكيد الهوية، وكان يمكن أن يتحقق التعايش بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي في ظل صيغة إنسانية تنطلق من منطلق الإيمان بالله، والإيمان بقيم الفضيلة التي دعت إليها الأديان السماوية لتحرير عقيدة الإنسان وإنقاذه من المظالم والانحرافات..

إلا أن الحضارة الغربية أبت إلاّ أن تكون حضارة الأقوى المهيمنة والمسيطرة والمتحكمة والوصية، ولو مدت الحضارة الغربية لعالمنا الإسلامي يد المساعدة لتمكينه من النهوض والتقدم عن طريق تزويده بالإمكانيات العلمية ووقفت موقف المتعاطف معه في دفاعه عن هويته وثقافته ومكّنته من تحقيق استقلاله الوطني والاقتصادي، لاستطاعت أن تجد لنفسها موقعًا في القلوب، معززًا بعواطف الحب والشكر والامتنان، فالنفوس البشرية أسيرة مَن يحسن إليها من غير منة ولا إذلال.

وإننا نشعر بحزن عندما نجد الحضارة الغربية اليوم توجه كل وسائل إعلامها لتشويه صورة إسلامنا في النفوس، وكأنها بذلك تريد أن توقظ أحقادًا قديمة، وعميقة في الوجدان الغربي تواجه به مشاعر اليقظة الإسلامية، معتمدةً في ذلك على سلوكيات خاطئة وممارسات فردية يقوم بها أفراد أو جماعات تناقض السلوك الإسلامي الصحيح ولا تحظى بموافقة القاعدة الإسلامية العريضة التي تدين العنف وتحذر من أخطاره ونتائجه.

ولا خيار لنا في هذا العصر من التأكيد على أمرين:

الأمر الأول: الاعتراف بأهمية البحث عن هوية هذه الأمة من خلال ربط الشخصية الإنسانية بمحيطها الذي يمثل إطارها الفكري والثقافي والاجتماعي، وهذا المحيط يمثل العقيدة الإسلامية بأبعادها الفكرية والسلوكية، ولا يمكن تجاهل عمق هذا الشوق الفطري والتلقائي إلى تلك العقيدة..

الأمر الثاني: إقامة علاقة تكامل وتعايش وتساكن مع الحضارة الغربية، على أساس الاعتراف بخصوصيات كل حضارة والاعتراف بشرعية طموحاتها في تكوين شخصيتها الذاتية، بعيدًا عن أي تدخل أو وصاية.. سواء في دفاعها المشروع عن مصالحها الحيوية، أو في احتضانها لثقافتها وتمسكها بقيمها الأخلاقية وتعاليمها الدينية..

وتحتاج سياسة التعايش بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية إلى وضع استراتيجية طويلة الأمد، تتضمن المبادئ التالية:

أولاً: احترام خصوصيات الشعوب الإسلامية الدينية والثقافية، وعدم التدخل في هذه الخصوصيات، لأنها تجسد كبرياء هذه الأمة، والاعتراف القانوني والسياسي والواقعي بحق هذه الشعوب في أن تكون عقيدتها الإسلامية في موطن الاحترام..

ثانيًا: الاعتراف بحق الشعوب الإسلامية في دفاعها المشروع عن مصالحها الحيوية، سواء ما تعلق منها بثرواتها ومواردها الاقتصادية أو ما تعلق بتجارتها الداخلية والخارجية، واتفاقاتها التجارية.

ثالثًا: الاعتراف بحق هذه الدول في المشاركة في وضع معالم النظام العالمي الجديد على أسس عادلة تحفظ للشعوب النامية حقوقها في مواجهة التكتلات الدولية، السياسية والاقتصادية.

رابعًا: التخفيف من أعباء السياسات الاقتصادية المذلّة للشعوب النامية، والمتمثلة في ظاهرة المديونيات التي أصبحت تمثل القيد الحقيقي الذي تكبّل به حريات الشعوب وتغتصب فيه إرادتها.

خامسًا: التخفيف من اللهجة العنصرية في الإعلام الغربي، في تعامله مع قضايا العالم الإسلامي، سواء في تعاطفه مع السياسات المعادية لمصالحنا، أو في تشويه صورة العالم الإسلامي في الغرب..

سادسًا: عدم اعتبار الصيغة الغربية في التفسير والتأويل هي المرجعية الوحيدة في الحكم على الأشياء، فعندما يطرح الغرب شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة فهذا لا يعني أن التفسير الغربي لهذه المصطلحات هي الرؤية الوحيدة الصائبة، ولا بد من الاعتراف بحق كل شعب في تفسير هذه المصطلحات بما يلائم فكره وثقافته، لكي يكون في ذلك إغناء لهذه المفاهيم القابلة للتطور والتجديد لكي تحقق أغراضها في تطوير الحياة الإنسانية..

وفي نفس الوقت فإن من واجب الشعوب الإسلامية أن تتجاوز عقدة الحضارة الغربية، إعجابًا بها وانبهارًا أو رفضًا لها وازدراءً، فالحضارة الغربية لها مرجعيتها الفكرية والثقافية، ولها جذورها وامتداداتها الدينية والأخلاقية، وليس لنا سلطة الوصاية على اختيارات تلك الحضارة السلوكية والأخلاقية، فما يرتضيه الغرب لنفسه هو أحق به. ولا يجوز استفزاز المشاعر تعبيرًا عن قلق داخلي كما لا يجوز إشعال نار الفتنة، إرضاءً لنزوات طائشة، وإن سياسة التعايش تفرض علينا وعليهم أن نفتح قنوات للحوار البناء والمفيد الذي يمكن أن يخفف من أعباء المواقف الارتجالية، وأن يقع الاحتكام إلى الضمير الإنساني الذي يمكن الوثوق بأحكامه واختياراته، وأن نوقن بأن تعدد الحضارات واختلاف منطلقاتها لا يعني التناقض والتصادم، وإنما يعني التكافل والتكامل في إثراء مسيرة الإنسان وتطوير فكره وإغناء تجربته، وكلما اقتربت الحضارة من تلبية أشواق الإنسان إلى الحرية والفضيلة كانت تلك الحضارة أقرب إلى الكمال، والحضارة الجديرة بالاحترام هي تلك الحضارة التي تنمي في الإنسان إنسانيته وتغذي فيه قيم التعايش والتساكن.. في سبيل إعمار الأرض وإسعاد الإنسان..

والتطرف تعبير سلوكي في حالات خلل، ويعالج التطرف بإزالة أسبابه، وتصحيح المسارات الخاطئة، وإعادة صياغة العلاقات الإنسانية على أسس مُرضية، فعندما يشعر الإنسان بذاته ووجوده وحريته تطمئن نفسه، ويميل إلى حياة الاستقرار، وعندما يشعر بالخلل بسبب ظلم أو استفزاز أو تجاهل لحقوق مشروعة فسرعان ما تبرز على ملامحه علائم الغضب، وتبتدئ مسيرة الاحتجاج من خلال سلوكيات التمرد، إلى أن تصبح هذه السلوكيات من الطبائع والعادات.

ونحن نحتاج اليوم إلى ديمقراطية حقيقية نستطيع من خلالها أن نعبر عن اختياراتنا وآرائنا بالكلمة والموقف، وليس بالانفعال والعنف، ولا أقصد بالديمقراطية ذلك الشعار بمفهومه الغربي، وإنما أريد أن نقدم النموذج الإسلامي الذي يجسد هذا المفهوم في أبعاده السياسية والاجتماعية من خلال إعادة دور المثقف في تشكيل الرأي والتعبير عنه. ومازال دور المثقف في مجتمعنا خاضعًا لسياسة التهميش، وذلك بسبب سلبية دور المثقف وانكماشه، ومازالت الثقافة لا تحظى بالعناية المطلوبة في أداء مهمة التنوير الاجتماعي والتكوين الفكري، وصياغة النماذج الملائمة للمجتمع، والتي تحقق له الاستقرار..

ومازال النموذج الغربي هو النموذج المسيطر على الأذهان في تفسير المصطلحات، ولا بد من تعدد التفسير لكي نقدم النموذج الأفضل، الملائم لمجتمعنا، ومن الصعب اختراق الهيمنة الإعلامية التي يفرضها الغرب من خلال تسييسه لمعظم المصطلحات، كالأصولية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا شك أننا نحتاج إلى إعادة تفسير تلك المصطلحات لكي تكون ثقافتنا قادرة على توليد رؤيتها الحضارية، إننا نريد ديمقراطية إسلامية تجسد دور المواطن في قضاياه، ونريد احترامًا لحقوق الإنسان يعبر عن رؤية الإسلام للإنسان، ولا نريد تلك النماذج التي يفرضها الغرب والتي يريد أن يجعلها مطية لسياسة الهيمنة والتدخل في شؤوننا الداخلية..

وعالمنا اليوم يحتاج إلى حكمة الحكماء لإقرار سياسة التعايش والتساكن بين الأديان السماوية والحضارات الإنسانية في ظل صيغة عادلة توفر لجميع الشعوب الإنسانية حقوقها القانونية والإنسانية، وأن تحترم الخصوصيات الدينية والوطنية والثقافية، وأن تراعي المصالح السياسية والاقتصادية، لكي يشعر المواطن حيثما كان بمكانته وحريته، وأن توفر له أسباب الحياة والاستقرار، لكي يشعر بالأمن النفسي، فإذا اطمأنت النفوس أرست عائم الأمن والاستقرار، ولا يمكن أن يتحقق السلام بين الشعوب إلاّ إذا تكاتفت البشرية في وضع ميثاق دولي يعترف بالخصوصيات الحضارية والدينية بعيدًا عن أي تدخل أو وصاية ويسهم في وضع تصور لتنمية حقيقية تخفف من أعباء الأمراض الاجتماعية المتمثلة في الفقر والمرض والتخلف، وبذلك يتعاون الشمال والجنوب والشرق والغرب في إقرار سياسات واقعية تحقق الأمن والسلام.



* هذا البحث مقدم إلى المؤتمر العاشر للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمان بتاريخ 7-9 صفر 146ه/ 5-7 يوليوز 1995.

( الزيارات : 1٬896 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *