الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الاسلامي

الاتجاه الجماعي

هذا هو الكتاب الأم الذي أعددته لكي يكون أطروحتي للدكتوراه بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ونوقش هذا البحث عام 1968 م وحصلت به على درجة الدكتوراه في العلوم الإسلامية مع مرتبة الشرف الأولى…

وهو أول كتاب يطبع لي، وقد طبعته دار الفكر في بيروت عام 1970م، وفرحت به، كان الوليد الأول الذي مازلت أحبه وأفخر به، كنت أراه الأجمل في نظري، كان يحمل ملامحي كما كنت في تلك الفترة، لاشيء يسعد الإنسان كما يسعده أن يرى ملامحه في طفله الأول، ولا يعنيه أن يرى عيوبا فيه، فعاطفة الأبوة أقوى وأصدق، وهي غالبة ومؤثرة…

وأهمية هذا الكتاب أنه وجه اهتمامي لدراسة الاقتصاد الإسلامي، ولم تكن هذه اللفظة مستعملة إلا في إطار التمنيات للاهتمام بهذا الجانب من الفكر الإسلامي، لم تكن هناك كتابات إلا في نطاق ضيق، وكيف يمكن لإنسان أن يكتب مع قلة المصادر، وكان الطموح لكتابة الأفضل في أطروحتي يدفعني لاقتحام هذا العالم، كان جديدا وصعبا والطرق غير معبدة، ولابد من استكشاف الطرق والمسالك، ولابد من توجيه المادة العلمية لتحيق الغاية المرجوة…

هذا الكتاب فتح أمامي أول الطرق وأوسعها، كانت لفظة الاقتصاد الإسلامي مثيرة للانتباه ومعبرة، هي طموح ذلك الجيل الناشئ للمستقبل، وكانوا يتصورون أن الاقتصاد الإسلامي هو الخطوة الأولى للتحرر من قبضة الاقتصاد العالمي، ومن ثم التحرر من قبضة السياسة الدولية، في معسكريها الرأسمالي والشيوعي، لم تكن لفظة الشرعية الدولية قائمة، ولم تكن هناك شرعية دولية، لانقسام العالم إلى معسكرين ونظامين مختلفين، ولابد من البحث عن نظام إسلامي جديد في مجال الاقتصاد، مجرد حلم جميل، وشعبنا يبحث عن التحرر، كانت إرادة التحرر أقوى مما أصبحت عليه فيما بعد، تراجع الحلم أمام سياسة الهيمنة والقوة، لم يعد شعبنا يحلم بما كان يحلم به، كنا نظن في تلك الفترة أننا سنحكم سيطرتنا على مواقفنا واقتصادنا وثرواتنا وقراراتنا، وسنحرر أراضينا، وسوف نضيق الخناق على أعدائنا ومن يقف وراءهم من القوى العالمية….

ذلك حلم الشباب، كنا نحلم ونظن أننا نفكر، واقترب الحلم حتى أصبح قاب قوسين من الحقيقة، وما لبث جيلنا أن اكتشف الحقيقة المرة، الأحلام لا تبني صروح المستقبل، وسرعان ما يستيقظ الحالمون على الواقع…

ذات يوم كنت أحاضر بجامعة الكويت عن الاقتصاد الإسلامي، اعترضني أستاذ جامعي قال لي: ألا تعتقد أن ما تنادي به هو مجرد حلم والواقع شيء آخر، أجبته بانفعال وثقة: سنصنع من أحلامنا حقيقة، ألسنا على حق، ونريد الأفضل والأصلح…

أول محاضرة ألقيتها عن الاقتصاد الإسلامي كانت في كلية الشريعة بجامعة الإمام، كانت مجرد كلية آنذاك، كان ذلك في بداية عام 1967، اهتمت وسائل الإعلام بهذه المحاضرة ونشرتها جريدة الرياض اليومية وجريدة الندوة، كانت بعنوان “مكانة الاقتصاد الإسلامي بين النظم الاقتصادية المعاصرة”، كما نشرت هذه المحاضرة في مجلة البعث الإسلامي التي تصدر في الهند، شجعتني المحاضرة الأولى على متابعة نشاطي في مجال الاقتصاد الإسلامي، وطالبت في تلك المحاضرة بتدريس الاقتصاد الإسلامي في كليات التجارة والاقتصاد كمادة مستقلة، وربما كانت تلك الدعوة هي الأولى التي تطالب بتدريس الاقتصاد الإسلامي والاهتمام ببحوثه، وفي نفس العام ألقيت محاضرة بمكة المكرمة في مقر رابطة العالم الإسلامي بعنوان: مستقبل العالم الإسلامي بين التخطيط والارتجال…

وفي العام الذي يليه ألقيت محاضرة في الموسم الثقافي لكلية الشريعة بالرياض عن البنوك الإسلامية كما يجب أن تكون، وحظيت بنفس الاهتمام الذي حظيت به المحاضرة السابقة، وفي عام 1969 ألقيت محاضرتي الثالثة في الموسم الثقافي لكلية التربية بجامعة الرياض عن الملكية الفردية وموقف الإسلام منها، وتتالت محاضراتي بعد ذلك عن الاقتصاد الإسلامي، وبخاصة بعد أن انتقلت عام 1970 إلى كلية الحقوق بجامعة الكويت.

في عام 1973 شاركت في الدروس الحسنية في الرباط التي تعقد برئاسة الملك الحسن الثاني، واخترت لها موضوع: ملامح عن الاقتصاد الإسلامي، كانت هي الإطلالة الأولى على المغرب، وربما كانت البداية الناجحة لذلك المنعطف الذي سيحدث بعد أربع سنوات.

ونشرت عدة مقالات عن الاقتصاد الإسلامي، وأهمها مقالة عن الاقتصاد الإسلامي في مجلة العربي الكويتية عام 1968..

لم أتابع دراساتي في مجال الاقتصاد الإسلامي، وما أعددته بعد ذلك هي مجرد بحوث قدمتها إلى مؤتمرات علمية هامة، أبرزها المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد بمكة المكرمة عام 1976 عن مفهوم التدخل الحكومي في الحريات الاقتصادية، والمؤتمر العالمي للفقه الإسلامي الذي عقد بالرياض بجامعة الإمام، وقدمت فيه دراسة عن مفهوم الاقتصاد الإسلامي ومبادئه العامة، وقد طبع كل من البحثين في كتاب بعنوان: بحوث في الاقتصاد الإسلامي.

ويحتاج الاقتصاد الإسلامي إلى توليد فكر اقتصادي من خلال الثوابت الإسلامية، يراعي مصالح المجتمع الإسلامي وحاجاته، ولا يمكن الاكتفاء بما هو مقرر من أحكام فقهية، وإنما يجب توليد تصورات جديدة لمتطلبات اجتماعية، وهذا جهد مطلوب، وتحققه مراكز بحث ودراسات، تعكف على إعداد بحوث جادة تضيف فكرا جديدا…

ليس المهم حجم ما نكتب، وإنما المهم نوعية ما نكتب ومدى إمكان أن تكتب ما هو مفيد وممكن، وبخاصة في مجال الاقتصاد، ويحب أن نعطي فرصة لأنفسنا لكي نستفيد من تجربتنا، وألا نضيق ما هو واسع، وألا نلغي عقولنا ونحن نقدم فكرنا، ولا مجال للعاطفة في مجال البحث العلمي، ولا يمكننا إغفال الواقع الذي نعيشه، ويجب أن يتسع فكرنا لكل ما يحقق مصالحنا…

وأهل الاختصاص العلمي مؤتمنون على تقديم الفكر الممكن، وما لا تخصص لهم فلا مجال للأخذ برأيهم، ولابد من الاجتهاد في مجال الاقتصاد، لكي نقدم رؤية جديدة لقضايانا المعاصرة.

وما زلنا حتى اليوم نقف على الأبواب، ونخشى من الخوض في القضايا الجادة، وفكرنا مازال يعاني من السطحية، ولابد من إتباع منهج جديد يقودنا إلى معرفة حقيقية، تمكننا من اغناء فكرنا بجهد أجيالنا المتعاقبة…  

( الزيارات : 2٬822 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *