الاقتصد الاسلامى كما افهمه

ذاكرة الابام .. الاقتصاد الاسلامي كما افهمه
ألقيت اول محاضرة لي في مدينة الريا ض عام 1966 عن الاقتصاد الاسلامي في المقر العام لجامعة الامام الاسلامية التي كانت تعرف باسم الكليات والمعاهد بعنوان: مكانة الاقتصاد الاسلامي. بين النظم الاقتصادية المعاصرة ، لم تكن كلمة الاقتصاد الاسلامي في تلك الفترة معروفة او متداولة الا في نطاق ضيق جدا ، وكانت الدلالة الابرز لها  هي تحريم الربا , وعندما يتحدث المتحدث عن الاقتصاد يتحدث عن تحريم الربا , وكل ماعدا ذلك فلا اهمية له وهو حق لصاحبه , والعقد شريعة المتعاقدين , ولا حديث عن الاموال ولا الملكيات الحقوق والاموال , ولا حديث عن دور الدولة فى تحقيق العدالة الاجتماعية ,  وحظيت تلك المحاضرة باهتمامً كبير. علي الصعيد العلمي من العلماء المختصين والباحثين في الموضوعات الاقتصادية والإسلامية ، واهتم الاعلام بالموضوع ونشرت المحاضرة في عدد من الصحف والمجلات العلمية ، تلك هي البداية الاولي لاهتمامي بالاقتصاد الإسلامي كعلم يستحق الاهتمام , وطالبت فى محاضراتى بالاهتمام  بالاقتصاد الاسلامى كمادة علمية تستحق التخصص ةالتامل , ومنذ تلك الفترة بدأ اهتمامي بابن خلدون ولكنني لم اكن على علم بما كتبه فى مقدمته عن الموضوعات التى تدخل ضمن علم الاقتصاد , وبعد عشرين عاما عكفت على دراسة مقدمة ابن خلدون وكتبت عنها وعن الفكر الاقتصدى عند ابن خلدون , كان يتكلم عن الموضوع من الناحية الاجتماعية واثر ذلك فى المجتمع وربط كل ذلك بموضوع الدولة واثر قيام الدولة واستقرارها على التجارة والاسواق والقيم والغلاء وندرة السلع وقيم الاعمال ,كان ابن خلدون بحق من الرواد الذين كتبوا فى الفكر الاقتصادى  وهناك الكثير مما يستحق ان يدرس , وقد اعجبت بما كتبه ابن خلدون فى تللك المقدمة من افكار كنت احتاج اليها وتمنيت اننى اطلعت عليها من قبل , ماكتبه ابن خلدون كان اضافة حقيقية , تستحق الاهتمام , كانت المحاضرة الاولى هي البداية ووجهت اهتمامى الى اهمية هذا الموضوع  ،. وفى العام التالى القيت  محاضرة عن البنوك الاسلامية والقروض الاستثمارية والتمويل الاسلامي وكانت لي رؤية لتكوين مؤسسات استثمارية غير احتكارية لخدمة صغار المدخرين تختلف كليا عن فكرة البنوك , كنت ارى ضرورة انشاء مؤسسات تمويل واستثمار غير احتكارية وبعيدا عن الاستغلال البشع لمدخرات صغار المدخرين كما فعلت البنوك الاسلامية التى ابقت جوهر الربا كاستغلال احتكارى وحملت المدخر الصغير الاخطار وبقيت البنوك هي المستفيد الوحيد وهو استثمار بغير اخطار ولا خسارات , الربح للبنك والخسارة على المدخر , واقرت الرقابة الشرعية هذه الصورة من المعاملات البنكية ولا رقابة على الرقابة ،وقد طرحت وجهة نظرى كمجرد راي قابل للنقاش وجرى تداوله فى تلك الجلسة ,  وقدم المحاضرة وعلق عليها الدكتور عبد الله التركي. الذي اصبح مديرا لتلك الجامعة ووزيرًا للشؤون الاسلامية فيما بعد ، وتكلمت في نفس العام عن الاقتصاد الاسلامي في محاضرتي في رابطة العالم الاسلامي في مكة المكرمة. في موسم الحج الاول. بعنوان مستقبل العالم الاسلامى بين التخطيط والارتجال , كانت مجرد طموحات وامال تعبر عن تلك الفترة وهي مجرد اسهام مبكر وليس مشروعا متكاملا ، ثم ألقيت بعدها محاضرة عن الملكية الفردية في كلية التربية بالرياض ، وفي تلك الفترة كان اهتمامي قويا بالاقتصاد الاسلامي والدراسات ذات الصلة بالحقوق المالية والثروة. والملكية الفردية والجماعية ، واستمر هذا الاهتمام فيما بعد في جامعة الكويت التي ألقيت عدة محاضرات وندوات فيها ،. وبدأت كلمة الاقتصاد الاسلامي تحظي بالاهتمام ويجري تداولها كفكرة تستحق التأمل الي ان عقد. ا ول مؤتمر عالمي للاقتصاد الاسلامي في مكة المكرمة في عام 1975. وشاركت فيه , والقيت اول درس عن الاقتصاد الاسلامي في الدروس الحسنية امام الملك الحسن الثاني رحمه الله. عام 1973 , كانً هذا الموضوع في تلك الفترة يثير اهتمامي واسعدنى ان يحظى هذا الموضوع باهتمام الملك , وتلك هي بداية صلتى بالمغرب وبالدروس الحسنية التى تطورت فيما بعد كان الملك يتطلع الى احداث قفزة فكرية فى المغرب واننى اشيد بتشجيع الملك وبخاصة قبوله اقتراحي بانشاء المجمع الفقهي فى المغرب ، وكان لي تصور عن فكرة الاقتصاد الاسلامي اقرب للمثالية وكنت اتصور ان ما نفكر فيه يمكنه ان يكون , كنت اظن اننا قادرون على الاسهام الجاد فى نهضة مجتمعنا  ، لم اكن اريد صورة مستنسخة. من الواقع او من. فكرة الاقتصاد الرأسمالي والحريّة الاقتصادية او الافكار الاشتراكية ، كنت اريد صورة تعبر عن القيم الاسلامية وعن الروحية الاسلامية , محنة الشباب ان احلامهم تكبربسرعة فى عقولهم كنور يتوهج وسرعان ما يخبو عندما يطارد الظلام الذى يخفى الاسرار ,  كانت الصورة الاولي للاقتصاد الاسلامي جمبلة ومشجعة ومبشرة ، كان الكل يفرح بها وبتفاءل انها الخيار الافضل لتحقيق العدالة الاجتماعية ، ولم تتحقق العدالة ابدا ولا يمكننها ان تتحقق  لان الذين يستفيدون من الظلام اقوى وارسخ نفوذا ، كنت فى تلك المرحلة اتكلم كثيرا ثم تعلمت فضيلة الصمت , والصبر ليس فضيلة  لانه يخفى عجزا واستسلاما  وخيبات متلاحقة , وزاد الظلم الاجتماعي وترسخت القيم الرأسمالية والحريات الفردية ، ونمت الاحتكارات والامتيازات الطبقية واصبح الفسا د كبيرا ومتحكما ، لم يكن. المجتمع يريد العدالة  كواقع بالرغم من كونها هي الشعار الاوضح الذى نراه فى كل مكان . ولم يكن مجتمعنا يتصورالعدالة  الا من خلال الواقع الذى تربى عله في امور يسيرة ، كان الواقع كما هو عليه هو الذي يمثل العدالة الممكنة ، ولا عدالة خارج تلك الحرية التي كانت تشجع الاحتكار وتنمي الطبقية وتجعل الاستغلال حرية والظلم قدرا والفقر يتطلب الصبر عليه والاستسلام له والرضا به ، عندما اكتشفت ان المطلوب من الاسلام فى مجتمعه  ان يبرر الواقع ويرسخه ويعمق الفروق ويشجع الطبقية الرأسما لية توقفت عن الكتابة في الاقتصاد الاسلامي ولم اعد اتكلم فيه , فما نريده ليس هو استنساخ الواقع باسم الاسلام  لاجل اقناع المظلومين به , ولم يكن هذا الواقع الذى تعيشه مجتمعاتنا هو الذي أريده وهو بعيد كل البعد عن الاسلام كما افهمه شهادة الزور ليست فضيلة وعندما تظلم بشهادتك الابرياء والمستضعفين فانت ترتكب اثما مبينا ، ما نريده هو الاسلام , ولانريد ان يكون الاسلام مطية.لمن يريد التجاوز والعدوان او وسيلة  لمقاومة الاصلاح الاجتماعي ولتبرير الواقع ، الاشتراكية الشيوعية والرأسمالية الفردية صورتان. لما عليه. الواقع ، الاسلام ليس هذا ولا هذا ، ولا يمكنه ان يكون احدهما وكل منهما يحمل بذور فنائه , تداول الطبقية لا يلغى الظلم عن ظالم الظلم لا يبرر ولو كان ضحيته هو الظالم فلا يرفع الظلم بظلم مثله , الظلم يرفع بالعدل والكراهيته بالحب والتعصب بالتسامح  ، الاسلام. متميز بروحيته الاخلاقية ومقاصده الاجتماعية ، لا نريد ان نبرر الواقع كما هو باسم الاسلام ذلك هو الافتراء على الله ان ينسب الى الدين ماليس منه ،. وانما ان نفكر في اسلام متميز يعبر عن التصور الاسلامي لمفهوم العدالة ولمفهوم الثروة بحيث ينتفي. الظلم. والفساد وتكون الثروة في خدمة كل مجتمعها تكافلا حقيقيا لا يخفي ظلما ، وان يتحقق التكافل والتضامن. والتكامل. في ظل تصور للنظام الاجتماعي اكثر رحمة واقل انانية ، كنت اريد نظامًا اقتصاديًا تتحقق به العدالة. اولا والكفاية ثانيا ويكون اقل انانية واكثر رحمة بالمستضعفين من عباد الله ، عندما كثر المال كبـُر به الظلم وترسخت الطبقية واصبح. الاقوياء اكثر قوة وطغيانا، واصبح الفساد حرية والاحتكار منهجا. ، ليس هذا ما كنا نفكر فيه ، كنا نريد العدالة والكرامة والتوزيع العادل للثروات والغاء الامتيازات الطبقية ، الاقتصاد الاسلامي ليس هو مانراه. من تلك الصور القاتمة من الاستغلال والفساد. واكل اموال المستضعفين بالباطل ، لا اجد الاسلام فيما اراه في المجتمعات الاسلامية من أنظمة فاسدة واحتكارات ظالمة. وانظمة مستبدة وقوانين جائرة ، تلك صور يجب ان تقاوم باسم. الاسلام ، ولا شرعية لها ولو اقرها القانون. وأفتي بها المفتون وانحنت لها رقاب الطامعين ، لقد توقفت عن الكتابة عن الاقتصاد الاسلامي ، لقد أنشئت البنوك الاسلامية واستبدل نظام الفائدة. بنظام. المرابحة ، ذهبت الفائدة وبقي الربا كما هو باسم. فتاوي التبرير للمشاركة. والمرابحة , وزاد فقر الفقير واستغلال حاجته ، كان يدفع الفائدة واصبح يدفع الربح باسم المرابحة , والنتيجة واحدة ، ولم ييساعد هذا النظام الفقير او يخفف من قيمة الفائدة او يرفع من قيمة الكسب الكسب للاقوياء من اصحاب تلك البنوك والخسائريتمحملها صغار المدخرين  ، وهناك. خبراء. في تبرير الاستغلال من فقهاء المصارف الاسلامية ومستعدون في كل وقت. لإعداد الاحكام الجاهزة لتبرير. تلك الصور التي تحمل ملامح الربا القبيحة ولا رقابة علي مصداقية تلك الرقابة.واتوقع ان تفتح مكاتب فقهية لتبرير ما تقوم تلك البنوك لا صدار الفتاوى وتقديم الاستشارات  ، لانريد نظامًا يستغل الفقير ويزيد من أعبائه ، وانما نريد نظاما. يساعد. الفقير. ، ويحمل عنه. ، ليس من الاسلام ان يبرر الظلم ويدافع عنه , الظلم لا يبرر ، المال ليس تجارة ولا يلد المال الا بجهد الانسان وعمله ،مالا جهد فيه فلا كسب فيه , الكسب هو قيمة الجهد , كل مال نما بجهد مجتمعه فالمجتمع اولى به ويعاد عليه , هذه هي العدالة ,  وظيفة المال  هو اداة لتحقيق العدالة وتلبية الحاجات ، الثروات الفاحشة التي نمت بجهد مجتمعها لا شرعية لها وترد الي اصحابها وهو المجتمع ، ومطالب الانسان الضرورية يجب ان توفر له كحقوق انسانية ضمنها الله لعباده ، لا احد ينفرد الا بقيمة جهده العادل , كل حيوان يجد طعامه وشرابه فكيف لا يجد الانسان طعامه  الذى يحاجه , لا احد يحرم من اسباب الحياة والمجتمع متكافل فى ذلك ، وكسب الانسان هو الذى  يقع التفاضل به والتوارث ، ليس من العدالة ان تنتقل الثروات من طبقة الفقراء وتتكدس في جيوب الاقوياء والاغنياء والمحتكرين والفاسدين باسم الحرية والقانون الذي يقر لهم ما يفعلون باسم القانون والحرية الفردية ، ما مصلحة المجتمع ان تنتقل الثروات من طبقة الي اخري كما تنقل السلطات من المغلوبين الى الغالبين  رغما عن شعوبهم ، اين العدالة في هذا التوزيع الظالم الذي يستفز النفوس ويدفعها للثورة والتمرد والعنف والجريمة , ذلك الواقع لا يمكنه ان يستمر ابدا ولا يمكن لاحد ان يبرره , ماليس عدلا لا يبرر ، ليس هذا هو الدين ، وانً افتي به المفتون ، واقره الحاكمون واعترف به القانون والدستور ، العدالة هي العدالة ، ولا تتحقق العدالة الا بالعدالة ، عندما نتحدث عن الاقتصاد الاسلامي فيجب ان نفهمه من خلال روحية الاسلام المستمدة من القرآن الكريم والبيان النبوي الموضح لذلك القرآن من خلال التطبيقات الفعلية في العصر النبوي ، وما يتضمنه ذلك العصر من توجيهات مؤكدة الي اهمية الاهتمام بالانسان كرامة وتلبية مطالبه. الضرورية من خلال. تلك المنهجية التي تجعل المال في خدمة مجتمعه. ، كل النظم المالية والزكوات والصدقات والكفارات وكل أوجه الاحسان موجهة لخدمة تلك الطبقة المحتاجة المستضعفة ، ولا يمكن نسيانها ، في الأعياد وفي الابام الفضيلة وفي الحج وفي الصيام ، الصدقات جزء من النظام الاجتماعي الاسلامي وهي صدقات ملزمة لامنة فيها وهي جزء من منهجية الاسلام الاجتماعية ، وهي من العبادات كالصلاة ، الاقتصاد الاسلامي ليس مجرد نظام لتحقيق غاياته المادية في تنمية الثروات وترويج التجارات وتشجيع الاستثمارات ، ذلك ليس هو الاقتصاد الاسلامي ، الاقتصاد الاسلامي هو الهوية الاجتماعية للاسلام وهو يعبر عن الانتماء الروحي للمسلم. في التزامه بقيم الاسلام العادلة ،. ليس المهم ان نستبدل نظام الفائدة بنظام المرابحة ، وانما المهم ان نخفف الأعباء عن تلك الطبقة المنسية عن طريق مساعدتهم بقروض بغير اعباء مُكلفة لكي تخفف عنهم وتساعدهم ، المستضعف لا يريد الاستغلال ويجب تحريره منه ، ولا يعنيه انً كان ما يدفعه. باسم الفائدة او باسم المرابحة ، الزيادة هي الزيادة والاستغلال هو الاستغلال والظلم هو الظلم ، لبس العمة لا بخرج الظالم من الظلم ولا المحتكر من احتكاره. ، وارتداء ثوب الاسلام لا يبرر ما كان محرمًا من المعاملات والاحتكارات واستغلال حاجات المستضعفين ، ومن الجهل ان يقع التحا يل في استخدام الالفاظ لتغيير الاحكام الشرعية ، الاستغلال هو الاستغلال ، نريد اقتصادًا يُؤْمِن بالانسان المستضعف وبسعي في رفع الظلم عنه، وتوفير اسباب كرامته ، ماليس أخلاقيا فليس من الاسلام ولا ينسب اليه ، ومالا يحقق كامل العدالة فلا عدالة فيه ، ما كنت أريده هو اقتصاد إسلامي يعبر عن روحية الاسلام وعدالته واحترامه للانسان ، ولا يعنيني امر الاقتصاد في اهتمامه. بكثرة الانتاج ومعايير. التكلفة والقيمة ونظريات العرض والطلب ، تلك قضايا مهمة ، ولكن يجب ان تبرز فيها. تلك الخصوصية الروحية في الاسلام ، التي تتحدث عن كيفية تحقيق العدالة ، عندما يستبدل نظام الفائدة بالمرابحة فلا دلالة لذلك الا اذا رفع الظلم والاستغلال، البنو ك لن تكون إسلامية بالتسمية ، وانما تكون إسلامية عندما تعبر عن الاسلام كمنهجية خالية من الاستغلال ، واهتمامات غير احتكارية ، وإسهام جاد في تقليص الفوارق الطبقية ومساعدة الصغار علي تنمية أموالهم بطرق عادلة ، ذلك هو الاقتصاد الاسلامي كما افهمه ، اقتصاد يعبر عن اسلام متميز في نظرته للمال والثروات بحيث تتحقق به الكفاية والعدالة والكرامة …..

 

( الزيارات : 841 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *