الاهتمامات الفكرية والثقافية فى الحقبة المغربية

كانت دار الحديث الحسنية تستحوذ على اهتمامي وتشغل معظم وقتي، وبخاصة في السنوات الأولى، فقد كانت الدار بحاجة لكل وقتي، ولم أتمكن من الانشغال عنها بأي جهد آخر فقد كانت الإدارة تشغل نصف وقتي، والنصف الآخر كنت أخصصه للبحث العلمي وتكوين الطلبة ومساعدتهم على بحوثهم وأطروحاتهم، وهذا أمر أعطيته معظم وقتي، وكان هذا مما يسعدني، فقد كنت أحب مجالس العلم والحوار ، وأشعر بسعادة وأنا أتابع حواري العلمي مع أبنائي الطلاب ، وبخاصة فيما يتعلق باختيار موضوعات بحوثهم وإعداد مناهج هذه البحوث .

وأعترف أني تعلمت الكثير مما كنت احتاج إليه من ثقافة الغرب الإسلامي ومعرفة أعلام المغرب والأندلس، فقد كانت معرفتي في هذا المجال محدودة، وليست دقيقة، وعرفت الكثير عن المذهب المالكي وأعلام المذهب وكتبه وأصوله، وتعلمت الكثير مما كنت احتاج إليه، وهذا قد أضاف الكثير لما كنت اعلمه من قبل، وتمنيت أن أكتب من جديد عن المذهب المالكي، غبر ما كنت كتبته من قبل ، وقد ساعدني هذا على اتساع رؤيتي لتاريخ المذاهب الإسلامية وتطورها  الذي تحدثت عنه في كتابى :المدخل للتشريع الإسلامي .

وأصبحت كتابتي في المغرب أكثر اهتماماً بتأصيل الأحكام الفقهية وابتعدت عن الفقه المذهبي، ، وأصبحت انظر نظرة شمولية إلى الفقه الإسلامي كوحدة متكاملة , وإن المذاهب هي مناهج لائمة الفقه تلتقي في أصولها، وتختلف في بعض الفروع ، وهي خلافات لا تمس الأصول والثوابت، ونظرت إلى جميع الفقهاء نظرة واحدة والكل يبحث عن الحكم الصحيح ، ويرجح ما يراه حسنا، وهذا منهج سليم في الاستنباط الفقهي، فالفقه ما كان وما يمكن ان يكون ، ولا يمكن لمسيرة الفقه أن تتوقف، وكل جيل يعطي عطاءه وهو مؤتمن على عصره  ويسهم في إغناء هذا الفقه بما يراه ملائما ….

 وانقطعت عن الكتابة الفقهية لمدة من الزمن، وكنت خلالها أتأمل في ظاهرة المذهبية المتعددة، وكان كل إمام من أئمة الفقه يقدم رؤيته الاجتهادية للنصوص التي صحت لديه، أو ترجحت دلالتها في نفسه من خلال الدلالة اللفظية ، ولم تكن الاختلافات كبيرة بين المذاهب، وكانت فكرة الإمامة لدى الشيعة هي الاختلاف الأكبر الذي أدى إلى اختلاف في الفروع بين السنة والشيعة ، وهذا الاختلاف في مفهوم الإمامة أدى إلى تباعد الآراء في بعض المعايير والمصطلحات والثوابت ، ومع هذا فيجب التغلب على هذا الخلاف، وهذا أمر ضرورى وهو واجب ديني,  ولا خوف من الاختلاف في الفروع الفقهية، ولا ينبغي للعلماء والفقهاء من أهل التقى والورع أن يستسلموا لضغوط العوام في ترسيخ الخلاف المذهبي ، وقد وجدت في  الفقه المالكي سعة كبيرة في الفهم وقبولا للرأي واستحساناً لمفاهيم فقهية أصيلة ..

ولم أكن مذهبياً ضيقاً قط ولا أحب ذلك، فقد درست المذهب الشافعي في بداية دراستي ثم المذهب الحنفي في دراستي الجامعية، ثم درست المذهب المالكي فى المغرب  واطلعت على كثير من أصوله وفروعه، وكنت أستحسن من الآراء ما أراه أقرب للدليل، وهذا هو المنهج الأقرب  لمنهج السلف الصالح في الفهم والاستنباط …

وأتيحت لي الفرصة خلال حياتي في المغرب أن أطلع على الثقافة المغربية، وأن ألتقي برموز هذه الثقافة من مفكرين وأدباء وفلاسفة، وهم يمثلون مدارس مختلفة، و كان لهذا أثر في معرفتي وعمّق رؤيتي الفكرية واتسعت دائرة اهتمامي الفكري لكي تمتد إلى  قضايا فكرية عامة..


 



[1]البحث منشور في كتاب محاضرات فى الفكر السياسي والاقتصادي في الإسلام

كانت دار الحديث الحسنية تستحوذ على اهتمامي وتشغل معظم وقتي، وبخاصة في السنوات الأولى، فقد كانت الدار بحاجة لكل وقتي، ولم أتمكن من الانشغال عنها بأي جهد آخر فقد كانت الإدارة تشغل نصف وقتي، والنصف الآخر كنت أخصصه للبحث العلمي وتكوين الطلبة ومساعدتهم على بحوثهم وأطروحاتهم، وهذا أمر أعطيته معظم وقتي، وكان هذا مما يسعدني، فقد كنت أحب مجالس العلم والحوار ، وأشعر بسعادة وأنا أتابع حواري العلمي مع أبنائي الطلاب ، وبخاصة فيما يتعلق باختيار موضوعات بحوثهم وإعداد مناهج هذه البحوث .

وأعترف أني تعلمت الكثير مما كنت احتاج إليه من ثقافة الغرب الإسلامي ومعرفة أعلام المغرب والأندلس، فقد كانت معرفتي في هذا المجال محدودة، وليست دقيقة، وعرفت الكثير عن المذهب المالكي وأعلام المذهب وكتبه وأصوله، وتعلمت الكثير مما كنت احتاج إليه، وهذا قد أضاف الكثير لما كنت اعلمه من قبل، وتمنيت أن أكتب من جديد عن المذهب المالكي، غبر ما كنت كتبته من قبل ، وقد ساعدني هذا على اتساع رؤيتي لتاريخ المذاهب الإسلامية وتطورها  الذي تحدثت عنه في كتابى :المدخل للتشريع الإسلامي .

وأصبحت كتابتي في المغرب أكثر اهتماماً بتأصيل الأحكام الفقهية وابتعدت عن الفقه المذهبي، ، وأصبحت انظر نظرة شمولية إلى الفقه الإسلامي كوحدة متكاملة , وإن المذاهب هي مناهج لائمة الفقه تلتقي في أصولها، وتختلف في بعض الفروع ، وهي خلافات لا تمس الأصول والثوابت، ونظرت إلى جميع الفقهاء نظرة واحدة والكل يبحث عن الحكم الصحيح ، ويرجح ما يراه حسنا، وهذا منهج سليم في الاستنباط الفقهي، فالفقه ما كان وما يمكن ان يكون ، ولا يمكن لمسيرة الفقه أن تتوقف، وكل جيل يعطي عطاءه وهو مؤتمن على عصره  ويسهم في إغناء هذا الفقه بما يراه ملائما ….

 وانقطعت عن الكتابة الفقهية لمدة من الزمن، وكنت خلالها أتأمل في ظاهرة المذهبية المتعددة، وكان كل إمام من أئمة الفقه يقدم رؤيته الاجتهادية للنصوص التي صحت لديه، أو ترجحت دلالتها في نفسه من خلال الدلالة اللفظية ، ولم تكن الاختلافات كبيرة بين المذاهب، وكانت فكرة الإمامة لدى الشيعة هي الاختلاف الأكبر الذي أدى إلى اختلاف في الفروع بين السنة والشيعة ، وهذا الاختلاف في مفهوم الإمامة أدى إلى تباعد الآراء في بعض المعايير والمصطلحات والثوابت ، ومع هذا فيجب التغلب على هذا الخلاف، وهذا أمر ضرورى وهو واجب ديني,  ولا خوف من الاختلاف في الفروع الفقهية، ولا ينبغي للعلماء والفقهاء من أهل التقى والورع أن يستسلموا لضغوط العوام في ترسيخ الخلاف المذهبي ، وقد وجدت في  الفقه المالكي سعة كبيرة في الفهم وقبولا للرأي واستحساناً لمفاهيم فقهية أصيلة ..

ولم أكن مذهبياً ضيقاً قط ولا أحب ذلك، فقد درست المذهب الشافعي في بداية دراستي ثم المذهب الحنفي في دراستي الجامعية، ثم درست المذهب المالكي فى المغرب  واطلعت على كثير من أصوله وفروعه، وكنت أستحسن من الآراء ما أراه أقرب للدليل، وهذا هو المنهج الأقرب  لمنهج السلف الصالح في الفهم والاستنباط …

وأتيحت لي الفرصة خلال حياتي في المغرب أن أطلع على الثقافة المغربية، وأن ألتقي برموز هذه الثقافة من مفكرين وأدباء وفلاسفة، وهم يمثلون مدارس مختلفة، و كان لهذا أثر في معرفتي وعمّق رؤيتي الفكرية واتسعت دائرة اهتمامي الفكري لكي تمتد إلى  قضايا فكرية عامة..


 

أكاديمية المملكة المغربية

كانت فكرة الأكاديمية المغربية تروج في الأوساط العلمية كمجرد أمل ولا أحد يعرف خصائص هذه الأكاديمية وأهدافها , وكان الملك يطمع لإنشاء هيئة أكاديمية  عالية المستوى ذات طبيعة دولية وتعالج قضايا إستراتيجية خاصة تهم المجتمع الإنساني كله ..

في شهر فبراير 1978 دعا الملك مجموعة من كبار مستشاريه ووزرائه وبعض رموز الفكر والثقافة في المغرب وحضر الاجتماع في القصر الملكي بمراكش كل من السيد أحمد عصمان الوزير الأول والسيد الحاج محمد باحنيني وزير الدولة في الثقافة ووزير التعليم العالي الدكتور عز الدين العراقي ومستشارى الملك احمد بنسودة وبوطالب واحمدكديره وادريس السلاوى  والسيد محمد الفاسى والسيد موريس دريون أمين سر الأكاديمية الفرنسية , ودعيت لحضور هذا الاجتماع وهي المرة الأولى التي أحضر فيها هذا الاجتماع , وفي بداية الجلسة تحدث الملك عن رغبته في إنشاء أكاديمية مغربية عالية المستوى ويكون نصف أعضائها من المغرب والنصف الآخر من شخصيات عالمية متنوعة وأخذ الملك يتحدث عن تصوره المبدئي لفكرة الأكاديمية , وكانت فكرة الأكاديمية قد ترسخت في ذهن الملك وعقد العزم على إنشائها , وكان الملك يريد أن يسمع وجهات نظر مختلفة تعمق الفكرة لديه ,  وبعد ثلاث سنوات تم الإعلان عن إنشاء الأكاديمية ونشر في الجريدة الرسمية الظهير الشريف المؤسس لهذه الأكاديمية , وقد كتبت في إحدى المجلات المغربية مقالة عن فكرة الأكاديمية كما جاء في الظهر المؤسس , وأقيم حفل كبير برعاية الملك لافتتاح هذه الأكاديمية وضمت نخبة ممتازة من شخصيات مغربية وعالمية وكان حدثاً كبيراً فى المغرب..

وفي عام 1983 اختارني الملك عضواً مقيماً في الأكاديمية ويشترط في العضو المقيم أن يكون مغربي الجنسية , واصدر أمره بإعطائي الجنسية وكلف الملك مستشاره عبد الهادي بو طالب أن يلقي خطاب الترحيب بي في الأكاديمية وفقاً للأعراف المتبعة عند استقبال العضو الجديد , وقد ألقى الأستاذ بو طالب خطاب الاستقبال ثم ألقيت خطابي بعد ذلك , وبذلك أصبحت عضواً في هذه الأكاديمية , وكانت تضم ثلاثين شخصية مغربية وثلاثين شخصية عالمية معروفة بإسهامها الثقافي في الأدب واللغة والطب والعلوم والاقتصاد والسياسة الدولية ,وينتمي هؤلاء لمختلف القارات والدول ويمثلون مختلف الثقافات الإنسانية , وكان الملك يختار المكان ويحدد موضوع الدورة ومكان اجتماعها , ويشرف على أعمالها , وهناك الدورة الربيعية والدورة الخريفية وكان كل عضو يشترك في الحوار ويعد التدخل الملائم اوالمناقشة , بالإضافة إلى الخبراء الذين يدعون للمشاركة في كل دورة.. وهناك اجتماعات نصف شهرية للأعضاء المغاربة المقيمين تناقش فيها قضايا فكرية وثقافية في إطار مهمة الأكاديمية في تعميق القيم الروحية والإنسانية..

وكانت الأكاديمية تجتمع في المدن المغربية وأحياناً تجتمع خارج المغرب وقد عقدت دورات في كل من باريس ومدريد ولشبونه وغرناطة وعمان وكانت جميع التدخلات والمناقشات تنشر في كتاب خاص عن كل دورة , وقد نشرت الأكاديمية كتباً كثيرة  حول دورات الأكاديمية ومحاضرات الأكاديمية وندوات الأكاديمية ومجلة الأكاديمية , وكانت موضوعات الدورات هامة ومفيدة , وكانت الحرية الفكرية مكفولة للجميع , ويمكن لكل عضو أن يعبر عن وجهة نظره كما يراها في كل القضايا المطروحة للمناقشة,  وقد شاركت في بحوث مكتوبة في معظم هذه الدورات, وهذه التدخلات منشورة في كتب الأكاديمية ,وقد ناقشت الأكاديمية موضوعات ..وأهمها :

التنمية والتربية والجامعة

الانتداب الرئاسي

الثوابت والمتغيرات

حوار الشمال والجنوب

قضايا الإنجاب

الاستنساخ…قضاياه ومشاكله

مشكلة الجراد

أخلاقيات غزو الفضاء

الأمم المتحدة والشرعية الدولية

أزمة تشيرنوبل وآثارها

القدس

 التعاون بين دول الحوض المتوسطي

الغزالي وابن ميمون

الشرعية الدولية

اوروبا ..والآخرون

نشاطي في نطاق الأكاديمية

 أتاحت لي الأكاديمية فرصة المشاركة في قضايا سياسية واقتصادية ودولية، وكنت أسمع وجهات نظر الطرف الآخر الذي يمثل الغرب أو عالم الشمال من قضايا العالم المعاصر، ولا يمكن لأي طرف في العالم مهما كان قوياً أن يتجاهل الطرف الآخر، ولا يمكن لأحد أن يعيش منعزلاً عن الآخرين، والحوار ضروري بين كل الحضارات والثقافات والشعوب والدول والطوائف والأديان والطبقات الاجتماعية في المجتمع الواحد، ولا بديل عن الحوار وقبول الآخر والتفاوض معه بعيداً عن مواقف القوة وسياسات الهيمنة ، وعندما يلجأ الطرف القوي إلى الاستبداد بالسلطة والتفرد بالرأي فالتمرد حتمي،ولا يمكن لأي فريق مهما كان ضعيفاً أن يستسلم ، والمقاومة حق لكل من وقع الاعتداء عليه ، وكنت أحرص على سماع رأي الآخر في حوارات الأكاديمية التي كانت تضم شخصيات كبيرة كان لمعظمها دور مؤثر في سياسة بلده ، ويجب أن نسمع وأن نتفهم مخاوف الآخرين، ولا يمكن أن يتحقق السلام في أي مكان في العالم إلا بالسياسات العادلة، والابتعاد عن سياسات السيطرة، ولا يمكن للطرف الضعيف أن يمارس الإرهاب إلا عندما يشعر بالظلم وتغتصب أرضه ويقع تجاهل مطالبه العادلة …

كانت الأكاديمية تضم شخصيات مغربية وشخصيات عربية وإسلامية يمثلون مختلف الاتجاهات الفكرية، وهذا أمر جيد، لأنه أتاح الفرصة لتكوين علاقات إنسانية بين الأطراف المختلفة، وتمكن كل فريق أن يسمع الآخر ..

ومشكلة الأقوياء أنهم يتوهمون الكمال في أنفسهم، وقلما يعترفون بحقوق الآخر الأقل منهم قوة وحضارة، وهذه هي مشكلة الحضارة الحديثة، فقد أوهمت شعوبها بأنهم الأفضل والأكمل والأقدر على قيادة المركبة الكونية، وهذا التصور حجب شعوب الحضارة عن رؤية الواقع، وهم يرون الواقع كما يريدون رؤيته، لا كما هو في حقيقته، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل مآسى الشعوب المتخلفة، والنموذج الحضاري المعاصر ليس هو النموذج الوحيد الذي يجب الاقتداء به، فمن حق كل شعب أن يختار نموذجه الذي يلائمه، وأن يستمده من واقعه، ويعبر عن اختياراته …

ولاحظت أن الغرب المسيحي بكل تنوعه القومي والمذهبي والعرقي يعيش في داخله شعور بالخوف من الإسلام، ولا يمكن له سواء على مستوى الشعوب أو الدول أن يتعامل بحياد وموضوعية مع الإسلام، ويعتبرون أن أي قوة سيملكها العالم الإسلامي ستكون موجهة ضد الغرب المسيحي، وهذا شعور خاطئ والإسلام لا يحقد على الغرب وإنما يدين سياسة الدول الغربية وهو لا يريد استخدام العنف ضدها وإنما يريد الدفاع عن ذاته ومصالحه ، ولذلك فإن كل مؤتمرات الحوار بين الإسلام والغرب قد فشلت وسوف تفشل على وجه التأكيد ، لأن الغرب لا يريد الحوار لأجل أن يسمع صوت العالم الإسلامي، وإنما يريد الحوار لكي يسمع عالمنا الإسلامي ما يريد الغرب من شعوبنا، وتكوين قابليات نفسية للرضوح وقبول القيم الغربية ..

والفرق بيننا وبين الآخر الغربي المسيحي أننا نكره الصليبية الحاقدة والصهيونية المغتصبة المعتدية ولا نكره المسيحية العاقلةالمتعايشة  ولا اليهودية المتساكنة  ، وهم يكرهون الإسلام ويحقدون عليه من غير مبرر يدفعهم لذلك، ويريدون إسلام الاستسلام والتبعية، وهذا الإسلام ليس هو الإسلام الذي تؤمن به شعوبنا، ومما لاحظته أن معظم الشخصيات الغربية، سواء كانت علمية أوسياسية تتعامل مع الإسلام من خلال أسلوب ” التقية “، ويشعرون في داخلهم أنهم أكثر رقياً وحضارة وفهماً ونضجاً، وإن مجتمعاتهم تملك ما لا تملكه المجتمعات الإسلامية من العلم والثقافة والحضارة والأخلاق والقيم الإنسانية، وهذا صحيح، فمعظم مجتمعاتنا الإسلامية ما زالت متخلفة وجاهلة وهي بعيدة عن الإسلام الصحيح، إسلام الكرامة والحرية والقيم الأخلاقية والسلوكيات الحميدة ..

وخلال اجتماعات الأكاديمية كنت ألاحظ فرقاً كبيراً بين الشخصيات الغربية التي تربت في ظل المجتمعات المسيحية التقليدية وبين الشخصيات الآسيوية أو الأفريقية التي تربت في ظل قيم التسامح واحترام الخصوصيات الإسلامية، ولا نشعر لدى هذه الشخصيات سواء كانت مسيحية أو كانت مؤمنة بعقائد أخرى أي مشاعر عدائية ضد الإسلام، وكانت الأكاديمية تضم عدداً من كبار علماء المغرب، من أمثال الشيخ عبد الله كنون الحسني رئيس رابطة علماء المغرب، والشيخ محمد مكي الناصري رئيس المجلس العلمي للرباط والشيخ محمد الحبيب بلخوجة مفتي تونس والدكتور صبحي الصالح من لبنان، وكانت تضم أحد أعمدة الفاتيكان وكانت معظم موضوعات الأكاديمية ذات طبيعة سياسية أو قانونية، وأحياناً كان الموضوع يتطلب دراسة موقف الأديان السماوية من بعض القضايا العلمية مثل تقنيات الإنجاب وأطفال الأنابيب وضوابط الاستنساخ البشري، وموقف الأديان السماوية من هذه التطورات العلمية التي تخص الإنسان ، وكان موقف الإسلام والمسيحية متقارباً في معظم المواقف المرتبطة  بالاخلاقيات والإنجاب وأهمية الحفاظ على الأسرة، والحرص على عدم اختلاط الأنساب والتمسك بالقيم الروحية والأخلاقية في العلاقات الاجتماعية ..

وقد ضمت الأكاديمية عدداً من الشخصيات العلمية المغربية، من مختلف الاتجاهات الفكرية، وهذه ظاهرة إيجابية، وأتيحت لي الفرصة للتعرف على بعض الشخصيات المغربية ذات الميول الفكرية الليبرالية ، واكتشفت في معظم هذه الشخصيات اعتدالاً في الفكر واستقامة في الخلق واحتراماً للقيم الإسلامية الأصيلة ، فما ينكره هؤلاء ليس هو الإسلام وإنما هو الصورة السلبية الضيقة  للإسلام، ولا خلاف في إنكار هذه الصورة، وليس من الإسلام ماكان مناقضاً لثوابت الإسلام في حرية العقيدة واحترام الحياة والثقة  بالعقل والعلم ، ويجب ألا تضيق صدورنا بمن ضاق صدره بالصور السلبية والأفكار المتخلفة والضيقة ، وكلنا منكر لكل مظاهر التخلف والجهل ، وليس من ثقافة الإسلام ما كان مسيئاً لحقوق الانسان وكرامته..

وكان الملك الحسن الثاني رحمه الله يحرص على اختيار أعضاء الأكاديمية بنفسه، بحيث تضم الأكاديمية مختلف الاتجاهات الفكرية ومختلف التخصصات العلمية لكي يكون الحوار بين الأفكار والثقافات، وكانت كل الآراء تحترم، ولا حدود لحرية المفكر، بشرط أن تحترم ضوابط الحوار وأخلاقية الحوار، وأدب الاختلاف، وهذه ظاهرة جيدة ومفيدة، وأتيحت لي خلال اجتماعات الأكاديمية أن أتعرف على كثير من الأفكار وأن أسمع من الاخرين ما يؤمنون به من الأفكار، ورأيت أن الفجوة بين الأفكار ليست متباعدة، والخلاف شكلي وسطحي، وكل فريق يرسم للآخر صورة قاتمة، ولو ارتقت أساليب الحوار لما كان الخلاف…

وقد سعدت بمعرفة الكثير من أعضاء الأكاديمية المغاربة وغير المغاربة، وكنا نتحاور باستمرار، نلتقي ونختلف، ولم يكن الخلاف مبرراً للقطيعة والجفاء ، وكنت أحترم من يخالفني في الرأي وألتمس له العذر، وكنت أقدره لأنه أتاح لي الفرصة لمعرفة الرأي الآخر، ولا يمكن لأي أحد منفرداً أن يدعي امتلاك الحقيقة، فالحقيقة ليست واحدة، ولكل فرد حقيقة تتراءى له ويؤمن بها ويدافع عنها، ولولا إيمانه بها لما دافع عنها، وما دام الإنسان يؤمن بحقيقة ولو كانت متوهمة فهو معذور في رؤيته، وكل حقيقة في نظر صاحبها تملك نسبة ولو ضئيلة من إمكان الصحة، وهذا هو المنهج الذي كنت أؤمن به، بأن الخلاف الناتج عن رؤية فكرية يجب أن يحترم بشرط ألا يقع التفريط في الثوابت…. 

ابرز أصدقائي من أعضاء الأكاديمية المغاربة هم :

الأستاذ عبد الوهاب بنمنصور وهو مؤرخ المملكة ومحافظ ضريح محمد الخامس ومدير الوثائق الملكية وهو من أعز أصدقائي وأقربهم إلي , وقد عرفته قبل الأكاديمية، وكنت أقدره وأثق به , وكنا نلتقي باستمرار وهو عالم ومؤرخ وله مؤلفات كثيرة , وأهمها أعلام المغرب والوثائق المغربية وقبائل المغرب وكتب عن الرحلات الملكية ..

ـ الأستاذ أبو بكر القادري وهو من رجال الحركة الوطنية , ومن الشخصيات المغربية التي تحظى باحترام المجتمع المغربي, وقد أصدر عدة كتب عن تاريخ الحركة الوطنية وكانت له مساهمات جيدة في أعمال الأكاديمية وكنت اقدره واحترم تاريخه الوطني والتزامه بالقيم المغربية الأصيلة, وهو غيور على الإسلام واللغة العربية …

ـ الدكتور عزيز الحبابي وهو من ابرز فلاسفة المغرب وأكثرهم شهرة ومكانة ,وله مؤلفات في الفلسفة والشخصانية وكان ينظر إليه كمفكر يساري بعيد عن الإسلام ولم ألمس ذلك من أفكاره وكان صاحب رؤية فكرية وفلسفة متحررة ولم أجد في تدخلاته في الأكاديمية ما يخرج عن الثوابت, وهو شخصية متميزة وصاحب خلق رفيع وكنا نتحاور موضوعية وأدب ولا أشك في إخلاصه …

ـ الأستاذ عبد الله كنون الحسني رئيس رابطة علماء المغرب وهو عالم ومؤرخ وفقيه وهو مؤلف كتاب النبوغ المغربي ومؤلفات أخرى ويتمتع بشخصية قوية وله مواقف وطنية، ويحظى باحترام المغاربة، وهو رجل حكيم ويحسن التدبير والرأي، وكان يحظى باحترام علماء المغرب ومفكريه…

-الحاج محمد باحنيني، وزيردائم  وأديب وكاتب سياسي وكان يحظى بثقة الملك، وتولى وزارة الثقافة وغيرها ، وكانت تربطني به صلة صداقة ومودة.وهو من اعمدة المخزن ورموزه…

الدكتور عباس الجراري،  أستاذ جامعي  ومفكر ومؤلف وأديب، وهو عميد الأدب المغربي، وهو مستشار الملك، وكانت له إسهامات مهمة في أعمال الأكاديمية، في الدورات والندوات الوطنية وأحاديث الخميس، وهو من أقرب أصدقائي، وهو صاحب رؤية إسلامية متميزة…

الدكتور عبد الهادي النازي عالم ومؤرخ ومختص بالتاريخ الدبلوماسي المغربي، وله موسوعة في ذلك، وكان إسهامه في أعمال الأكاديمية جيداً , وبخاصة فيما يتعلق بتاريخ المغرب والوثائق التاريخية المخطوطة…

الدكتور محمد الكتاني، مفكر وأديب وعميد لكلية الآداب ,وله مؤلفات قيمة في الأدب والفكر واللغة ، وكان له إسهام جيد في أعمال الأكاديمية، وكنت أقدر فكره والتزامه بالثوابت المغربية الأصيلة… 

الأستاذ عبد الكريم عُلاب،  عميد الصحافة المغربية، وأديب ومفكر وسياسي , ومن أعمدة حزب الاستقلال، وله تاريخ كبير في الحركة الوطنية، وهو من المدافعين عن الهوية المغربية الأصيلة، ومن دعا ة الإصلاح السياسي والاجتماعي..

الأستاذ محمد شفيق  باحث جيد ومتمكن من اللغة  ومن رموز الحركة الأمازيغية , وضع قاموساً علمياً للأمازيغية، وكان يدافع عن الأمازيغية بحماس، وتولى ادارة معهد الدراسات الامازيغية..

الدكتور عبد اللطيف بربيش،  أمين السر الدائم للأكاديمية، وهو طبيب متمييز ، ويتمتع باستقامة وأخلاقية عالية ,وكان يشرف على أعمال الأكاديمية، ويسهر على تنظيم الدورات والندوات والاجتماعات  الدورية..

الدكتور عز الدين العراقي،  طبيب وسياسي، وتولى منصب الوزارة الأولى، وهو مثقف جيد، وكانت تدخلاته في أعمال الأكاديمية جيدة وموضوعية ..

الدكتور عبد العزيز بنعبد الله، باحث متميز ومؤرخ وعالم ومؤلف ,وتولى إدارة مكتب تنسيق التقريب في الجامعة المغربية، وله عدة معاجم  علمية ولغوية وجغرافية عن المغرب..

الدكتور إدريس الضحّاك، أستاذ جامعي وسفير ورئيس المجلس الأعلى للقضاء ووزير، وهو مختص بقانون البحار، وهو من الشخصيات المغربية المتميزة والمعروفة بالاستقامة والنزاهة، ومن أبرز المشاركين في أعمال الأكاديمية..

الدكتور إدريس العلوي العبدلاوي،  رئيس جامعة القرويين ومن المختصين بالقانون، وكان صديقاً عزيزاً وكنت أقدره ويتميز بأخلاقه و استقامته .

الدكتور محمد بنشريفه : من ابرز الباحثين المختصين بالأدب الأندلسي، وله مؤلفات قيمة، وله حضور علمي في الساحة الثقافية المغربية  …..

الدكتور المهدي المنجرة : وهو مفكر مغربي يهتم بالدراسات المسقبلية، وله مشاركات جيدة في أعمال الأكاديمية

الدكتور عبد اللطيف بنغبد الجليل : استاذ جامعى وعميد ووزير ورئيس جامعة محمد الخامس وهو من أعمدة الاكاديمية ومن ابرز القيادات الجامعية..

الدكتور ادريس خليل: استاذ غى الرباضيات وعميد ووزير , وله مشاركات مهمة فى اعمال الاكاديمية وفى المناقشات والحوارات.

الدكتور عبد الله العروي : وهو مؤرخ متميز، وله كتابات قيمة في مجال التاريخ والأدب، وهو مفكر وصاحب رؤية شمولية ……..

وهناك شخصيات أخرى، وكانت لقاءات الخميس في الأكاديمية غنية بالحوار الجاد حول قضايا فكرية مختلفة، وكانت معظم القضايا التي كانت تثار في اجتماعات الخميس تتركز على قضايا مغربية، سواء فيما يتعلق بتراث المغرب وأعلامه أو ما يتعلق بقضاياه المعاصرة ………

وهناك شخصيات عربية وإسلامية تم اختيارهم لعضوية الأكاديمية، وكانت لهم مشاركات جيدة في أعمال الأكاديمية، ومن أبرز هؤلاء:

الدكتور محمد الحبيب بلخوجة من تونس، والدكتور أحمد الضبيب من السعودية,  والدكتور أحمد كمال أبو المجد من مصر , والدكتور ناصر الدين الأسد من الأردن , والدكتور شاكر الفحام من سوريا,  والأمير الحسين بن طلال من الأردن ,والدكتور مانع سعيد العتيبة من الإمارات العربية ,والأستاذ فؤاد سيزكين من تركيا ,والدكتور أحمد عبد السلام من باكستان، هناك شخصيات أخرى من أميركا وفرنسا وإنكلترا وروسيا والصين والهند وإسبانيا والبرتغال , وكان يتم اختيارهم لاسهامهم في خدمة الفكر ودعم القيم الإنسانية .

وكان الملك الحسن الثاني يهتم كثيراً بهذه الأكاديمية , ويختار أعضاءها بنفسه، ويتابع أعمالها بعناية كبيرة، وكان يريد أن تكون إحدى مآثر عهده، وفي الوقت ذاته تعبر عن شخصية الملك وتوجهاته واختياراته، وكان يؤمن بالحوار ويشجعه ويرى أن هذا هو طريق التواصل بين الحضارات من خلال طرح المشكلات ذات البعد الانسانى في القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية , وأعترف أنني قد استفدت من خلال هذه الاجتماعات، وكنت مستعداً من خلال تكويني النفسي والفكري للحوار مع الآخر، والآخر موجود أردنا أم لم نرد ذلك ، فهو شريك في الأسرة الإنسانية، ولا تفاضل بين البشر بسبب الأعراق والقوميات والانتماءات النسبية والاديان ، فالناس سواء في الحقوق الإنسانية، ويتفاضلون بالعمل الصالح والسلوك الحسن والتمسك بالقيم العالية ، ولم أشعر قط بكراهية الآخر والحقد عليه، سواء من اتباع الأديان السماوية أو الأديان الإصلاحية الأخرى كالبوذية والهندوسية، وإنما كنت أكره الطغيان والاستكبار والعدوان على الآخرين واحتلال أرض الغير وقتل الأبرياء من الجنود لبناء مجد موهوم لصاحب السلطة، وتحقيق نصر مخجل لأنه ملوث بدماء الأبرياء، ذلك ما تعلمناه من ثقافتنا الإسلامية الأصيلة وذلك ما تربينا عليه في طفولتنا ..

لقد عبرت في معظم تدخلاتي في الدورات العامة للأكاديمية عن أفكاري هذه، من غير انفعال أو تعصب، وكان هناك من أعضاء الأكاديمية من كان يؤمن بهذا المنهج …

وقد حافظت الأكاديمية على أدبيات الحوار, وأرست قيماً عالية في التسامح والتكافل للدفاع عن الحريات والحقوق الإنسانية وترسيخ القيم الروحية في المجتمعات المعاصرة ، ولم يحدث قط أي تدخل في خصوصيات الحوار أو توجيهه،  وكل عضو كان يعبر عن رؤيته الذاتية، وقد يقول قائل ان مثل هذه الأفكار واللقاءات المثالية هي مجرد أحلام والأحلام سرعان ما تمحى عندما يفيق الحالمون، وهذا صحيح، فالحياة الواقعية شيء آخر، وأؤكد أنه لا شيء يمحى أبداً، وما يتجاهله جيل قد يهتم به جيل لاحق، إذا كان هذا الفكر في صالح الحياة الإنسانية ..

وإنني أؤمن بأثر الفكر في تطوير التجربة الإنسانية، وفي النهوض بالمجتمع الإنساني إلى الأفضل وليس لدينا معيار للصواب والخطأ، فالصواب في نظر حكمائنا هو الفكر الذي يحرر الإنسان من العبودية ومن قيم العبودية , ويدافع عن الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة فى توزيع الثروات الكونية و اقرار حقوق الأفراد والمجتمعات ,ومن واجب الفكر أن يكون في خدمة الإنسان، ولا خير في فكر لا ينهض بمجتمعه ويسهم فى تحريره من الظلم والخوف والجهل والاستبداد والطغيان ، ولا خير في مفكرين لا يهتمون في توعية مجتمعاتهم بحقوقهم المشروعة ، فالفكر لأجل النهوض بالانسان  والحياة الأفضل له..

كنت أنظر إلى الأكاديميات والجامعات العلمية وكل مؤسسات الفكر من خلال دورهم في يقظة شعوبهم، وإقرار قيم عادلة في مجتمعاتهم، وعندما يغيب هذا الدور عن المؤسسات العلمية فإن هذه المؤسسات تفقد مبرر وجودها , ويفقد المجتمع ثقته بها، وهذا هو دور المساجد أيضاً، فمنابرها أهم المنابر الثقافية وأكثرها تواصلاً مع المجتمع، وإذا ارتقت هذه المنابر بخطابها وأفكارها ارتقى المجتمع بها، والإسلام رسالة موقظة ومحررة , وترتقي رسالة الاسلام   بسمو فهم المؤمنين به لهذه  الرسالة، لكي تكون صورة الإسلام معبرة عن حقيقة الإسلام ..

وأتمنى من الجامعات أن تدرك رسالتها في تكوين الأجيال القادرة على تحمل المسؤولية، وسوف يكون جيل الأبناء مؤتمناً على عصره كماأن جيلنا مؤتمن على عصرنا، ولا وصاية لجيل على جيل في اختياراته المتعلقة بمشاكله وهو أعرف بقضاياه، وأحرص عليها و ولا يمكن أن يجتمع جيل على ضلالة، وعندما تقود الجامعات مسيرة المجتمع  , فإن من المؤكد أن رؤية الأحداث والأزمات ستكون اوضح والحلول سنكون أكثر نضجاً وأقرب إلى الصواب ..


 

المؤتمرات والندوات في المغرب

شهد المغرب فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين حركة ثقافيةنشطة، سواء داخل الجامعات أوخارجها، وكانت المؤتمرات تعقد في كل مدينة مغربية وفي موضوعات مختلفة، وكانت تضم كفاءات علمية متميزة، وكنت أشارك في بعض هذه اللقاءات التي تدخل ضمن اهتمامي، وبخاصةالمؤتمرات التي كانت تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وجامعة القرويين والشعب الإسلامية في كليات الآداب في الجامعات المغربية، وأهم هذه المؤتمرات ما كانت تنظمه وزارة الأوقاف عن المذهب المالكي وأعلام المغرب والمؤتمرات التي تنظمها جامعة الصحوة الإسلامية، التي كانت تهتم بالقضايا الاجتماعية المعاصرة، كموضوع المرأة والتطرف والعلاقات بين الإسلام والغرب، ونظرة الغرب إلى الإسلام ، وقد وجه المغرب اهتمامه في الفترة الأخيرة إلى القضايا المعاصرة , وهذا اهتمام حيد، ويجب أن يوجه كل جيل اهتمامه لقضاياه التي تهمه وتسهم في زيادة وعيه، وإذا وقع تناول الموضوعات التقليدية القديمة التي اهتم بها أسلافنا فيجب أن نبحثها من زاوية معاصرة,  وأن نبدي رأينا فيها كما نراه وكما نؤمن به ..


 

نشاط وزارةالأوقاف

تابعت باهتمام نشاط وزارة الأوقاف خلال ربع قرن، وكانت الوزارة نشيطة وفاعلة، وقد نظمت عدة مؤتمرات موفقة,  وأهمها:

مؤتمر الإمام مالك في فاس ,  ومؤتمر القاضي عياض في مراكش , ومؤتمر البيعة والإمامة في مدينة العيون، ومؤتمرات الصحوة الإسلامية في الدار البيضاء والرباط، وقد شاركت في هذه المؤتمرات بتدخلات مكتوبة , وقد نشرت هذه التدخلات في المطبوعات التي أصدرتها الوزارة ,كما نشرت في بعض كتبي المطبوعة  ، وهناك ذكريات مازالت عالقة بذاكرتي، وأذكرها في بعض الأحيان بسرور، وتعلمت منها دروساً مهمة، وهي تؤكد أهمية مراعاة المخاطبين والتماس العذر لهم فيما يذهبون إليه.. وأهم هذه الذكريات

أولاً:في مؤتمر الإمام مالك الذي عقد في مدينة فاس قدمت بحثاً عن أثر الإمام مالك في المنهج الفقهي العام، وعندما تحدثت عن الأمام مالك بينت أثر منهجه الفقهي في المنهج الفقهي العام من حيث ترسيخ مكانة السنة في المنهج الفقهي وبخاصة في العراق، ولدى علماء الرأي (1).وكان تأثيره قوياً في منهج الإمام الشافعي الذي تلقى علمه على يد الإمام مالك وخالفه في بعض الآراء، وحاول أن يوجد مدرسة متوسطة بين مدرسةالحديث ومدرسةالرأي , ولقيت هذه المدرسة قبولاً لدى كثير من الفقهاء الذين تأثروا بفقه الشافعي في العراق ومصر، وقد اظهر بعض العلماء ممن لم يطلعوا على تاريخ المذاهب امتعاضاً، وأكدوا أنه لا يمكن أن يقارن الشافعي بشيخه مالك إمام المغاربة، وقد أسعدني تعلق المغاربة بالإمام مالك، وهذا التعلق أدى إلى تحقيق الوحدة المذهبية ، وكنت أرى أن المذهبية قد خدمت الفقه وشجعت التدوين الفقهي,  وساعدت على نمو علم أصول الفقه بمايخدم كل مذهب، إلا أنني لم أكن مع التعصب المذهبي، سواء بين المذاهب السنيةأو بين السنة والشيعة والزبدية والإباضية، وادعو باستمرار إلى التمسك بالثوابت وإعادة التأصيل الفقهي والعودة إلى ربط الفروع بالأصول,…

()البحث منشور في كتاب ابحاث في الفكر والثقافةوالحضارة

فالمذهبية لا تعني التعصب ضد الآخر، وكل المذاهب أسهمت في خدمة الفقه الإسلامي، ويجب أن يتسع صدرنا لكل الآراء الفقهية، وكنت أجد التعصب في المجتمعات الإسلامية ذات المذهب الواحد في المغرب وإيران وعمان والسعودية,  ولم أجد هذا التعصب في البلاد ذات المذاهب المتعددة كما هو الشأن في مصر وبلا د الشام نظراً لانتشار المذهب الحنفي والشافعي بشكل متماثل، ويدرس كل من المذهبين في المدارس الشرعية ..

وتعلمت من هذه التجربة أن أراعي هذه الملاحظة، وأنا أقول أن كل مذهب يمتلك مزايا خاصة به وهي متساوية في مكانتها، وتختلف في حجم انتشارها، وكل مذهب يكمل المذهب الآخر، وقد لاحظت في السنوات الأخيرة تراجعاً كبيراً لظاهرة التعصب في معظم البلاد الإسلامية بفضل جهود الجيل الجديد من العلماء الذين أخذوا ينظرون للفقه من زاوية أكثر اتساعاً وشمولاً ..


 

ثانياً:مؤتمر البيعة والإمامة في مدينة العيون الصحراوية المطلة على البحر الأطلسي، وقد قدمت بحثا اًعنوانه “مفهوم الإمامة في الفكر السياسي “، وقد غابت عن ذهني أهداف المؤتمر، وأعترف أنني نسيت ذلك، وقدمت بحثي بموضوعيه وعفويه، وكنت أتكلم عن شروط الإمامة وضوابط البيعة، وقلت مثل هذا في مجلس الملك في الدروس الحسنية، ولكن عند ما تتكلم في مؤتمر [1]  عام فيجب أن تكون أكثر مراعاة للمكان والزمان وطبيعة الحاضرين، وليس من الضروري أن تخالف ثوابتك، ولكن من الحكمة أن تقدم ثوابتك بطريقة منسجمة مع واقعك ومع ما هو مطلوب منك أن تقوله، وليس من الضروري أن يركز المتكلم في هذه المناسبة على البيعة، وأنه لا شرعية لبيعة الإكراه، وأن الالتزام في البيعة يرتبط باحترام كل الطرفين لما تتطلبه البيعة من وجوب الالتزام بالضوابط الشرعية وحماية المصالح الاجتماعية والقيام بما تتطلبه هذه المسؤولية من احترام لإرادةالأمة… وكان معظم الحاضرين يتوقع مني أن أقول ما يجب أن يقال من ثوابت الإسلام، إلا أن الحكمة واجبة، لكيلا يعطى الإنسان لأصحاب النوايا السيئة لكي يستشهدوا بكلامه لتحقيق أهداف مشبوهة وضارة وكنت أكبر شخصية الملك الحسن الثاني فقد كان واسع الصدر وكان يحترم العلم ويحترم الكلمة الصادقة والنصيحة المخلصة ويشجع عليها بشرط أن يلتزم صاحبها بأدب النصيحة وحسن النية وألا تكون ناقدة، اومسيئة ، وكان يرى أن الحرية في مجال الفكر الإسلامي تمنح النظام قوة ورسوخاً وعندما يقدم الإسلام كما يؤمن به الناس فإنه يعطي للمتكلم مصداقية في نظر المجتمع، وهذاأمر يرسخ الثقة بالنظام، وكنت لا أحب أسلوب التقرب إلى الحكام بما يسيء إليهم، والمبالغات نسيء ولا تقنع وتنفرالنفوس، والعقلاء يكبرون المواقف العاقلة والعلماء مؤتمنون على الشريعة……


 

ثالثاً:مؤتمرات الصحوة الإسلامية : وكانت وزارة الأوقاف تنظم هذه المؤتمرات التي كان يحضرها عدد كبير من العلماء والخطباء و الرموز الإسلامية في المدن المغربية , وكانت الغاية من هذه المؤتمرات احتضان هذه الرموز الإسلامية المرتبطة بالمجتمع و المؤثرة في اختياراته ومواقفه,  وكان المغرب يحرص على استمالة هذه القوى الإسلامية بدعوتها أولا ًوأشعارها بالتكريم ثانياً والتأثير على فكرها وسلوكها ثالثاً , ومعظم هذه الرموز الإسلامية تشعر بالتهميش والتجاهل وتعيش حياة بسيطة من الناحية المادية ’ , وتشعر أنها تملك قوة شعبية من خلال التفاف بعض الطبقات الاجتماعية الفقيرة  حولها وهي بحكم انتمائها لهذه الطبقات الشعبية المنسية والمهمشة تكون أقرب عاطفياً وفكرياً لهذه الطبقات , ويجمعهم شعور مشترك بالامتعاض والرغبة في التمرد ,وينعكس هذا على الأفكار والسلوكيات وقبول الفكر المتطرف والسلوك الغاضب للتذكير بوجودها , والسلطة في الغالب تكون غافلة عما يجرى في المجتمعات المنسية من اختناقات في الشوارع والأحياء والبيوت وفقر وبطالة وأمراض وآلام , وكل هذا يعمق الشعور بالالم والرغبة في الصراخ , وإذا لم تدرك الأنظمة السياسية هذه الحقيقة ولم تبادر إلى معالجة هذه الظواهر فإنها ستنمو بقوة و سرعة , وسوف تنجب هذه البيئة القاسية فكر التطرف وسلوكيات العنف تحت شعار الإسلام,  وعندما تواجه هذه التجمعات الصغيرة بالقوة الأمنية .فإنها تجد الفرصة للتعبير عن نفسها بالمقاومة ,ويقوى نفوذها وتفرض سيطرتها على محيطها الاجتماعي , والحلول الأمنية تحل المشكلة بشكل مؤقت إلا أنها تزيد في انفعال وتطرف هذه القيادات,  وتعطيها صفة المقاومة الوطنية للدفاع عن الإسلام والمصالح المشروعة لهذه الطبفات المهمشة, ,  وعندما تدعى هذه الرموز الشعبية لمثل هذه المؤتمرات فإنها تشعر بالأهمية , وإنها ليست منسية وعندما تسمع فكراً تبريرياً من كبار العلماء تدرك أن الغاية من الدعوة هي استمالتهم والتأثير عليهم والاستخفاف بعقولهم فيزداد غضبهم , ويجب أن يكون الفكر الذي يقدم لهؤلاء فكراً إسلامياً اصيلا يتفهم كلام هؤلاء ويدافع عن مطالبهم المشروعة في الحرية والتشغيل والأجور العادلة والاهتمام بحيائهم وتوفير السكن اللائق لهم وإنشاء المدارس والمستشفيات في إحيائهم وإيصال الكهرباء والماء والمواصلات إلى تلك المناطق المنسية ..

هذا هو الفكر الذي يريح هذه الطبقة ويجب أن يتبعه خطة تنموية فاعلة لترجمة هذا الفكر إلى واقع  ولو بالقدر اليسير والممكن والمقتدر عليه , ولايمكن تجاهل هذه الطبقة إلى الأبد والطبقة البائسة تصبر على الفقر ولا تصبر على الظلم ,وتصبر على الكوارث والأوبئة والأمراض والجفاف ولكنها لا تصبر على التجاهل والنسيان لمآسيها , وترضى بالاسلام الحقيقي الذي يعترف بإنسانيتهم وحقوقهم وترفض الإسلام التبريري الذي يرفع شعاره علماء السلطة والمستفيدين منها , وهؤلاء يسيئون للسلطة ولا يحسنون، ويثيرون الغضب في نفوس العامة أكثر مما يقنعون، والعامة تلتمس العذر لرجل الأمن في دفاعه عن السلطة ولكنها لا تلتمس العذر لعلماء الإسلام إذا قاموا بدور التبرير للواقع المتخلف ودعوة الناس إلى الصبر، وليس من الصبر الجميل أن يصبر المظلوم على ظلمه، وإلا لما كان الجهاد للدفاع عن الحريا ت وحقوق الانسان في مواجهة مظاهر الطغيان في المجتمع …   

وأنا هنا لا أتكلم عن مجتمع معين، وإنما أتكلم عن ظاهرة اجتماعية عامة  اصبحت تثير الاهتمام وهى التطرف ، وظاهرة التطرف ظاهرة عامة، وهي حتمية ما دامت أسبابها فائمة ، والعنف في مواجهتها يقويها وينميها ويخرجها من دائرة السلوك الفردي الخاطئ إلى دائرة المقاومة المشروعة عن مصالح طبقة اجتماعية واسعة هي الأكثر قدرة على الصبر والمقاومة والتضحية، وهي أكثر وطنية وأخلاقية واستقامة في سلوكها، وشعورها بالظلم جعلها طبقة حاقدة، وحقد المظلوم حقد مبرر في نظر الدين والأخلاق والقانون، وهو شعور  حتمي، ولا يقبل القوي  لغة الحوار إلا عندما يخاف على مصالحه، ولا حوار بين قوي وضعيف، ولا  ميرر للحقد في ظل الأنظمة الاجتماعية العادلة، وأقول لعلماء السلطة وجّهوا نصائحكم إلى رموز السلطة و أثرياء النفوذ بالأدب المطلوب والحكمة الرشيدة والكلمة الطيبة،  وحذّروهم من خطورة الظلم على الامن والاستقرار الاجتماعى فهذا هو جهادكم، فإنكم بذلك بوقظون السلطة من سباتها ويثق بكم مجتمعكم، ودافعوا عن مصالح هؤلاء المستضعفين فإنهم عيال الله، والتمسوا العذر لمنحرفيهم فإن الفقر الناتج عن ظلم هو مصدر الجريمة الأول في المجتمع، وعندما تخليتم عن هؤلاء في الماضي لجؤوا إلى الشيوعية والاشتراكية، ورفعوا شعاراتها وأقاموا دولها، ولما خدعوا بشغاراتها  وزاد فقرهم وأقيمت تماثيل القداسة لرموز السلطة اللذين تقاسموا فيما بينهم الغنائم وتنكروا لكل شعارات الأمس، وأقيمت القصور العظام للقياصرة الجدد ، وكان لابد من سقوط هذه الأنظمة الفاسدة على يد الغاضبين  ، ولن يخدعهم الإسلام أبداً لأن الإسلام لا تحرّف نصوصه ولا تسقط مبادئه، وقد يتحكم علماء السوء في تفسير بعض تصوصه بما يتعارض مع ثوابت الإسلام إلا أن هذا سرعان ما يتصدى له العلماء الصالحون والمؤمنون الصادقون، هذه هي الأفكار التي كانت تراودني عندما كنت أحضر مؤتمرا من هذه المؤتمرات التي كانت تشرف عليها وزارة الأوقاف فى القاهرة عن التطرف الاسلامى, وقلت هذا الكلام  فى الؤتمر ، وقلما تقيم وزارات الأوقاف مؤتمرات لخدمة الإسلام الأصيل، إنما تهدف لخدمة أهداف سياسية ظاهرة أو اعلامية, وتهيء من يتكلم في هذه المؤتمرات ممن تتوقع منه أن يعبر عن الأفكار التي تريدها والغايات المرجوة، و هناك الكثير ممن يبيع ضميره و دينه لأجل مكانة يحلم بها أو منفعة يحصل عليها,  وتذكرت , وأنا أسجل هذه الذكريات عشرات المؤتمرات التي حضرتها في معظم العواصم العربية وكانت غاياتها السياسية واضحة وأحياناً تترك في النفوس مشاعر الامتعاض , وكنت أقول في نفسي لو أن ما أنفق على هذه المؤتمرات والنشاطات التي تستهدف استمالة العواطف والعقول وخداع العامة بالشعارات الجميلة قد وجّه الى مجالات الإصلاح الاجتماعي وتخفيف لأعباء المادية عن هذه الطبقات المحرومة لأعطي هذا الجهد نتائج حقيقية وإيجابية ومفيدة,  أما هذه المؤتمرات فهي غير مفيدة وغير مقنعة , وتثير مشاعر الاشمئزاز لدى كثير ممن يشاركون فيها أو يتابعون أخبارها , ولم يعد بالإمكان الاستخفاف بعقول المجتمعات في ظل الوعي الاجتماعي الذي أحدثه التعليم والإعلام , وأؤكد هنا أنني لست ضد المؤتمرات الاسلامية ,  ولا اعتبرها مبادرات خاطئة بل أقول إنها مفيدة لو تم الإعداد لها بطريقة أكثر عقلانية , وكانت تستهدف التوعية وليس الاستمالة , والإقناع وليس الإغراء , وأسند أمر الأشراف على برامجها لرموز معروفة بالاستقامة والنزاهة والمصداقية الاجتماعية ,وأن تسمع في هذه المؤتمرات أصوات المواطنين الحقيقيين , وأن تعالج قضاياهم وأن يعطى لهم منبر المؤتمر لكي يعبروا عن آلامهم ومطالبهم..

أليس هذا ما يجب أن نوجه إليه اهتمامنا، أليس هذا هو ما يريده الإسلام منا، ألم تكن دعوة الإسلام موجهة إلى تحرير الإنسان من قيم العبودية ومظاهرها في العلاقات الاجتماعية وإلى إقرار مبدأ المشاركة بين الأغنياء والفقراء في الزكاة، وإلى إيجاد أنظمة إسلامية للتكافل الاجتماعي , وتحرير المعاملات والمبايعات من الربا والاحتكار والغش وأكل أموال اليتيم وأكل أموال الناس بالظلم ومحاربة كل أنواع الظلم ,وإلى إقرار مببدأ الشورى فيما يهم أمر المجتمع ويحمى مصالجه ، فلماذا ننصرف اليوم عن هذا التوجه الإسلامي إلى قضايا بعيدة عن اهتمام المجتمع، ألم يكن الإسلام فاعلاًفي الحياة العامة , فلماذا يهمش اليوم ويكون دوره صغيراً في حياة مجتمعنا، وإذا وقع الاهتمام بالإسلام فلأجل تبرير الواقع وليس من أجل الدفاع عن الإسلام ..

نريد أن تكون عاصمة الإسلام في قلب المجتمع , وفي الأحياء التي تتكدس فيها أكثرية المؤمنين بالإسلام والمخلصين له والمستعدين للتضحية للدفاع عنه ، ولا يمكن أن تكون عاصمة الإسلام ومصدر فكره هي قصور الامراء ولا أحياء المترفين الذين تربوا في المدارس الأجنبية على قيم الغرب,  وليس المؤتمن على الإسلام هم علماء السلطة والمناصب السامية، ولافقهاء الفتاوى التبريرية والخطب التمجيديةممن يملكون الحناجر الذهبية وأسلوب البيان….


 

رابعاً :المؤتمر العالمي لخطباء الجمعة

دعيت للمؤتمر العالمي لخطباء الجمعة في مدينة مراكش في عام 1993، وكان مؤتمراً أشرفت عليه وزارة الأوقاف، وحضرته وفود من مختلف البلاد الإسلامية يمثلون أشهر المنابر في العالم الإسلامي,  وهذه فكرة جيدة ومغيدة ..          

واجتماع الخطباء وتكريم هذه الشخصيات الاسلامبة  يعبر عن تكريم المساجد والاعتراف بدورها التوجيهى والتربوى والدعوى , وقد شجعت فكرة هذا المؤتمر وشاركت فيه ,وقدمت بحثاً عن دور منبر الجمعة في المجتمع الإسلامي , وأكدت فيه أهمية منبر الجمعة في الحياة الإسلامية وضرورة العناية بدور المسجد في التربية  والتكوين والتعليم , ويجب الحفاظ على أصالة دور المساجد كمنابر للكلمة الطيبة والنصيحة الصادقة والنقد البناء للمظاهر السلبية في المجتمع، وأهم ما تجب العناية به الاهتمام بتكوين خطيب الجمعة من الناحية العلمية والثقافية، وأهمية توفير الأسباب المادية له لكي يعيش بكرامة , ولكيلا يحتاج إلى غيره، فهو رمز للنزاهة والاستقامة، ويجب أن لا يكون منبر الجمعة منبراً للتطرف ولا يستغل لتحقيق أهداف شخصية أو لتبرير مواقف خاطئة، أو للدفاع عن السلطة وتمجيدها , كما لا يجوز أن يكون منبرا لخصوم السلطة ومعارضيها، فالمنبر يجب أن يكون للمجتمع كله , وأن يحظى باحترام الجميع فهو منبر الكلمة الناصحة والمواقف العادلة ,ولا يستغل لغير الأهداف المرجوة منه , ويجب أن تناقش فيه القضايا التي تهم المجتمع كله , ولا يكون منبراً للنقد الشخصي , وليس هو ملكاً لخطيب الجمعة فهو مؤتمن على ما يقول , ولا يجوز أن يعتلي منبر الجمعة رموز الفساد والانحراف وأصحاب الأفكار المنجرفة والسلوكيات الفاسدة فهؤلاء يجب أن يمنعوا من الكلام في هذا المنبر , وهذا المنبر ملك للمجتمع كله , وليس لفرد أو جماعة أو حزب أو طائفة , وتعرض فيه القضايا التي تهم المجتمع ولا تناقش فيه القضايا الخلافية , ولا يمكن استخدام هذا المنبر لغير الإصلاح وفقاً للمعايير الإسلامية,  ولا يذكر في هذا الأمر غير اسم الله , ولا بأس من الدعاء لأولي الأمر بالتوفيق والتسديد ,  ويشاد بالمواقف الوطنية وليس بالأشخاص , وتعلن من منبر الجمعة المواقف الإسلامية الجامعة والعادلة , ولا يدعى من منبر الجمعة لطاعة حاكم ظالم أو مستبد أو مغتصب السلطة ,ولا تبرر السياسات الظالمة من منبر الجمعة , وكل منبر يستخدم لغير الغاية المرجوة منه يجب أن يقاطع من المجتمع لكي تحافظ هذه المنابر على أداء رسالتها في النصيحة والإصلاح والبناء,  ويجب أن ترتقي ثقافة خطيب الجمعة وأن يكون عالماً في الأحكام الشرعية وحكيماً فيما يقول , وألا يستميل الناس بالمبالغات وأن لا يروي الأحاديث الموضوعة والحكايات الوعظية التي لا أساس لها من الصحة , ولا أن يخيف الناس فيما يقول , وأن لا يقسو على المذنبين بما ينفرهم ويبعدهم عن المساجد , وأن يحبب الناس بالإسلام , وأن يختار الكلمة الطيبة المؤثرة النافعة ,كما يجب على خطيب الجمعة أن يهتم بما يهتم به المجتمع وألا يتجاهل آلام الناس , وأن يكون مع المستضعفين والمظلومين , وأن يحض المجتمع على أنصاف هؤلاء والتعاطف معهم ولا يجوز لمنبر الجمعة أن يدافع عن ظلم ظالم أبداً , ولا عن استبداد حاكم , ولا يبرر ظلم الأغنياء للفقراء , ولا يكون منبراً لفريق سياسي ضد فريق سياسي آخر , فالمنبر لكل الناس والتدافع السياسي أمر طبيعي ولا يؤيد الإسلام فريقاً ضد آخر ,وإنما يؤيد المواقف العادلة والسياسات الوطنية النافعة..


 

خامساً:ندوات كليات القرويين

اشتهرت القرويين بدورها العلمي خلال التاريخ المغربي وقد امتد أثرها في بلاد الغرب الإسلامي والأندلس وغرب إفريقيا , ويعتبر جامع القرويين في فاس من أقدم المساجد الإسلامية التي اشتهرت بأثرها العلمي وبالعلماء الذين تخرجوا منها , واشتهرت مدينة فاس المغربية التي بناها المولى إدريس الأزهر ابن المولى إدريس الأول بمكانتها العلمية وعلمائها ومساجدها ومدارسها العلمية , وكان جامع القرويين يحظى بمكانته المتميزة في الغرب , وما زالت خزانة القرويين تضم ذخائر من التراث الإسلامي ومن المخطوطات الثمينة والنادرة ..

وأصبحت القرويين الآن جامعة تضم أربع كليات الأولى كلية الشريعة بفاس والثانية كلية أصول الدين بتطوان والثالثة كلية اللغة العربية بمراكش والرابعة كلية الشريعة بمدينة أغادير , وكان لكل كلية نشاطها العلمي الخاص بها وقد حضرت معظم الندوات العلمية التي كانت تنظمها هذه الكليات , وكانت كل كلية تختار الموضوع الذي يناسب اختصاصها , ومما كان يسعدني ويدفعني لحضور هذه الندوات أن معظم أساتذة هذه الكليات كانوا من خريجي دار الحديث وكانت تربطني بهم صلة علمية , وكنت أحضر ندوات هذه الكليات بفرحة ورغبة , وكنت أرى أبناء دار الحديث الحسينية وقد أصبحوا علماء يفخر بهم المغرب , وكانوا يشاركون بجدية وكفاءة في هذه الندوات وخاصة في كلية أصول الدين بتطوان وكلية الشريعة بفاس , وكان معظم الأساتذة ممن أشرفت على أطروحته أوما زال يعمل فيها …

وكنت  أفرح عندما أجد أبناء دار الحديث في معظم هذه الندوات واللقاءات العلمية , وكانوا يتميزون بأخلاق عالية وأدب متميز والتزام بالمنهج العلمى ويشاركون بفعالية في المناقشات العلمية وكنت أنظر إلى القرويين باحترام كبير, وكنت أتطلع أن تستعيد القرويين مكانتها التاريخية وأن تعود كما كانت الحصن العلمي الكبير الذي يفخر  به المغرب..

ولايمكن لأية مؤسسة علمية ناشئة أن تنافس القرويين , وأتمنى أن تكون كل شعب الدراسات الإسلامية في المغرب تابعة للقرويين , وأن تكون القرويين هي الجامعة الوحيدة التي تمنح شهادات الإجازة والدكتوراه وكل شهادات التخصص في العلوم الاسلامية , وهذا سيعيد الاعتبار لهذه الجامعة العريقة التي تحتاج إلى إحياء دورها العلمي وتجديد هياكلها ومناهجها لكي تكون مؤهلة للقيام بدورها العلمي والثقافي الذي يليق بتاريخها العريق , وألا تكون رمزاً للقديم بل يجب أن تكون رمزاً للفكر الإسلامي في تطلعاته وتجلياته وآفاقه…

كنت أريد القرويين كما يجب أن تكون وكما يليق بدورها التاريخي والعلمي , وكنت أعبر عن طموحي هذا في مجلس جامعة القرويين الذي كنت عضواً فيه  لمدة طويلة , وكتبت أبحث عن دور القرويين في إثراء الفكر الإسلامي وقدمت في إحدى الندوات التي عقدت في مقر القرويين بمدينة فاس بحثا عن دور القرويين فى إغناء الفكر الاسلامى..

وكانت أهم الندوات تعقد في مقر القرويين بفاس وعندما يكون الإنسان في فاس لا بد إلا أن يشعر بتاريخ هذه المدينة العريقة وبالتقاليد الفاسية الأصيلة, والشخصية الفاسية متميزة بخصائص واضحة في سلوكها وقيمها , وهي أكثر حضارة ,  وتملك قابليات لقبول الجديد من الأفكار والتقاليد , وكان علماء فاس يخظون بالتقدير والاحترام فى المغرب كله,  ويحترم رأيهم ويستشارون في القضايا العامة , وكانت تربطني صلة وثيقة بعلماء فاس ومثقفيها وأساتذة الجامعات فيها ,واشيد بجهد  عمداء القرويين مولاي عبد الواحدالعلوي والحاج أحمد بنشقرون والدكتورمحمد يسف , ورؤساء الجامعة الدكتورادريس العلوي العبدلاوي والدكتورعبد الوهاب التازي , وكنت من خلال مشاركتي في مجلس جامعة القرويين أعبر عن آرائي فيما يتعلق بضرورة إحياء دور القرويين وتجديد مناهجها والعناية بتكوين أساتذتها , وكان معظمهم من خريجي دار الحديث الحسنية ….

وقد شاركت في مؤتمر بمدينة فاس عن دور القرويين في خدمة الفكر الإسلامي وأعددت دراسة عن هذا الموضوع وشاركت جامعة الأزهر في هذا المؤتمر , كما شاركت منظمة الايسيسكوالإسلامية فيه , وما زلت أؤمن بأن القرويين يمكن أن تسهم بطريقة كبيرة في التعريف بتراث المغرب وإسهام المغاربة في خدمة الفكر الإسلامي ,وأشجع المغرب على الاهتمام بالقرويين وإعادة الاعتبار إليها وإحياء دورها العلمى والثقافى…

والقرويين ليست مجرد جامعة كبقية الجامعات وإنما يجب أن تكون معلمة إسلامية تضم كليات ومعاهد ومراكز بحوث إسلامية ومكتبات ويمكن للقرويين أن تشرف على دار الحديث الحسنية وشعب الدراسات الإسلامية وكل المؤسسات العلمية الإسلامية في المغرب , وهذا أقوى لهذه المؤسسات وأثبت لها  ولا يمكن لأية مؤسسات صغيرة أن تصمد أمام التحديات إلا بانتمائها إلى مؤسسة كبرى جامعة لما تفرق من المؤسسات , وتكون للقرويين شخصية اعتبارية مستقلة ومجلس أعلى يتولى أمر الإشراف على مؤسسة القرويين بكل فروعها وأقسامها وما يتفرع عنها من معاهد شرعية وهيئات علمية للبحث والفتوى …

وكنت أدافع عن هذه الفكرة باستمرار مع المسؤولين المغاربة في كل مناسبة,  وطرحت هذه الفكرة أمام الحسن الثاني  رحمه الله عندما استقبلني لأول مرة يوم تعييني كمدير لدار الحديث , وقد كان الملك سعيداً وهو يسمع اقتراحي حول مستقبل القرويين , وأبلغني أن هذا الاقتراح جدير بالدراسة والاهتمام ثم شغل عن هذا الموضوع فيما بعد,  وآمل أن يتحقق هذا الأمل في المستقبل وأن تأخذ القرويين ما تستحق من اهتمام وأن تستعيد مكانتها كجامعة رائدة ذات تاريخ عريق ..

وكانت كليات القرويين في تطوان ومراكش وأكادير تؤدي دورها العلمي و الإسلامي وقد حضرت بعض هذه النشاطات، وبخاصة في مدينة تطوان، وكانت كلية  أصول الدين تتمتع بشهرة جيدة، وتضم نخبة ممتازة من علماء المغرب ، وكان عميد الكلية الأستاذ : محمد حدو أمزيان، ثم تولى العمادة من بعده الدكتور إدريس خليفة، وكان من العلماء الشباب الذين يتمتعون بسمعة طيبة , وقد أشرفت على أطروحته في الدكتوراه ، كما أشرفت على أطروحات عدد من أساتذة هذه الكلية، من أمثال الدكتور إبراهيم بن الصديق الغماري والدكتور  الحبيب التيجكاني ومحمد بنيعيش, وهؤلاء من الرموز العلمية المتميزة والملتزمة التي أسهمت في إحداث نهضة علمية في تطوان وفي منطقة الشمال……

وتتميز مدينة تطوان بعلمائها وبتاريخها الوطني، وأدت كلية اللغة العربية في مراكش دوراً هاماً في دعم الثقافة العربية والإسلامية في منطقة الجنوب الغنية بتراثها الإسلامي، ولما أحدثت كلية للشريعة في أغادير وهي كلية ناشئة، كان لها أثر جيد في تعميق الثقافة الإسلامية وفي تكوين جيل معتز بثقافته، ويتمسك الناس في منطقة الجنوب بالتقاليد المغربية الأصيلة، وعندما كنت أزور هذه المنطقة المعروفة باسم “سوس” كنت أشعر بأصالة هذه المنطقة وتمسك سكانها بالإسلام واعتزازهم بتاريخ المغرب، ومازالت المدارس العتيقة قائمة ومستمرة في المدن الجنوبية العريقة مثل :تار ودانت التاريخية التي تقع في سفوح جبال الأطلس وتزنيت الجميلة ، وقد قمت بزيارة معظم هذه المدن التاريخية القديمة في الجنوب…


 

سادساً :مؤتمرات رابطة علماء المغرب

كانت رابطة علماء المغرب نشيطة وفاعلة ومؤثرة وتحظى باحترام المجتمع المغربي كله بكل فئاته , وكان الأستاذ عبد الله كنون الحسنى  يتولى الأمانة العامة لهذه الرابطة، و هوعالم جليل متميز وذو أخلاق عالية,  ويتمتع بشخصية قوية معتزة بذاتها، وهو من الشخصيات التي كنت أعجب بها، وكانت تربطني به صلة مودة متبادلة ، وله كتاب قيم بعنوان “النبوع المغربي “وكان يحرص على مشاركتي في مؤتمرات الرابطة التي كانت تعقد كل ثلاث سنوات، ويحضر هذه المؤتمرات عدد كبير من علماء المغرب، وقد حضرت مؤتمرات الرابطة في أغادير وفي مكناس وفي مدينة الناضور وفي مدن أخرى، وكان الأستاذ أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي يحضر هذه المؤتمرات لتأكيد الرعاية الملكية لعلماء المغرب ، وكانت السلطات الرسمية تهتم اهتماما كبيراً بالمؤتمرات التي تنظمها الرابطة، وتصدر بيانات وتوصيات تدعو إلى الإصلاح وتنقد بعض المظاهر السلبية ، وتحض الدولة على احترام القيم الإسلامية والاهتمام بالتربية الإسلامية,  وكان العلماء يعبرون عن آرائهم بحرية كاملة، وكانت الدولة تهتم بهذه التوصيات وتحترم إرادة علماء المغرب ..

وكنت أرقب باهتمام نشاط العلماء خلال هذه اللقاءات، وكان الأستاذ عبد الله كنون حكيماً وعاقلاً، وكان يتحكم  فى هذه التوصيات بحيث لا تتضمن إحراجاً للسلطة، ويخفف من اندفاع العلماء الشباب فيما يطالبون به فى توصياتهم، وكان الأستاذ كنون يحظى باحترام العلماء وثقنهم ، واستطاع أن يحافظ على وحدة الرابطة واستمرارها .

ولما انتقل إلى الرفيق الأعلى خلفه في الأمانة العامة الأستاذ محمد مكي الناصري، ثم خلفه الحاج أحمد بنشقرون، وضعفت الرابطة بعد وفاة الأستاذ كنون ، ولم تعد قوية ومتماسكة ومستقلة كما كانت من قبل ..

ولما توفي الأستاذ عبد الله كنون أقيم له في طنجة حفل تأبين كبير حضره عدد كبير من الوزراء والعلماء,  وألقيت كلمة في تأبين الراحل الكبير الذي كنت أقدره وأحترمه ، فقد كان شخصية حكيمة وعاقلة وأبيّة، وهو يمثل شخصية العالم الذي يعتز بعلمه ويقول كلمة الحق التي يؤمن بها ..

ولما حاولت وزارة الأوقاف السيطرة على الرابطة والتدخل في أمورها والتحكم في قراراتها ضعفت هذه الرابطة ، وشعر أعضاؤها  أن الرابطة لم تعد مستقلة و لا معبرة عن ارادة العلماء..

وقد أدّى  هذا الى  إضعاف الثقة بالرابطة، وعندما شعر العلماء بسيطرة وزارة الاوقاف على الرابطة اتجهوا الى تكوين جمعيات محلية غير منضبطة، ويؤدي هذا في الغالب إلى تشجيع الأفكار المتطرفة،و من المؤكد  ان أي جماعة لا تستطيع أن تتنفس بحرية ستبحث عن فضاء تتنفس فيه وتمارس فيه حريتها المسلوبة منها ، وكلما شعرت أي جماعة بالتضييق عليها اندفعت بقوة باتجاه معاكس للتعبير عن ذاتها، وهذا أمر طبيعي وحتمي، وليس من الحكمة التضييق على العلماء لكي لا يخرجوا عن منهج الاعتدال ، والنفوس البشرية تأبى أن يضّيق أحد عليها فيما تعتقده من حقوقها ، وما ظهر التطرف في المجتمع إلا لوجود أسباب شجعت عليه ، وأهمها التضييق على الناس في حرياتهم وإشعارهم بعدم الثقة بهم , ومحاولة الهيمنة عليهم، والذين يعتقدون أن الوصاية على الأفكار والتضييق على الحريات يمكّن ا لسلطة من التحكم في أمور النا س يخطئون في ذلك، وهم يسيئون للسلطة أولاً لأنهم يدفعون الناس للتجرؤ على النظام العام، وتزول الهيبة من النفوس وبدلاً من أن يتوجه النقد إلى الأخطاء والسلبيات  فإن النقد يتوجه إلى النظام كله ….

والعلماء ليسوا موظفين لدى السلطة، وليست مهمتهم الدفاع عن سياسة السلطة ولا تبرير مواقفها، وإنما مهمتهم التعريف بالإسلام وبيان أحكام الشريعة ، وتوجيه الناس إلى السلوكيات الأخلاقية، وتقديم النصيحة الصادقة إلى ولاة الأمر برعاية حقوق الله واحترام حقوق الناس، وإذا تمكنت السلطة من تجنيد العلماء لخدمة السلطة فانها تخسر كثيراً، لأنها تفقد العلماء خصوصيتهم الدينية، ويفقدون بذلك مكانهم فى مجتمعهم  وينفض الناس عنهم، ويبحثون عن رموز جديدة قد تكون جاهلة ومنحرفة ..

والسلطة الواعية تقوّي مركز العلماء في مجتمعهم وترسخ مكانتهم بين الناس لكي يثق المجتمع بهم، ويسمع نصائحهم ، وادعو حكماء السلطة لكي يدركوا أهمية دور العلماء في ترشيد السلوك الاجتماعي وإدانة التطرف والعنف وكل مظاهر الفساد ، وإذا صلح أمر العلماء انعكس ذلك بطريقة إيجابية على المجتمع ، والسلطة لا تحتاج إلى جند مقاتلين لكي يتصدوا  الى مطالب الناس,  وإنما تحتاج إلى مرشدين وناصحين يثق المجتمع بهم وينصت لنصائحهم ..

وليس من العلماء من رضي لنفسه أن يكون أداة للسلطة، وأن يسخّر منبره لتبرير المواقف الخاطئة، و العالم الحق يقدم النصيحة الصادقة لكل من الحاكم والمحكوم  على السواء ، ولا يقف موقف الريبة ولا يتملق ولا ينافق ولايطمع فى عطاء ، ويدافع عن  الحق حيث كان ,ويقف الى جانب الضعفاء لرفع الظلم عنهم..

.


 

سابعاً: مؤتمرات الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة

كانت منظمة الدفاع الاجتماعي التابعة للجامعة العربية والتي كان مقرها في الرباط تعقد مؤتمراتها في المغرب، وكان أمينهاالعام السيد محمد الشدادي يحرص على حضوري ومشاركتي في هذه المؤتمرات، وكانت معظم الموضوعات  تتركز حول مقاومة الجريمة، ومعالجة أسباب الجريمة ووسائل الوقاية  من الجريمة في  المجتمع العربي، وقدمت عدة بحوث حول طرق الوقاية من الجريمة، وقد نشرت بعض هذه البحوث فى مجلة المنظمة …

وكنت أؤكد دائما على ضرورة الاهتمام بالأسباب المؤدية للجريمة، ولا يمكن أن تعالج ظاهرة الجريمة إلا بمعالجة الأسباب المؤدية لها ، وأهمها الفقر والجوع  الناتج من سوء التوزيع والفساد الاقتصادي والفساد الإداري والرشوة وفسادالقضاء وغياب القوانين الاجتماعيةالعادلة، و إذا لم تعالج هذه الأمراض فإن من المؤكد أن الجريمة سوف تستمر وتقوى ويكبر خطرها، وهي ظاهرة مرضية والمرض لا يعالج بالمهدئات، وإنما يعالج بإزالة أسباب المرض وإصلاح الخلل المؤدي إلى توتر النفوس وسيطرة مشاعر اليأس واللجوء إلى العنف  والجريمة وسيلة حتمية للتعبير عن الغضب المكبوت والانتقام من الآخرين، وجرائم المترفين أكثر من جرائم الفقراء المستضعفين، فهؤلاء يسرقون عن حاجة ويدافعون بذلك عن حياتهم وحقوقهم، أما الأغنياء والأقوياء فإنهم يرتكبون جرائم الفساد الاقتصادي والإداري والأخلاقي ,  ويسخرون الدولة لحماية فسادهم وهم يسرقون من الدولة نفسها ومن المجتمع , ويدفعون الرشوة لتغطية سرقاتهم عن طريق تهريب السلع والتهرب من الرسوم والضرائب والحصول على تراخيص استثنائية في البناء والتجارة والأراضي والمصانع والمشروعات الزراعية,  ويستغلون العمال ولا يعطونهم الأجور العادلة ويصدر القضاء أحكاماً  تبرر لهم اغتصاب أراضي الفلاحين وطردهم واستغلال جهدهم , ويمارسون أسوأ أنواع الاستغلال ضد مصالح المجتمع واحتكار السلع الضرورية …

قد يلتمس العذر للفقير إذا دفعه الجوع إلى السرقة , وقد يلتمس العذر للمظلوم إذا دفعه اليأس لمواجهة ظالمه , ولكن لا يلتمس العذر لمسؤول كبير دفعه الطمع إلى قبول رشوة لتمكين ظالم من حق لا يملكه , أو لإسقاط حق اجتماعي عمن يجب عليه أداؤه , أو للتساهل في مراقبة أغذية فاسدة أو أدوية مزورة , وقبل أن تعاقب من يتعاطى المخدرات من الأطفال والبؤساء واليائسين فعلينا أن نعاقب أباطرة المخدرات من أصحاب الياقات البيضاء في المجتمع , ومعظمهم من وجوه المجتمع وممن يملك القدرة على شراء ضمائر رجال الإدارة والقضاء والأمن , وهذه هي الجريمة المنظمة التي ترتكب باسم القانون والقضاء,  وهناك محامون وقضاة يدافعون عن هؤلاء , ويسهمون في حمايتهم باسم القانون , وما جاء القانون لكي يكون مطية للفاسدين والمجرمين وإنما جاء لكي يحقق العدالة ويطارد المجرم الذي يهدد أمن المجتمع واستقراره ..

إن مجتمعاً يعيش نصفه في أحياء مكتظة كالقبور ليس فيها مدارس أو مستشفيات ولا يجد سكانها ما يأكلون ولا ما يلبسون , ويشعرهم هذا بأنهم منسيون , كما ينسى الاحرار في سجون الأنظمة الاستبدادية  ومن الطبيعى أن تكون هذه الأحياء المهجورة والمنسية معسكرات لتكوين القابليات النفسية للجريمة وأفعال العنف وأفكار التطرف ,  وهؤلاء يملكون من قوة البأس والصمود والتضحية ما لا يملكه غيرهم من أصحاب الياقات البيضاء من رموز الجريمة من تجار المخدرات والسلاح والأدوية الفاسدة والأدوية المزورة وأصحاب الامتيازات ممن يحميهم القانون ويحكم لهم القضاء ..

هذا ما يجب أن تهتم به منظمةالدفاع الاجتماعي وكل المنظمات التي أنشئت لمقاومة الجريمة وإذا لم تعالح أسباب الجريمة فالجريمة مستمرة ولا أمل في القضاءعليها إلا عن طريق إزالة الأسباب المؤدية إلى إشعار النفوس الغاضبة واليائسة والجائعة بالعدالة والرعاية,  وبعد ذلك الاهتمام بأمرهم وتمكينهم من حقوقهم الإنسانية….

وكنت أركز على فريضة الزكاة كوسيلة مادية لإشعار هذه الطبقة المحرومة بحقها المشروع في مشاركة الأغنياء في جزء من أموالهم ، وهذا حق الله وحق المجتمع، ولا يجوزإسقاطه ولا يجوز التحايل عليه ، ومن لم يدفع هذا الحق فلا شرعية لملكيته، ومن لم يدفع هذه الفريضة فيجب أن تؤخذ منه بالقوة ، وتفرض عليه عقوبات مالية رادعة .. وكل مال جمع عن طريق الحرام فلا شرعية له كالرشوة والربا والاحتكار والغش والإضرار بالمصالح الاجتماعية واستغلال حاجات المستضعفين في الأجور و والخدمات والأرباح الفاحشة واستغلال النفوذ للحصول على امتيازات غير مشروعة والاتجار في السلع الممنوعة والمحرمة كالمخدرات والأدوية المغشوشة والمواد الضارة بالصحة العامة، هذه الأموال ليست مشروعة وليست محصنة ، وليست محميَة، ويجب استرداد هذه الأموال والثروات، وإعادتها للمجتمع الذى سلبت منه ، ولا يمكن للشريعة الإسلامية أن تقر الملكيات والأموال الظالمة ولا ملكية الأراضي المغتصبة، ويجب إعفاء الطبقة الفقيرة من الضرائب وإعفاء هؤلاء من فوائد القروض الزراعية، وتمكينهم من المواد الضرورية الأولية لأعمالهم بأسعار ميسرة وبخاصة في الأرياف التي تحتاج إلى تنمية وخدمات تحقق المطالب المشروعة ..

وليس المهم أن ننشئ المنظمات التي تهتم بأمر الجريمة والدفاع الاجتماعي وأن نقيم المؤتمرات والندوات الرسمية , ليس المهم هذا وإنما المهم أن يكون صوت المؤتمرات عالياً وأن تسمع الكلمة الناصحة ولو أغضبت رموز الظلم والفساد في المجتمع , فما أقيمت المؤتمرات لكى تبرر المظالم باسم الدين حيناً أوباسم القانون ثانياً أو باسم العدالة ثالثاً , ولا يمكن للدين أن يبرر الظلم أو يدافع عن رموزه ,  ولا يمكن للعدالة أن تقف مكتوفة اليدين أمام مظاهر الظلم الاجتماعي , أما القانون فيجب أن يضعه من يؤمن بالعدالة الاجتماعية ,  وأن يسهر على تنفيذه قضاة من أصحاب النزاهة والاستقامة والدين والخلق , ولا حدود لأخطار فساد القضاء وإذا فسد القضاء فالجريمة حتمية,  ولا وسيلة لمنع الجريمة مع فساد القضاء وانتشار الرشوة فى الإدارة , ولاطريق لمن سلب حقه ظلما باسم القضاء  ولم يجد من يناصره ويحميه إلا أن يلجأ إلى كل وسائل المقاومة للدفاع عن حقه , وهذا هو طريق الجريمة ..

وقد أدت منظمة الدفاع الاجتماعي دوراً جيداً في مقاومة الجريمة، وأصدرت مجلة متخصصة في مجال البحوث المتعلقة بالجريمة وسبل معالجتها ,كما أصدرت مجموعة من الدراسات المفيدة، وقد تم الاستغناء عن هذه المنظمة وانتقلت اختصاصاتها إلى منظمات أخرى…

والسؤال المطروح الآن :

هل استطاعت هذه المنظمة وكل المنظمات المحلية والعربية والدولية المختصة بمقاومة الجريمة أن توقف الجريمة , وأن تخفف من أخطارها, ويكمن الجواب في لواقع الاجتماعي الذي نراه في المجتمع العربي .

والجرائم اليوم أكثرخطورة من جرائم الأمس ، ونحن على أبواب الجريمة المنظمة التي ترعاها منظمات إرهابية مختصة، في مجال المخدرات والممنوعات والتهريب وتزوير العملات والصفقات الموهومة واستيراد المواد الغذائية والدوائية وكل السلع المغشوشة ، وأصبح العنف وسيلة لتحقيق الغايات المطلوبة , وكلنا يريد مقاومة الجريمة، ولكن يجب أن تفرق أولاً بين أنواع الجرائم، وأن نبحث ثانياً عن دوافع الجريمة، وأن نوجه اهتمامنا لتكوين المواطن الصالح المؤمن بقيم الخير، وأن نحترم إنسانيته ومطالبه المشروعة , فالمجرم هو ضحية ظروف محيطة به تدفعه لارتكاب الجريمة، والمجتمع هو المسؤول عن الجريمة، فإذا صلحت الأنظمة والقوانين الاجتماعية ودافع المجتمع عن أمنه واستقراره باحترامه لكل حقوق الإنسان في الكرامة والكفاية والعمل فإن من المؤكد أن نسبة الجريمة سينخفض كثيراً، ولاشك أن التربية والتكوين وتلبية المطالب المشروعة هي طريقنا إلى مقاومة الجريمة وحماية أمن المجتمع واستقراره ..   


 

ثامناً مؤتمرات عن التصوف الإسلامي

كان المغرب بلد التصوف وكان معظم الشخصيات الصوفية التي حظيت بالمكانة الشعبية الكبيرة والمرجعية الصوفية من أصول مغربية , ويحظى شيوخ الصوفية الكبار في المغرب بمكانة كبيرة في المشرق العربي وبخاصة في الشام ومصر , واشتهر المغرب في البلاد الإفريقية كعاصمة إسلامية متميزة بعلمائها وأوليائها وصلحائها وحلقات العلم فيها ومخطوطاتها النادرة وبخاصة في مجال العلوم الإسلامية , وقد عقد مؤتمر كبير في مدينة فاس للتصوف الإسلامي , وشارك فيه عدد كبير من شيوخ الطرق الصوفية في إفريقيا وبخاصة من أتباع الطريقة التيجانية المنتشرة في عدد من البلاد الإفريقية , والغاية من هذا المؤتمر إحياء دور هذه الطرق وتوحيد كلمتها ومناقشة مناهج الدعوة الصوفية والتقريب بين أتباع هذه الطرق وإبراز دور المغرب التاريخي في تشجيعه للدعوة الإسلامية في إفريقيا , وإحياء العلاقة التاريخية بين المغرب والجمعيات الإسلامية في إفريقيا , وهذه خطوة جيدة ومفيدة وتؤكد دور المغرب الثقافي والإسلامي في البلاد الإفريقية , والمغرب يملك الكثير في إفريقيا ولو استثمر مكانته الإسلامية لاستطاع أن يكسب الكثير من التأييد الشعبي لمصالحه ولمواقفه , وهذا ما يسعى إليه المغرب , ومعظم الشعوب الإفريقية المسلمة تنظر إلى المغرب بتقدير واحترام ولا شك أن أحياء دور القرويين  والتوسع في قبول طلبة إفريقيا  سيمكن المغرب من تكوين قاعدة شعبية لدى مسلمي إفريقيا , وقد أسهمت الطرق الصوفية في انتشار الإسلام في أفريقيا , وهذا أمر جيد، فالصوفية أقوى تأثيراً في المجتمعات ، لأنها تنمي الجانب الروحي وتعمق الروابط الأخوية، وتغذى مشاعر المحبة والأخوة بين أتباع الطريقة ويؤثر مرشد الطريقة في تكون وحدة المرجعية، وينظر إليه أتباع الطريقة من المريدين نظرة الاحترام و التبجيل ، ويقدمون الولاء له ويتباركون به، ويعتقدون بامتلاكه لقدرات روحية فائقة ..  

والطرق الصوفية هي مناهج عبادة وأذكار لرجال من العبَاد الصادقين الصالحين من أهل الأذواق الروحية والمقامات العالية ، وقد ورث عنهم أتباعهم مناهجهم فى  العبادة و الأذكار والأدعية والأحوال ، وسميت بالطرق، وتعددت هذه الطرق، ولكل طريقة منهجها المتميز المنسوب لمؤسس الطريقة وشيخها الأول ، كالطريقة الشاذلية والنقشبندية والقادرية والتيجانية والمهدية والسنوسية والرفاعية والكتانية والدرقاوية , وانتشرت كل طريقة في منطقة وبين جماعة معينة، وهو اختيار شخصي تتحكم البيئة فيه وتتوارثه الاجيال ، كما انتشرت المذهبية الفقهية كذلك…

وكنت أؤكد في محاضراتى وفى كتابى عن الصوفية  على أهمية التربية الروحية في المجتمع الإسلامي، وأشيد بالصوفية الملتزمة بالثوابت الشرعية في مجال العقيدة والسلوكيات والقيم الأخلاقية ، وأرفض الصوفية المتطرقة والمنحرفة والتي تؤمن بأفكار مناقضة للثوابت العقيدة الإسلامية، وبخاصة فيما يتعلق بقداسة الشيوخ وعصمتهم ومعرفتهم بالغيب وقدرتهم على فعل المعجزات والكرامات ..

والمعجزة ثابتة للأنبياء ، والكرامة  ممكنة للأولياء والصالحين، إلا أنه لا يجوز المبالغة في نسبة الكرامات إلى الشيوخ بطريقة ساذجة وكأنهم يملكون أسرار الكون ويتحكمون في الكون كما يريدون، ويرفعونهم فوق درجة البشر وينسبون إليهم كل شيء، وهذا لا يجوز للأنبياء فضلاً عن غيرهم..

ويعود السبب في ذلك إلى جهل الإتباع بحقيقة التصوف، وليست غاية التصوف تحقيق الكرامات وخوارق العادات , وإنما الغاية من التصوف التحقق بالعبدية لله تعالى وتذكية النفوس من الآثام و طهارة القلوب من الخواطر السيئة، وتعلق القلب بالله تعالى , والزهد في الدنيا, و نسبة النعمة إلى المنعم وهو الله، والأدب مع الله ومع الناس ,والالتزام بأحكام الشريعة , وأداء العبادة بآدابها الشرعية والسيطرة على الشهوات والتحكم في النفس عند الغضب، واستحضار الله في كل الأعمال والعبادات , والعمل في سبيل الله ومحبة الناس والإحسان إليهم,  ومساعدة الفقراء والضعفاء والمرضى والأطفال والأيتام والعجزة، والصدق في المعاملة , وشكر الله على نعمه والصبر على ما قدره الله ومراقبة الله في كل الأعمال ومحاسبة الناس عن كل الذنوب والندم على كل المعاصي والآثام ..

هذه صوفية محمودة ومطلوبة لأنها تسهم في تكوين المجتمع المؤمن بقيم الإسلام السامية التي تنمي القيم الروحية وتنهض بالإنسان إلى الأعلى فكراً وسلوكا وهمة وإرادة وخلقا  .. وهذه الصوفية يجب أن تشجع وكل طريقة صوفية تقود إلى الله وتدعو إلى الالتزام بأخلاقية الإسلام يجب أن تشجع وتحترم ..أما صوفية الجهل والتخلف والانحراف والقيم الفاسدة والعقائد المنحرفة والطقوس المنفرة والسلوكيات المخالفة لثوابت الإسلام فهي صوفية مذمومة , وليست من الإسلام فى شيئ ,ومن خالف ثوابت الإسلام فلا يمكن أن يستظل بمظلة الإسلام..  

وكنت قد نشأت في بيت صوفي وتربيت على يد جدي المربي الكبير الشيخ محمد النبهان  المتوفى عام 1974 بمدينة حلب , ودفن بالكلتاوية المنسوبة إليه,  وهو مجدد في الفكر الصوفي وصاحب منهج روحي مميز,  وله مدرسة في التربية الصوفية الأصيلة ,  وقد تأثرت بفكره الصوفي الأصيل وتربيت على قيم روحية راقية وسامية , وقد أثّرت هذه الشخصية في شخصيتي وسلوكي وفكري,  ورفعت شعار الصوفية الأصيلة صوفية المعرفة وصوفية التزكية , أما صوفي الطقوس والكرامات والحكايات الموهومة والادعاءات غير الواقعية والسلوكيات المخالفة لثوابت الشريعة فلا يمكن القبول بها , وهي ظواهر سلبية وليست من الصوفية الحقة , ويأباها أهل الورع والإخلاص , ولا يرضى بها أهل الصدق والاستقامة من العلماء والصلحاء , وهي تنتشر في المجتمعات التي يسود فيها الجهل والتخلف , وما ينكره العلماء  على الصوفية هو هذا الجهل بحقيقة الصوفية وتشويه أفكارها ومناهجها وغاياتها,  وقد ألفت كتابا عن مبادئ التصوف الإسلامي أوضحت فيه معالم الفكر الصوفي كما هو في منهاج الأولين من أعلام الفكر الصوفي , و كل ما يخرج عن هذا المنهاج الأصيل بما يحرّف هذا الفكر ويشوه معالمه بأفكار وسلوكيات منحرفة ومخالفة لثوابت الشريعة فلا يعتبر من التصوف الحق الذي نؤمن به , ويجب أن تكون التربية الصوفية أداة لتكوين المجتمع المؤمن بالقيم الروحية والذي يتطلع إلى الكمال الخلقي ويتمسك بالقيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية ويرفع شعار الإصلاح الأخلاقي لكي يكون المسلم مثالا للإنسان الكامل في قيمه وأخلاقه واستقامته…

 إننا نريد صوفية الكرامة الإنسانية وصوفية العلم والمعرفة,  وصوفية العمل والنشاط,  ولا نريد صوفية الكسل والإهمال والاعتماد على الغير,  ولا صوفية الإيمان بالأساطير والحكايات والمبالغات,  فهذه صوفية ضارة وتكرس القيم المتخلفة ,وإننا ندعو طرق الصوفية إلى الالتزام بالشريعة والتخلق بالأخلاق الإسلامية الرفيعة وتنمية القيم الروحية الأصيلة والتمسك بالاستقامة والنزاهة والزهد والتواضع والاعتزاز بخدمة المجتمع ومساعدة المذنبين على التوبة والزهد في الدنيا والتعلق بالله والعمل الصالح….


 

تاسعا ..المغرب وأفريقيا المسلمة 

لا يمكن تجاهل دور المغرب في تكوين الشخصية الإفريقية المسلمة سواء من خلال تاريخه السياسي كدولة إسلامية ذات نفوذ وقوة وامتداد وبخاصة في عهد الدولة المرابطية والدولة الموحدية التي امتد سلطان المغرب فيها إلى الأندلس شمالا وإلى تونس شرقا وإلى السنغال جنوبا أو من خلال دور المغرب العلمي أو الثقافي في أفريقيا المسلمة,  وكانت القرويين في فاس هي المركز العلمي الذي كانت تدرس فيه مختلف العلوم الشرعية والفلسفية , وأنجب المغرب علماء كبارا أسهموا في خدمة الفكر الإسلامي , وقد شاركت في عدد من المؤتمرات والندوات عن العلاقات الثقافية بين المغرب وأفريقيا وما زالت الشعوب الأفريقية في غرب أفريقيا ينظر إلى المغرب كعاصمة للثقافة الإسلامية وبخاصة في ما يتعلق بالمذهب المالكي الذي أسهم علماء المغرب في انتشاره في أفريقيا وخدموا هذا الفقه , وألفوا الكثير من المصنفات في أصوله وفروعه وقواعده ونوازله , كما أسهم المغرب في تعميق الإسلام في أفريقيا , وقد كتبت عدة بحوث عن أثر الثقافة المغربية في تكوين الشخصية الإفريقية المسلمة , كما ألقيت محاضرة على ظهر سفينة الوحدة المغاربية التي أقلت عددا كبيرا من مثقفي المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وانتقلت الباخرة بين هذه الدول وكانت ترفع شعار الوحدة المغاربية , واستقبلت الباخرة في عواصم هذه الدول بفرحة شعبية كبيرة , وكان ركابها يدخلون هذه الدولة بغير جوازات للتعبير عن إيمان هذه الشعوب بالوحدة المغاربة,  وقد استمرت الرحلة لمدة أسبوع وانطلقت من طنجة إلى الجزائر ثم تونس ثم ليبيا ثم عادت إلى طنجة وهي ترفع شعار الوحدة , وقد شاركت في هذه الرحلة في أواخر الثمانيات وتأثرت بما رأيت من إيمان هذه الشعوب بفكرة الوحدة واستعدادهم للتضحية في سبيل هذه الوحدة , وقد لاحظت  أن فكرة الوحدة في كل البلاد العربية هي الخيار الوحيد لمستقبل هذه الأمة إلا أن تحقيق الوحدة أمر مستبعد من الناحية الواقعية ,  والخيار الممكن هي وحدة المواقف ووحدة السياسات والاتفاقيات التعاونية الجادة لتحقيق الوحدة الاقتصادية والوحدة الثقافية وإقرار سياسات لحماية  مصالح الشعوب العربية ….

ويمكن للبلاد العربية في شمال أفريقيا أن تقيم فيما بينها اتفاقيات تعاون وتكامل ودفاع مشترك وهذا أمر ضروري لتمكين هذه الدول من إقامة روابط قوية مع البلاد الإسلامية في أفريقيا , ويجب أن تكون الثقة قوية بين دول هذه المنطقة لحماية المصالح المشتركة , ويجب أن تحترم مصالح المغرب المشروعة في الصحراء المغربية,  وكنت أؤيد كل خطوة في سيبل الوحدة , وأقف ضد كل سياسة انفصالية أو انعزالية فعالمنا العربي لا خيار له إلا فى سياسة وحدوية واتفاقيات تعاون وتكاهل يفضي في النهاية إلى شكل من أشكال الاتحاد فى السياسات العامة , ولو نظرنا إلى مقومات هوية هذه الشعوب فإننا سوف نراها متقاربة أو متماثلة فى اللغة والدين والتراث المشترك والتاريخ الواحد والقيم المشتركة , وهناك إرادة هذه الشعوب في تحقيق هذه الوحدة ولو في المواقف والسياسات العامة , وعندما كنت أجتمع مع بعض الوفود الأفريقية كنت ألاحظ أن معظم هذه الوفود كانت تنظر للمغرب نظرة احترام وتقدير اعترافا بدور المغرب الثقافي في أفريقيا على امتداد تاريخ العلاقات المغربية الأفريقية,  وترسيخ دور المغرب في أفريقيا يخدم مصالح الشعوب الغربية كلها , والمغرب مخاطب مسموع الكلمة لدى الشعوب الافريقة نظرا لتاريخه العريق..

أن اهتمام العالم العربى بأفريقيا أمر حيوي وضروري لحماية مصالح شعوب هذه المنطقة والعالم العربي قوي بتحالفاته الإقليمية في أفريقيا وفي آسيا والشعوب الإسلامية غير العربية حليف قوي لنا في مواقفنا , وهذا يتطلب من شعوبنا وضع إستراتيجية منفتحة وطموحة لتكوين صيغة مقبولة للتعاون المشترك بين دول هذه المنطقة ..


 

عاشراً: مؤتمرات وندوات حقوق الإنسان

اهتمت الأوساط الثقافية بقضايا الإنسان وأقيمت المؤتمرات والندوات التي تعرّف بحقوق الإنسان كما جاء فى قانون حقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة وأنشأت له منظمات متخصصة لحماية حقوق الإنسان والدفاع عن قضايا الإنسان , وهذه خطوة تستحق التشجيع والتنويه , وكنت أتابع باهتمام كل ما يتعلق بحقوق الإنسان انطلاقا من قناعتي الشخصية بضرورة رعاية حقوق الإنسان , وأرى أن الإسلام يحترم حقوق الإنسان , والثقافة الإسلامية مليئة بالقيم الإنسانية والأحكام التي ترعى حقوق الإنسان بصورة أكثر وضوحا والتزاما من كل القوانين الوضعية , فلا حدود لما قرره الإسلام فيما يتعلق بالكرامة الإنسانية ,  وكنت أركز على أهمية التعريف بمكانة الإنسان في القرآن والتكريم الإلهي للإنسان حيث كان ذلك الإنسان , والإنسان يملك كل الحقوق الإنسانية بالوجود الإنساني , والناس سواء في مجال الحقوق الإنسانية , ولا يمكن إغفال الحقوق الإنسانية في أي ظرف من الظروف , وهناك مسؤولية دينية أمام الله في حالة انتهاك أي حق من حقوق الإنسان في الحرية والكرامة والحياة الكريمة, وكل ما تتطلبه هذه الحياة من أسباب مادية ونفسية وثقافية وصحية , وعندما ننطلق من منطلق حقوق الإنسان فإن من المؤكد أن رؤيتنا لمفهوم العدالة سوف تختلف فلا عدالة في ظل انتهاك حقوق الإنسان وتجاهل مطالب الإنسان المشروعة في كل ما يحقق له الكرامة والكفاية والحرية , , وليست هناك حرب مشروعة سوى الحرب التي غايتها دفاع الإنسان عن حياته وكل مطالبه الإنسانية وهذا هو الجهاد الحق والإنسان مؤتمن على كرامته الإنسانية , ولا يجوز له أن يفرط في أي حق من حقوقه , ومن فرط في كرامته فقد أساء للقيم الإنسانية , وفرط فيما اؤتمن عليه , ولا حدود لحق الإنسان في الدفاع عن حقوقه وأقسى أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه باستسلامه للظلم الواقع عليه,  وظلم الإنسان لنفسه أسوأ من ظلم الأقوياء للضعفاء,  والمستسلم للظالم هو ظالم لنفسه,  ولا يستحق التكريم الممنوح له لأنه مفرط في كرامته ومتخاذل في مقاومة الظلم , والجهاد هو مقاومة الظلم حيث كان لتحقيق الحرية والكرامة ومقاومة الظلم والطغيان ..والمقاومة للدفاع عن الحقوق المشروعة واجب ديني وأخلاقي ولا تستقيم الحياة إلا بمقاومة المظلومين للظالمين والمستعبدين لمن استعبدهم من الطغاة والمستبدين …

 

وليست منظمات حقوق الإنسان هي المسؤولةعن حماية حقوق الإنسان وإنماالمسؤول هو الإنسان المظلوم الذي وقع الاعتداء عليه , فلا يجوز له أن يستسلم مهما كانت التضحيات , ولو رُفعت شعارات المقاومة للعدوان لما كان هناك عدوان ولورفعت شعارات المقاومة للطغيان والاستبداد لما كان هناك طغيان أواستبداد, فالاستسلام هو الذي يصنع الطغيان , ويجب أن تحارب قيم العبودية في المجتمعات الإنسانية قبل ان يحارب نظام العبودية,  وما زالت قيم العبودية راسخة في مناهجنا التربوية وقيمنا الاجتماعية , ولايمكن أن تلتقي قيم العبودية مع قيم الحرية والكرامة الإنسانية,  وعندما يرفع شعار الحرية ويستعد الإنسان للدفاع عن هذه الحرية فان من المؤكد إن قيم العبودية ستسقط , وسوف يسقط معها كل آمال الظالمين والطغاة والمستكبرين في استعباد الشعوب والتسلط على أمرها وإذلال الكرامة الإنسانية.

وكان المغرب مقراً لكثير من الندوات الثقافية المتعلقة بحقوق الإنسان , وأصبح شعار حقوق الإنسان من الشعارات المقدسة التي كان الإعلام يتداولها بكثرة , وكنت أحرص على بيان موقف الإسلام في  مجال حقوق الإنسان..

ومعظم الناس لا يعرف الكثير عن حقوق الإنسان في الإسلام , وأؤكد أن حقوق الإنسان في الإسلام أسمى وأرقى من حقوق الإنسان في كل المواثيق الدولية إلا أن الفقهاء المسلمين لم يستخدموا لفظة حقوق الإنسان, وإن كانت هذه الحقوق واضحة في معظم الأحكام الشرعية , وكان القرآن أكثر وضوحا في إقراره لهذه الحقوق..

وربما تكون بعض هذه الحقوق قد غابت عن بعض الفقهاء وخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل وحقوق الذميين , وأؤكد أن الأحكام الشرعية لا تتناقض مع الثوابت الإسلامية المرتبطة بالكرامة الإنسانية , وليس هنالك صغار إنساني فيما يتعلق بالإنسان وإنما هنالك صغار اجتماعي يتعلق بموقعه  فى المجتمع وسلطته فى الولاية العامة ,  فالحقوق الإنسانية ثابتة للإنسان بوجوده الإنساني ولا يمكن تجاهل هذه الحقوق سواء بالنسبة للسجين أو الأسير أو الذمي , وتثبت هذه الحقوق للمحاربين وهم في المعركة فلا يمكن التمثيل بالقتلى والإجهاز على الجرحى أو استخدام الأسلحة الجرثومية والكيميائية والنووية وكل ما يهدد الحياة الإنسانية , وكنت ألاحظ أن شعار حقوق الإنسان كان يرفع في كل مناسبة إلا أن حقوق الإنسان لا زالت متجاهلة فى العالم كله ، وما زال الأقوياء يمارسون سلطة القوة سواء في المواقف الدولية أو في السياسات الداخلية، وأحيانا يتم انتهاك حقوق الإنسان تحت شعار الشرعية الدولية أو باسم القانون والعدالة ..

ونتمنى أن يأتي اليوم الذي تحترم فيه حقوق الإنسان في العالم كله، قناعة من الإنسان بقيمة الإنسان، واحتراماً من الإنسان للإنسان ، وهذا أمل قد لا تصل الإنسانية إليه باختيارها، ولا بد من وجود قوة رادعة تحمي الإنسان حيث كان من الظلم والاستعباد والإذلال , كما تحميه من الجوع والمرض والجهل، ولا كرامة لجائع، والجوع مطهر من مظاهر الظلم، ولا يستقيم أمر مجتمع إلا بتوفير أسباب  الحياة لكل أفراد ذلك المجتمع، وأهمها توفير الغذاء والعلاج والسكن والتعليم ..


 

المؤتمرات والنشاط الثقافي خارج المغرب

كانت مشاركتي في النشاط الثقافي خارج المغرب كبيرة، وشعرت أن العالم العربي يمر بمرحلة تحول كبير في أفكاره، وهو تحول إيجابي، وقد فرضته التحولات الثقافية، وزيادة الوعي الثقافي وتكوين كفاءات فكرية متميزة، ولا شك أن الإقبال على التعليم العالي قد أسهم في تكوين شخصيات واعية وقادرة على فهم قضايا عصرها بكيفية جيدة، وكنت أشعر بسعادة وأنا أسمع أفكاراً ناضجة لم أكن أسمعها من قبل، وبخاصة في مجال الفكر الإسلامي، وهناك انفتاح كبير ودعوة للإصلاح وقراءة جديدة لقضايا الفكر الإسلامي، وتراجعت لهجة التشدد والتعصب والانفعال ,وبدأ الخطاب الإسلامي أكثر نضجاً وواقعية، إلا أن الشيء الذي يؤسف له أن معظم المؤتمرات كانت موجهة لتحقيق أهداف سياسية، وهذا مما يضعف أثرها في نفوس المشاركين فيها، إذ يثير ذلك امتعاضاً في أوساط المثقفين ..

ويضيق أي مفكر بالوصاية المفروضة عليه، ويريد أن يعبر عن فكره كما يريد وأن يشعر بكامل الحرية، ويضيق بمن يريد أن يجعل من منابر المؤتمرات منابر للدفاع عن السلطة وتبرير مواقفها، وهذه سلوكيات غير محمودة، ومن اليسير على أي سلطة أن تجند الكثير ممن يدافعون عن سياستها، ولكنها لا تستطيع أن تقنع المشاركين في هذه المؤتمرات بما تود إقناعهم به ، وهم بالنهاية يرضخون لقرارات لم يشاركوا في صياغتها وليسوا مقتنعين بها ، وتمضي ظاهرة المؤتمرات الموجهة في طريقها المرسوم لها بعيداً  عن المسار الثقافي الذي يقوده مثقفون متميزون بصفاء الفكر ويؤمنون بدور الثقافة في تعميق الوعي وتحقيق الإصلاح المنشود ..

وقد لاحظت أن معظم المثقفين ينظرون للمؤتمرات الموجهة نظرة استخفاف ويتعاملون معها بطريقة غير جادة،  ويشاركون في حواراتها بدون حماس أو انفعال ، حتى أصبح حضور هذه المؤتمرات من العوائد الاجتماعية المألوفة ، وهذا الأمر قد أضعف أثر هذه المؤتمرات في الحياة الثقافية العامة، وبخاصة أن المشاركين في معظم هذه المؤتمرات هم رموز غير فاعلة في المجال الثقافي، ويدعون للمشاركة في هذه اللقاءات لتمثيل بلادهم من الناحية الرسمية ..

ومن الطبيعي أن تتفاوت أثر هذه المؤتمرات في إثراء الفكر وبخاصة الفكر الإسلامي، وهذه الملاحظات لا تقلل من أهمية هذه المؤتمرات العلمية، كظاهرة ثقافية تجمع نخبة ممتازة من علماء ومفكري العالم الإسلامي، واللقاء مفيد ومثمر، وهو خطوة إلى الأمام، ومالا يتحقق اليوم فقد يتحقق غداً، ومالا يقال اليوم سيقال غداً على وجه التأكيد ، وبالرغم من كل السلبيات فإن التطلع إلى الأفضل هو طموح كل المثقفين ، وما يعجز عنه جيلنا فسوف يتمكن من إنجازه أبناؤنا وأحفادنا ..

 


 

ومن أبرز المؤتمرات التي شاركت فيها ما يلي :

أولاً: مؤتمرات المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في عمان ..

والمجمع مؤسسة ثقافية ذات كيان مستقل ولها أهداف ثقافية وطموحات علمية في مجال الفكر الإسلامي، وأنجز هذا المجمع عدة مشروعات علمية في مجال الدراسات الإسلامية ، ويضم هذا المجمع قرابة مائة عضو من كبار علماء العالم الإسلامي، يجتمعون مرة كل سنتين في عمان، ويتم اختيار أعضاء المجمع وفقاً لمعايير الكفاءة والأهلية العلمية، ويعين الأعضاء بقرار من الملك وبترشيح من الهيئة العلمية للمجمع ..

وقد عينت عضواً في هذا المجمع منذ بداية التسعينات,  وشاركت في جميع دوراته ببحوث ودراسات ، كما شاركت في بعض الندوات العلمية التي نظمها هذا المجمع ، وقد اسس هذا المجمع الدكتور ناصر الدين الأسد المفكر الأردني والباحث المتميز وقاد مسيرته بكفاءة عالية وأدار شؤونه بحكمة ويصيرة  ويعود اليه الفضل فبما حققه المجمع من انجازات ، ثم انتقلت رئاسة المجمع إلى غيره ..

وقد أدى المجمع رسالة علمية وثقافية هامة، واعترف بخصوصيات هذا المجمع وأهدافه العلمية وبالحرية الفكرية التي كانت موفرة لأعضاء المجمع ، وهو ظاهرة حضارية وثقافية، ويضم المجمع شخصيات علمية متميزة بفكرها وإنتاجها العلمي في مجال الفكر الإسلامي ..

وقد حرصت في البحوث التي قدمتها إلى المجمع الملكي على التأكيد على أهمية الثقة بالعقل أولاً وبالعلم ثانياً، وأهمية الثقة بالمواطن كوعاء لكل آمال التقدم(1) وكأداة حية للنهوض الاجتماعي وكطاقة إنسانية للترابط والتواصل بين الإنسان والحياة، ولا يمكن للمواطن أن يكون قاعدة للنهوض إلا بتوفير أسباب الكرامة له سواء فيما يتعلق بحرياته أو حقوقه الإنسانية، .

وقد اقترحت في بحثي بعنوان : نحو خطة موحدة لمستقبل العالم الإسلامي، وضع استراتيجية مستقبلية تعتمد على أربعة دعائم، أولها التأكيد على أهمية وضوح الهوية الفكرية والثقافية لهذه الأمة، وثانيها الثقة بالمواطن لكي يكون القاعدة الأساسية والمتينة للتواصل بين الإنسان والحياة بكل تطوراتها وإمكاناتها , وثالثها مضاعفة القدرات الإنسانية في بناء الهيكل الحضاري وتكوين مقوماته وأسبابه عن طريق الاستخدام الأمثل للقدرات العلمية , ورابعها إيجاد صيغة واقعية محكمة لتعاون دولي بين المجموعة الإسلامية والعربية والمجموعات الدولية في ظل تبادل عادل للمصالح واحترام كامل لقواعد المصالح المشتركة …

وفي دورة المجمع لعام 1994قدمت بحثاً عن مفهوم الشورى التي تعتبر إحدى أهم دعائم الفكر السياسي في الإسلام، وهي التي تمكن المواطن من المشاركة الجادة في صنع القرار السياسي

_____________________________________________________

(1)انظر تفصيل ذلك في بحث نحو خطة موحدة لمستقبل العالم الإسلاميالمقدم إلى المجمع الملكي في دورته لعام 1993، وهو منشور في كتابي تأملات فى الفكر الإسلامي ص23

 

من خلال إقامة هيئات تمثيلية منتخبة تملك سلطة القرار الذي يمكنها من الدفاع عن مصالح الأمة وإقرار دساتير وقوانين لحماية حقوق الإنسان وضمان حرياته الأساسية ))..

وأهل الشورى هم شركاء في القرار، ويستمدون سلطتهم من ثقة الأمة بهم، ولا يختارهم الحاكم وفقا ًلإرادته، ولا يستشيرهم بصفتهم خبراء فيما يستشارون به، وإنما يستشيرهم بصفتهم شركاء في القرار ويتحملون مسؤولية ما يقولون ، ولا يبرم أمر في شؤون الأمة إلا بموافقتهم، ولا يمكن أن ينفرد الحاكم برأي يخالف ما أجمعوا عليه , ويجب التفريق بين أهل الشورى وأهل الخبرة، إما أهل الشورى فهم أصحاب القرار السياسي فيما يتعلق بالشؤون الكبرى المتعلقة بالحكم وشؤون الأمة  اما الخبراء فلبسوا أهل قرار ..

وفي ظل نظام الشورى لا يتصور قيام حكم فردي أواستبدادي، لأن أهل الشورى يمثلون القيادة الشرعية، التي تملك سلطة التفويض عن الأمة، ولا شرعية لسلطة الاستبداد ولا للأنظمة الفردية، ولا بيعة لمكره عليها، ولا طاعة لمغتصب السلطة ، ومغتصب السلطة مثل مغتصب المال أوالأرض، ويقاوم المغتصب بكل الوسائل التي تمنع هذا الاغتصاب، ومن اغتصبت أرضه فعليه أن يبحث عن الطريقة التي يسترد بها حقوقه المشروعة ولاحدود لحقه فى المفاومة ، ومن فرط في أي حق من حقوقه فهو مفرط في كرامته والأحرار لا يفرطون  فى حريتهم  ولافيما يسيء لكرامتهم  , وكل مفرط فهو آثم ومقصر ..

ثانياً مؤتمرات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة:

ينظم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مؤتمراً كبيراً في كل عام، ويشارك في هذا المؤتمر عدد كبير من وزراء الأوقاف في البلاد العربية والإسلامية بالإضافة إلى شخصيات إسلامية رفيعة يمثلون بلادهم، أو يمثلون الجاليات الإسلامية في أوربا وأمريكا وأفريقيا، ويحضر هذا المؤتمر عدد كبير من المشاركين، وتقدم إلى المؤتمر بحوث حيدة في موضوعات مختلفة، تناقش قضايا إسلامية من جوانب متعددة تعبر عن رؤية أصحابها ..

وقد شاركت عدة مرات في هذا المؤتمر , وقدمت عدة بحوث، ونشرت بعضها في بعض كتبي، وبخاصة فيما يتعلق بموقف الإسلام من التطرف والعنف، وقضايا تتعلق بحقوق المرأة وحقوق الإنسان والآثار الثقافية والاجتماعية للعولمة وفي الدورة العاشرة للمؤتمر علم 1998 قدمت  بحثاً بعنوان “شعار العولمة إلى أين ..”قلت فيها :العولمة التي نريدها هي عولمة التكامل والتناصر الإنساني وليست عولمة التنافس والتناصر التي تغذيها المصالح الفردية للأقوياء، وتنميها روح السيطرة والعنصرية  والاستعلاء، فهذه عولمة مذمومة، لأنها تؤدي إلى سيطرة القوي على الضعيف، وتكرس حالة الانقسام والتمزق بين الدول والشعوب وتقود إلى حروب ونزاعات وصراعات بين الشمال والجنوب، وتزيد من حدة الفجوة بين الدول المتقدمة والدول المختلفة وتوجد الشعور النفسى بالاستعلاء والهيمنة وتعطي للأقوياء من الدول والشعوب شرعية التدخل في شؤون الدول المستضعفة

ثم قلت :والإسلام لا يرفض مبدأ العولمة كشعار للتكافل والتقارب بين الأمم وإزالة أسباب التوتر بين المذاهب والأديان وإيقاظ روح المحبة والتعاون ..ولكنه يرفض أن تكون العولمة مطية لإلغاء الآخر وأداة لإفقار الشعوب وتكريس التخلف فيها .

وطالبت بالتركيزعلى البعدالاقتصادي للعولمة وإيجاد نظام اقتصادي عادل يعتمد على المنافسةالحرة، ويجب على دعاة العولمة أن يركزوا على أهمية احترام خصوصيات الشعوب الذاتية والحضارية وتمكين الشعوب من التكنولوجيا  والمعرفة التقنية، وأي عولمة لا ترفع شعار التكافل بين الشعوب المختلفة لا يمكن أن تحقق النجاح المطلوب،،فعالمنا يريد عولمةالتكافل لا عولمةالسيطرةوالهيمنة، ولا يمكن أن يتحقق السلام بين الشمال والجنوب إلا في ظل رؤية عادلة للعلاقات بين الشعوب، تتمثل في المسؤولية الجماعية عن حماية الحياة ومقاومة الجهل والفقر في كل مناطق العالم ..

وكانت مؤتمرات القاهرة مهمة جداً في طرح المواقف الإسلامية في المشكلات المعصرة، وأهمها قضايا التطرف والعنف  والإرهاب وصورةالإسلام في الغرب، والقاهرة عاصمة

انظر بحث شعار العولمة إلى أين المنشور بمجلةدارالحديث الحسنية العدد الخامس عشر للثقافة الإسلامية

 

ومن الطبيعي أن يخطى مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية باهتمام العالم الإسلامي , وكانت تشارك في هذا المؤتمر شخصيات مهمة وفاعلة في إغناء الحوار الإسلامي,  والأزهر بما يملكه من مكانة تاريخية وعلمية مطالب بأن يشارك بطريقة فاعلة في مناقشة القضايا الإسلامية المعاصرة , ويجب أن يكون موقف الأزهر واحداً ويصدر عن هيئات علمية متخصصة ومستقلة  وبعيدة  عن الانفعال والارتجال والتبعية , وهناك مؤتمرات كان ينظمها الأزهر بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية أو مع جامعات ومؤسسات ثقافية عربية , وهي مؤتمرات ذات طبيعة علمية وتناقش قضايا فكرية , وكنت أشارك في بعض هذه المؤتمرات المفيدة , والأزهر يملك كفاءات علمية كبيرة وتجب الاستفادة من هذه الكفاءات المتميزة , وأن يحظى الأزهر بالاحترام والمصداقية في العالم الإسلامي,  وليس من المستحسن أن يوجه النقد إلى مؤسسة الأزهر كصرح إسلامي كبير , وقرار الأزهر يجب احترامه ويجب ألا يصدر عن شيخ الأزهر إلا ما وقع الاتفاق عليه في المجالس العلمية المختصة والأزهر مؤتمن على المواقف الإسلامية الأصيلة…


 

ثالثاً:مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية

شاركت عدة مرات في مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران،التى تنظمها  هيئة رسمية يرأسها أحد العلماء الذين يخطون بمكانة علمية ، ممن يؤمنون بفكرة التقريب، ومؤتمرات طهران الإسلامية منظمة بشكل جيد، وليس المراد بالتقريب إلغاء الآخر، وإنما الغاية تعريف كل طرف بالآخر، والتخفيف من الحواجز النفسية بين الشيعة والسنة، واحترام أتباع كل مذهب للمذهب الآخر، وإزالة الأحقاد التاريخية بين العرب والفرس، ولا مبرر في عصرنا لهذه الأحقاد القومية والطائفية، ويجب احترام أتباع كل مذهب لخصوصيات المذهب الآخر ، ومن حق أتباع كل مذهب أن يتمسكوا بمذهبهم ويدافعوا عنه، إلا أنه ليس من حقهم الإساءة لعقائد ومشاعر أتباع المذهب الآخر، ولو تمسكنا بالثوابت الإسلامية في مجال العقيدة لما وقع هذا الاختلاف ، ولامبرر للإساءة لأي أحد من الصحابة، وليس لدى أهل السنة ما يثبت فكرة الإمامة في المذهب الجعفري، ومحبة آل البيت أمر مؤكد ومجمع عليه ، ولكن فكرة الإمامة والعصمة ليست ثابتة  في نظر علماء أهل السنة,  والتنافس بين العرب والفرس لا يبرر العداء بين شعبين متجاورين وتجمعهما عقيدة واحدة وتاريخ مشترك,  وكنت أؤكد على أهمية التقريب بين الشيعة والسنة , والفقه الجعفري جزء هام من الفقه الإسلامي ولا يختلف في معظم أحكامه عن الفقه السني , والتعصب المذهبي أمر مذموم ويجب على علماء المذهبين مقاومة التعصب والدعوة إلى التكامل المذهبي والاحتكام للنص فيما وقع الخلاف فيه,  كما يجب التصدي لكل من يدعو للتعصب وإثارة المشاعر الطائفية وتوحيد المواقف في وجه أعداء الإسلام , والصراع الطائفي يحدث فتنة خطيرة ويشعل ناراً لا تنطفئ بسهولة بين شعوب محكوم عليها بالتساكن والتعايش والتجاور وتجمعها مصالح مشتركة,  

وفي مؤتمرات طهران كنت أؤكد على أهمية التقريب بين السنة والشيعة ولم أجد لدى حكماء الشيعة ذلك التعصب كما لم ألاحظ هذا التعصب لدى معظم علماء السنة , ولم أجد في المجتمعات السنية أي عداء للشيعة أو لأي أمام من أئمة الشيعة وكل الأئمة من آل البيت يحظون باحترام كل المسلمين,  والادعاء بأن أهل السنة لايحبون آل البيت لاأصل له ولم أشعر به في أي مجتمع سني,  أما إساءة الشيعة لصحابة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فهو أمر مذموم وغير مقبول وهو سلوك الجهلة ولا يليق بالعلماء…

ولا أحد يقر حرباً بين العرب والفرس وكل حرب بين جارين مسلمين  يجب إدانتها وهي حرب ظالمة ومذمومة إلا في حالة الدفاع عن النفس , ولا ينبغي للغرب أن يقوم بتخويفنا من الخطر الإيراني أو تخويف إيران من الخطر العربي , وقوة  كل فريق هي قوة للفريق الآخر والعدو المشترك هي إسرائيل ولا ينبغي السعي لنشر أي مذهب في المجتمعات التي تتمسك بالمذهب الآخر,  ويجب الاعتراف بحقوق الأقليات الطائفية في كل المجتمعات.

وفي زياراتي إلى إيران أعجبت بالشعب الإيراني وتابعت ثورته الموفقة ضد نظام الشاه الاستبدادي وهي ثورة إسلامية لتحقيق أهداف اجتماعية عادلة,  وكانت كل الشعوب العربية تؤيد هذه الثورة التي قام بها الشعب الإيراني ضد نظام الطغيان والفساد , ولن تستطيع هذه الثورة أن تستمر إلا إذا التزمت بأهداف الثورة في احترام حريات المواطن وحقوقه واختياراته ومحاربة الاستبداد والفساد والحرمان الاجتماعي، ويجب أن تحترم إرادة الشعب الإيراني فيما يختار لنفسه من القادة والقوانين…

وكنت أؤكد على أهمية الحفاظ على شعارات الثورة في كل كلماتي وحواراتي مع الشخصيات الإيرانية، ومع وسائل الإعلام، ويجب على الثورة الإيرانية أن تقدم النموذج الإسلامي الصحيح بعيدا ًعن التعصب المذهبي والسياسات الارتجالية والانفعالية  والتزمت السلوكي والانغلاق الفكري، ولا يدوم حكم إلا في ظل سياسات عاقلة وعادلة وذات آفاق واسعة، ومن حق إيران أن تدافع عن مصالحها المشروعة مع احترامها للمواثيق الدولية , وأهمّ ما يجب أن تحرص عليه إيران هو احترام خصوصيات الدول العربية المجاورة وعدم التدخل في أمورها الداخلية، وإيجاد ثقة متبادلة مع هذه الدول لتحقيق الاستقرار في هذه المنطقة , والدولة القوية مطالبة بأن تقدم تنازلات للدول المجاورة لكي تشعر دول الخليج الصغيرة بالأمن والاستقرار النفسي، وسياسة الوفاق أكثر فائدة من سياسة المواجهة، ولا مبرر لاستفزاز الدول الأخرى المجاورة او تخويفها…..

 


 

رابعاً مؤتمرات وندوات عن الاقتصاد الإسلامي

شاركت في عدد من المؤتمرات والندوات التي كانت تبحث في قضايا  الاقتصاد الإسلامي ومسائله وفي آفاقه، والمصارف الإسلامية والمعاملات التربوية، وكان هذا الموضوع يشغلني,  وكنت أسعد ببحوثه وحواراته , وكان يتيح  لى فرصة التأمل والتفكير وحوية إبداء الرأي,  وقد أثار اهتمامي بالفكر الإسلامي ونظام الحكم إلى علاقة الاقتصاد بالدولة والاهتمام بالسياسات التقليدية وقضايا التضخم ودور السياسة الاقتصادية في توجيه الاقتصاد والتحكم  فى التضخم النقدي وأسعار العملات والقيود التي تضعها الدولة على الانتاج والاستيراد والتحويلات وأسعار العملات وحركة الأسعار والقروض الاستثمارية ومراقبة الإنتاج وتقييد حرية الاقتصاد ومراقبة القوانين الاقتصادية وإقرار السياسات الاقتصادية في مجال حماية الصناعة الوطنية وقيمة الإنتاج الزراعي وتشجيع الزراعة عن طريق تقديم القروض الزراعية وتخفيف الأعباء عن المزارعين ولا حدود للعلاقة بين الدولة والاقتصاد , وقد استفدت من آراء ابن خلدون في مقدمته وخاصة في الأموال والقيم والرواج والعمران في تعميق رؤيتي للقضايا الاقتصادية ودفعنى هذا إلى تأليف كتاب عن الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون والفكر الخلدوني، وهناك كتاب ثالث عن القوانين الاجتماعية عند ابن خلدون,  واتجهت إلى كتابة أفكار جديدة في مجال الفكر الاقتصادي والسياسي ,  ولكن الكثير مما كنت أفكر فيه لم أكتبه وكنت أعبرعنه في دروسى ومحاضراتى,  وما زلنا نحتاج إلى الكثير من الجهد والتأمل ,   وما كتبناه قد يصلح لكي يكون قاعدة لتوليد أفكار جديدة ومفيدة,  ونحن نحتاج إلى توليد أفكار وليس لإعادة كتابة ما كتبه الأسلاف,  فما كتبه الأسلاف في مجال الاقتصاد والمال والاستثمارقد كتبوه لعصرهم ولمعالجة قضايا هم ,  وكل قضايا الاقتصاد قد تغيرت في الإنتاج والاستيراد والنقود والقيم والتسعير ومراقبة الأجور والقوانين الاجتماعية وما زال فكرنا يتجه نحو واقعنا ببطء شديد , وكأننا نخشى أن نخوض في قضاياناالمعاصرة , والنصوص الشرعية تحتمل كل تفسير واجتهاد ولا أفهم أسباب التهيب من خوض مسائل عصرنا فلا يجوز التهيب من إبداء الرأي,  ولماذا نخاف من الخطأ ما دامت إمكانات الصحة ممكنة , وما دامت الرغبة في الدفاع عن الشرعية ومصالح المجتمع هي دافع كل مجتهد , وكيف يرضى عالم بالاحكام لنفسه أن يكون مقلداً لغيره من أشياخه , وهذا ليس من الوفاء المحمود، ولا يمكن لعالم أن يفخر بمثل هذا النموذج من طلابه ، وإنما يفخر بمن ارتقى بعلمه إلى مستوى أستاذه، ولو خالفه في آرائه ، والمجتهد يجب أن يشجع تلاميذه لا على تقليده، وانما يشجعهم على الالتزام بما يؤمنون  به من أفكار، وألا يكتبوا مالا يؤمنون  به، والأستاذ المربي يسعد بأبنائه الذين يناقشونه في أفكاره , ولا يسعد بأبنائه الذين  يحاكونه ويقلدونه و يتهيبون من مخالفته ..       

وقضايا الاقتصاد يجب أن نتناولها باهتمام وأن نشجع الاجتهاد في مسائلها، ونختار من تلك الآراء ما هو أكثر عدالة  وواقعية وقرباً من تحقيق المقاصد الشرعية  التي هي الغاية المرجوة ….

وأبرز ما يجب بيانه هو إبراز ذلك التوازن بين الحقوق الفردية  والحقوق الجماعية التي يجب احترامها , وهي من أهم مقاصد الشريعة،  وتبني الأحكام الفردية على أساس من هذه  القاعدة، وعندما يراعى الحق الفردي ويقع تجاهل الحقوق الجماعية فإن الظلم مؤكد، فلا يمكن إقرار السياسات الاقتصادية التي تشجع الاحتكار والاستغلال والمعاملات الربوية الظالمة ولا يجوز استغلال المصارف الإسلامية للإسلام لتحقيق أرباح لا يقرها الإسلام , فاستغلال حاجة المقترض محرم فى نظر الاسلام ولو تغيرت صيعة العقد  الى مرابحة شكلية..

اقتصادي وتهريب ورشوة واحتكاكات غير مشروعة فيجب مساعدة المجتمع على تقييد الخنات على كل نظاهر الفساد الاقتصادي والدولة التي تتجاهل هذا الفساد مسؤولة أمام الله وأمام شعبها عن هذا التقصير ومراقبة الإنتاجوالاستيرادواستهلاك والقيم والأجور والجودة أمر ضروري وواجب ومساعدة المجتمع علىتحقيق العدالة وتمكين كل مواطن من الأجر العادل والعمل والدراسة والفلاح وللسكن مطالب مشروعة ومن حق كل مواطن أن يدافع عن حقوقه بطريقة سليمة ومجدية وانيكون ملحا في طلب العدالة ولاسلطة يمكن أن تبرر ظلم الإنسان ولا صبر على الظلم أبداً والتهيب من مقاومة الظلم ضعف وخور وجبن وهي من قيم العبودية وأخلاق العبيد والأحرار لا يسكنون على ظلم ولا يصبرون عليه والدفاع عن الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية دفاع مشروع ولا يلجئ المظلوم إلى القوة إلا بعد اليأس من كل الوسائل السلمية والحوارات والمفاوضات وكل ما يقوم به المظلوم من سلوكيات اليأسوأساليب المقاومة مبرر بشرط أن لايصل إلى درجة الظلم وقتل الأبرياء من الظلم.

هذه بعض التأملات في قضايا الاقتصاد الإسلامي، وقد تضمنت بحوثي التي شاركت فيها في المؤتمرات والندوات الاقتصادية بعض هذه الأفكار بطريقة مخففة لكيلا تكون محرجة لمن يتحرج من سماعها، وليست الغاية منها تحريض المظلوم على المقاومة وإنما الغاية تعريف المواطن بحقوقه التي أقرها الإسلام له، وتصحيح بعض المفاهيم الإسلامية، في دعوة المظلوم إلى الصبر والاستسلام، ولم يأت الإسلام بهذا، ولو صبر المسلمون على مالحق بهم من ظلم لما كانت الهجرة ولا كانت غزوة بدر وفتح مكة، والتصدي لكل عدوان ضد الإسلام، ولو صبر النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين لما حاربهم ولو صبر على غدر اليهود لما طردهم من أرض المدينة، ولو صبر على من اعتدى على من أرسلهم من أصحابه إلى القبائل والأمصار لما عاقبهم، ولو صير الخليفة أبو بكر على المرتدين لما أرسل لهم الجيوش و فلا صير على من يسقط الثوابت الإسلامية وبخاصة في مجال العقيدة والعبادة والمظالم الاجتماعية ..

وأهم ما يجب أن يهتم به الاقتصاد الإسلامي هو تحقيق العدالة الاجتماعية بالتربية والنصح وتنمية الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، ثم عن طريق الردع والقوة والإلزام، فالعدالة لا تتحقق بالإرادة، والظلم الذي يعتمد على القوة لا يرفع إلا بالقوة الرادعة، سواء عن طريق القانون والقضاء، فإن كان القانون ظالماً والقضاء فاسداً فيجب أن يمنع الظلم بالوسيلة الممكنة والمحققة للعدل، وليس الانتقام من العدل، ويحقق العدل بالوسائل العادلة ..

والقوة قد تكون عادلة، والحرب الدفاعية عادلة على وجه التأكيد إذا كانت تطالب بالعدالة ..

وكل زيادة ظالمة في ربح أو إيجار تعتبر ظالمة، وكل أجر يقل عن قيمة العمل يعتبر ظالماً، ويطالب العامل بالأجر المنتقص من حقه ونظراً لضعف العامل فيجب أن يحمي حقه بالقانون، وكل مال جمع عن طريق الرشوة والفساد واستغلال النفود والتهرب من حقوق المجتمع في الزكاة والضرائب ورسوم الخدمات واقتطاع الأراضي وإعطاء التراخيص الاستثنائية للمحظوظين ورموز السلطة والقوة، وسرقة المال العام وتبذيره وإنفاقه في غير مكانه لايمكن تبريره وتجب معاقبة من يعتدي على المال العام بكل الوسائل الرادعة بالإضافة إلى استرداد هذا المال ممن اغتصبه، ولا يعتد بأي دستور أو قانون أو عرف بني على أساس الظلم الواضح والثابت، ولا يعتبر القانون ظالماً إلا إذا كانت أحكامه واضحة الظلم ومخالفة لثوابت الشريعة في الحقوق، إلا إذا كان هذا الظلم لرفع ظلم أكبر عن المستضعفين والمظلومين، وتسترد الأرض الزراعية من مغتصبها ومقتطعها وترد على من يعمل فيها، ولا يعوض على الظالم، وتستملك الأرض من مالكها التي تملكها بطريقة مشروعة، إذا دعت الضرورة الاجتماعية لذلك، لمساعدة صغار الفلاحين ويدفع تعويض عادل على المالك الشرعي، لأن المصلحة الاجتماعية مقدمة على المصلحة الفردية ..

ودعوت في أول محاضرة في جامعة الإمام بالرياض عام (1966) إلى الاهتمام بدراسة الاقتصاد الإسلامي وقد كان الاهتمام به ضعيفاً في تلك الفترة، كما دعوت في محاضرتي برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة عام (1967) إلى تدريس الاقتصاد الإسلامي، في محاضرة عنوانها {مستقبل العالم الإسلامي }معين التخطيط والارتجال وكل من المحاضرتين منشورة في كتبي المطبوعة، وهناك محاضرة عن المصارف الإسلامية وأخرى عن مفهوم الملكية في الاقتصاد الإسلامي، وقد عقد في مكة المكرمة عام (1976) المؤتمر العلمي الأول للاقتصاد الإسلامي، وقد شاركت في هذا المؤتمر وقدمت بحثاً بعنوان {الإسلام والمشكلة الاقتصادية المعاصرة }, وكان من أفضل المؤتمرات وأكثرها فائدة، واشترك فيه أبرز المهتمين بقضايا

–     نشر هذا البحث ضمن كتاب أبحاث في الاقتصاد الإسلامي، الذي نشرته مؤسسة الرسالة بعمان ..

الاقتصاد الإسلامي، ومعظمهم من الكفاءات العلمية الشابة والتي تخصصت في الدراسات الاقتصادية ,  وكان الحماس واضحا ًلدى المشاركين وهم يعلنون نشأة الدراسات  الجادة في الاقتصاد الإسلامي، وأوصى المؤتمر بتدريس مادة الاقتصاد الإسلامي في الجامعات العلمية، و كانت خطوة موفقة وجادة،  وبعد ذلك بدأت دراسات الاقتصاد الإسلامي تشهد تفوقاً واضحاً نحو الأفضل..

 وألقيت محاضرات متعددة في الاقتصاد الإسلامي في الجامعات العربية، في جامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين وفي جامعة الشارقة وفي معهد الدراسات الإسلامية في مدينة دبي بالإمارات وفي جامعة قطر وفي المركز الثقافي مدينة مسقط بعمان وفي مركز جمعة الماجد للثقافة في دبي، وفي جامعة الكويت وفي الجزائر العاصمة وفي جامعة الزيتونة في تونس وفي بعض المدن المغربية وقد نشرت بعض هذه المحاضرات في بعض كتبي المطبوعة الآن وشاركت في مؤتمر بمدينة بروكس عام 1994 عن الإسلام والاقتصاد الأولي وشاركت ببحث بعنوان الإطار الفكري للتعاون الاقتصادي الدولي في المنهج الإسلامي، (2) واقترحت في هذا المؤتمر إقرار

(1)                  انظر كتاب الحضارة الإسلامية والقيم الإنسانية وكتاب التصور الإسلامي لمنهجية الحوار الحضاري . نشر دار التراث العربي

(2)                  انظر كتابي تأملات في الفكر الإسلامي . نشر دار القلم العربي

 

الاستراتيجية الإسلامية للتعاون الاقتصادي الدولي , وتتضمن هذه الاستراتيجية ما يلي:

ـ توحيد السياسات الاقتصادية سواء في مجال التجارة الدولية أو في مجال تحديد أسعار المواد الدولية التي تملكها الدول الإسلامية لكي تتمكن هذه الدول من ممارسة القوة التفاوضية التي تمكنها من حماية مصالحها المشروعة .

ـ إعادة النظر في سياسة المساعدات والقروض بحيث يقع الانسجام بين هذه السياسة والمصالح المشروعة لهذه الدول..

ـ تمويل المشروعات الإنتاجية في العالم الإسلامي، وبخاصة ما يتعلق منها بالمشروعات الصناعية والفلاحية لكي يتحقق الاكتفاء الذاتي للعالم الإسلامي فيما يتعلق بالغذاء والحاجات الصناعية ..

ـ تشجيع الاستثمار في العالم الإسلامي، وضمان الأموال المستثمرة لتوفير الأمن النفسي للمستثمر ..

ـ تشجيع التوظيف والتشغيل وتكوين ظروف انتقال اليد العاملة وإعطاء الأولوية للعمالة العربية الإسلامية لاعتبارات اجتماعية وثقافية لحماية القيم الإسلامية 

ـ تشجيع قيام السوق الاسلامية الأوربية المشتركة وإعطاء الأولوية لمنتجات هذه الدول

ـ إيجاد تكتلات اقتصادية ذات طبيعة إقليمية أو جهوية تسهم في تقوية المواقف التفاوضية للدول العربية والإسلامية في مواجهة التكتلات الدولية الأخرى وأكدت في هذا المجال ضرورة التمسك

(1)         انظر كتابنا تأملات في الفكر الإسلامي ص 41

 

نقص صفحة 262-263-264-

وهي حرب لا مبرر لها ولا يقدم عليها العقلاء ولم تكن الشعوب راضية بهذه الحرب وأدانت هذه الحرب المشبوهة , وما زال عالمنا العربي يدفع ثمن هذه الحرب وأعقبها غزو العراق للكويت وهي حرب ظالمة , وغبية وقد جر هذاالغزو على العالم العربي كل النكبات والانهيارات …وما زلنا حتى اليوم ندفع ثمن هذه السياسات الخاطئة والارتجالية والتي تدل على غباء الأنظمة الاستبدادية واجرامه بحق شعوبها..

ومنذ ثلاثين سنة ونحن نشهد أسوأ مرحلة من الخلافات والمنازعات والصراعات , ولاأظن أننا سنخرج من هذا الواقع السيئ قبل ثلاثين سنة أخرى , وإسرائيل العدو الأكبر لعالمنا العربي تحرك الخيوط وتثير الفتن وتشجع كل فريق على الآخر وتحرض الجار على جاره وتؤلب العالم الغربي على العالم العربي..

كنت اتابع كل ما يجري في عالمنا العربي وكان المغرب بعيداً وكانت القمم العربية تجتمع فيه وكانت اتفاقية (كامب ديفيد)التي أخرجت مصر العروبة من العائلة العربية ومن الجامعة العربية وكل المنظمات العربية , ولما عادت مصر إلى العالم العربي فقدت الكثير من ملامحها الأصلية  ….

نقص صفحة 266-267-268-269-

 

 

 

 

 

 

ووضعت ضوابط لزيارة الحرمين الشريفين، وأهمها :

أولاً:التحلي بالأخلاق الإسلامية

ثانياً:التفرغ لأداء العبادات الإسلامية بشرط الا تتضمن تلك العبادات ما يعتبر مخالفة صريحة لثوابت القرآن والسنة، وألا يكون هناك اعتداء على حقوق المسلمين والإساءة لمشاعرهم أو لإثارة فتنة تسيء لوحدة المسلمين ..

ثالثاً:التخلي عن كل انتماء طائفى أو عصبية قومية اوخلافات سياسية أثناء الحج لأن المسلم يكون في رحاب الله..

رابعاً:اعتبار السيادة المطلقة في الحرمين الشريفين لله ورسوله ..

خامساً:اعتبار الفتنة في الحرمين الشريفين من المنكرات التي تسيء لقداسة الحرمين الشريفين ..

ودعوت إلى حرية العبادة في الأماكن المقدسة بشرط ألا تتضمن تلك العبادة مخالفة للثوابت الشرعية فى لبعقيدة، وأن يتمتع الحاج بحصانةكاملة بحياته وماله وحريته الدينية ، ولا يجوز استخدام الأماكن المقدسة لأهداف سياسية أو الترويج لأفكار منرق للكلمة  أو الدعاية لأفراد أو زعامات اوانظمة , كما دعوت إلى وضع ميثاق إسلامي لحماية الأماكن المقدسة من  كل سلوكيات العبث، وبيان الحقوق والمسؤوليات والواجبات ..

انظر الحضارة الإسلامية أفكار ومواقف وقيم ص(49)

نشرته دار التراث العربي بحلب ..

وعندما توقفت الحرب العراقية الإيرانية دعت العراق إلى مؤتمر إسلامي كبير عقد في بغداد وكان مؤتمراً للسلام , وكان المشاركون في هذا المؤتمر سعداء بانتهاء الحرب , وشاركت في هذا المؤتمر , وكان ذلك عام 1989 قبل غزو الكويت بأشهر قليلة , وكان الرئيس صدام حسين في أوج سلطته وقوته وكادت الوفود الإسلامية أن تبايعه على الزعامة والقيادة ,  وأخذ الرئيس يرفع شعارات الجهاد وشعارات إسلامية ولم تكن شعارات العراق كذلك من قبل , وفرح المشاركون بما رأوا من تقدم العراق في كل المجالات العسكرية والصناعية والعلمية والتكنولوجيا والعمرانية , ودخل الرئيس صدام حسين إلى قاعة المؤتمر واستقبل استقبال الفاتحين العظام وألقى كلمة حظيت بالترحيب الكبير وأكرم كبار العلماء بالهدايا الثمينة , وأصبح في نظر أعضاء المؤتمر من عظماء عصره وهدد إسرائيل بإحراقها إذا فكرت في الاعتداء على أية دولة عربية ,  وكان يملك جيشاً قوياً متماسكاً جيد التدريب والتكوين وخاض معارك شرسه في الحرب على إيران ,

لقد خشيت مما رأيت وخفت على العراق من نفسه وخشيت على قوته بسبب قوته، كان العراق مفخرة العالم العربي , وكان يملك جيشاً لا يقهر في ساحات الحروب , ولو استمر العراق في مسيرته تلك لمدة عشر سنوات أخرى لأصبح في مستوى الدول الكبرى في تقدمه وقدراته , واستطاع الرئيس صدام حسين أن يحظى بمكانة عالمية مرموقة، وبزعامة عربية متميزة، وعندما يبلغ الإنسان القمة يرى نفسه ولايرى الآخرين ويسيطر عليه الغرور المدمر لصاحبه ، ويحسب أنه فوق مستوى البشر، وفي هذه اللحظات يحتاج الإنسان إلى الإيمان بالله لكي  يرى الله اكبر منه ، ويمسك زمام نفسه ويسيطر على سلوكه,  لكيلا يدفعه شعوره بالقوة إلى تدمير كل ما حوله ، والقوة قاتلة لصاحبها والانتصارات الكبيرة مفسدة  لنفسية المنتصرين ا، والشعوب المتخلفة تقتل زعماءها لأنها ترفعهم إلى درجة القداسة ، والنفوس الضعيفة تستسلم لما تراه من تقديس وتصدق ماتراه ، وكنت أتوقع شيئاً الا يدوم ذلك الامر ، فلم يكن بالإمكان أن يسمح للعراق القوي أن يستمر في قوته وفي مسيرة التطوير السريع في قدراته التكنولوجية والعسكرية .ولم نتعلم من التاريخ أن الغرب المسيحي لن يسمح لأي بلد عربي أن يتجاوز المربع المحدد له  والمرسوم لحركته ، و الغرب لن يسمح بأن تهدد مصالحه الحيوية في هذه المنطقة، وأخذت أرقب باهتمام ما سيجري، وتوقعت كل الاحتمالات السيئة، ولكن كان ما جرى أسوأ بكثير من كل التوقعات، وانزلق العراق بإرادته واختياره نحو المصير المجهول ، وحكامنا لا يقبلون النصيحة ، ويحيطون أنفسهم بالمتزلفين والمتملقين والمادحين، والاستبداد  يقتل صاحبه ,  واندفع العراق إلى غزو الكويت واحتلالها، وابتدأت المؤامرة على العراق الذي سقط في شباك منصوب له لتدمير كل قدراته ، ومن خصائص الأنظمة الاستبدادية أنها لا تستيقظ إلا بعد فوات الأوان ، وتعيش في عالم مغلق من الوهم الذي يصور لها أنها قادرة على كل شيء، ولا ترى ما يجري حولها، وتتوهم في نفسها القوة والمنعة الاان ان تكتشف الحقبقة , وما اقسى نهاية المستبدين …

لقد انتهى العراق كقوة وكأمل عربي كبير، لقد انتهى الحلم العربي سريعاً، وليس المهم أن نتحدث عن أسباب هذه المحنة، ولقد شارك العرب في تنفيذ هذه المؤامرة ، ورأيت الشعب العربي في كل مكان يبكي بحرقة وألم وهو يرى ذلك الفارس العربي وهو يصلب أمام عينيه ويعلق على قارعة الطريق، لقد صلب العراق وقطعت أوصاله وأذل شعبه …

ما زلت أذكر في زيارتي للعراق أثناء مشاركتي في مؤتمر السلام في بغداد عام 1989 ما رأيته من عظمة العراق وقوة العراق، ومن الأمل الكبير في تحقيق الحلم العربي الكبير، ولكن …

لقد انتهى العرس العراقي الكبير ..وسقط الفارس العراقي بيد أعدائه أولاً، وبمساعدة من إخوانه وأصدقائه ثانياً الذين باعوه بثمن  بخس..ثم تآمر أبناء العراق على العراق وأسلموه إلى المحتل لكي يسفك دماء العراقيين ويقتل أحرارهم ويعبث بمصيرهم..

وعاش جيلنا أحداثاً كبيرة وكانت إسرائيل هي العدو الأكبر والأكثر خطراً وهي تريد الاستيلاء على الأرض العربية والسيطرة على المنطقة كلها , واليوم يحاول الغرب أن يقنعنا أن الخطر الأكبر هو الخطر  الشيعي ,وهذا الخطر يتطلب من العالم العربي أن يوجه اهتمامه لمقاومته…

 وأؤكد أن الخطر لأكبر هو إسرائيل والسياسة الصليبية المعادية للعالم الإسلامي كله , ويجب أن يتعاون العالم العربي وإيران وتركيا وكل الشعوب الإسلامية للدفاع عن مصالحها المشتركة وهي دول المنطقة ومحكوم عليها بالتعايش والتعاون , ولا يمكن لأية دولة أن تكون خطراً على الدولة المجاورة لها ويجب أن تتغلب الحكمة والتعقل لإفشال الفتنة في المنطقة وإقامة علاقات حسن الجوار بين دول المنطقة …

ونريد لجيلنا المقبل أن يكون أكثر يقظةً من جيلنا وأكثر فهماً لقضاياه , وأن يفشل كل مخططات الفتنة وأن يحارب بشجاعة كل المواقف الاستسلامية المتخاذلة , وأن يدين كل الأنظمة المشبوهة التي تدعو لتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني , وثقافة الإسلام هي ثقافة سلام وليست ثقافة استسلام,  وثقافة مقاومة وليت ثقافة خضوع ومسالمة , ويجب أن تتجه ثقافتنا لخدمة قيمنا وللدفاع عن هويتها,  ونريد الثقافة التي تنهض بشعبنا وتنمي فيه الشعوب بالكرامة والحرية ولا نريد ثقافة التبعية والرضوخ ….  


 

كانت المرحلة المغربية مليئة بالنشاط العلمي والثقافي وكنت أتابع باهتمام كبير النشاط الثقافي العام في المغرب وفي العالم العربي واتابع معظم ماتكتبه المجلات العلمية من بحوث ودراسات سواء كانت في المجال الإسلامي او في المجال الثقافي العام فقد كنت اشغل معظم وقتي في القراءة ومتابعة الإنتاج الثقافي , ولم يكن يشغلني عن الثقافة أي شيء أخر , وكنت قارئاً متابعاً وسعيداً بما اقرأ , وكنت أريد أن اعرف كل شيء وأن أقرأ كل مايكتب ,وقد أمدتني هذه القراءات بثروة ثقافية واسعة واستطعت أن أطل من هذه القراءات والمتابعات على قضايا جديدة واهتمامات ثقافية وفكرية مفيدة ,وكانت القضايا السياسية تشدني وأتابعها باهتمام , وكنت أتعلم من تجربة الآخرين , وقد ساعدني الإشراف العلمي على الأطروحات العلمية على معرفة التراث المغربى في مختلف العلوم الإسلامية ومعرفة أعلام الغرب الإسلامي والأندلس,  وكنت لا أعرف إلا القليل عن إسهام الغرب الإسلامي في إغناء الفكر الإسلامي , وأخذت أتأمل بعض معالم هذا التراث وهذه الخصوصيات المغربية ,وكنت اهتم باستنتاج المناهج المعتمدة فيه..

لم أكن أريد انتاج نفس الأفكار وإنما كنت أريد أن أفكر لعصري وأن أتناول قضايانا من زاوية رؤية مجتمعنا , وهذا ماكنت ادعو إليه وأشجع عليه , وكنت فى  حوار دائم مع طلابي الذين كانوا يعملون بإشرافي ويعدون بحوثهم العلمية , وكنت أتناول في محاضراتى العامة كل الموضوعات الثقافية التي تهم مجتمعنا المعاصر ,والمغرب بلد محب للثقافة والحياة الثقافية فيه مزدهرة…

وأحياناً كنت أتأثر بالأوضاع السياسية المحيطة  بنا وبخاصة ما يتعلق بعالمنا العربي والإسلامي ولم أكن أريد أن أكتب في موضوعات سياسية إلا أنني كنت في بعض الأحيان أندفع بغير إرادتي لكتابة مقال صحفي كنت أنشره في بعض الجرائد تعبيرا عن موقف أو بيانا لرأي أو دفاعا عن قضية ,وقد نشرت بعض هذه المقالات في كتابي قضايا معاصرة

ولا يمكن للإنسان أن يعيش بعيدا عن قضايا مجتمعه , فالفكر يجب أن يتجه لخدمة الإنسان والمجتمع , ولا يمكن للفكر أن يعيش منعزلا وكنت شديد الانفعال بما يحدث حولي , وقد عاش مجتمعنا العربي في أواخر القرن الماضي في مرحلة صعبة وقلقة ومتوترة , وكانت هناك ثلاث قضايا مهمة وكبيرة , أولها وأهمها : الصراع العربي الإسرائيلي والحروب العربية الإسرائيلية وقضية اللاجئين الفلسطينيين والاستيطان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية والعربية ,وثانيها حروب الخليج والصراع السني الشيعي في المنطقة واحتلال العراق , وثالثها مشكلات النفط ومشاكل التنمية في العالم العربي ..

كان المشرق العربي خلال فترة الثمانيات يشهد أحداثا مثيرة وبخاصة بعد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والتي أخرجت مصر من العالم العربي ومن الجامعة العربية ومن كل المنظمات العربية والإسلامية , وقد أدى هذا الواقع إلى اهتزازات كبيرة ,وسارت مصر في طريق مليء بالأشواك ورفض الشعب المصري فكرة التطبيع مع إسرائيل , وفى نفس الفترة  التي وقعت مصر فيها اتفاقية السلام مع إسرائيل قامت الثورة الإسلامية في إيران , وكسب العرب حليفا قويا إلا أنه سرعان ما نشبت الحرب بين العراق والثورة الإيرانية بتشجيع من الدول الغربية التي أرادت إشعال الحرب في المنطقة وأثارت الصراع العربي الفارسي والصراع السني الشيعي, وكانت الغاية من ذلك إقناع الدول العربية أن العدو الأكبر هي إيران وليست إسرائيل ,وعندما أرادت إيران أن تطور قوتها النووية فيما بعد وقفت الدول العربية ضد امتلاك إيران لأي سلاح نووي في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تمتلك هذا السلاح وتهدد العالم العربي به , وكنت أحرص دائما على التفرع للبحث العلمي وعدم الانشغال في الأمور السياسية إلا أن هذا الواقع الذي نعيش فيه دفعني إلى الاهتمام بالقضايا السياسية , وألقيت عددا من  المحاضرات في عدد من الجامعات العربية وكنت أتعرض لبعض الموضوعات السياسية بطريقة غير مباشرة لأنني كنت أحرص على الالتزام بالموضوعات العلمية وهي أحب إلى نفسي ..

أما المقالات الصحفية فكانت تناقش بطريقة مباشرة الموضوعات السياسية بالرغم من وجود قيود على الحرية , فالعالم العربي لا يمتلك استراتيجية بعيدة المدى لسياساته ومواقفه وهو ينفعل بما يجري أمامه , والأنظمة السياسية تحرص على استمرارها أكثر من حرصها على الدفاع عن مصالح شعوبها ,ولاحظت أن معظم الصحافة العربية هي صحافة أنظمة حاكمة ومعظم ما تكتبه هذه الصحف هي تبرير المواقف السياسية والدفاع عن الأنظمة والسياسات القائمة والدول العربية هي دول أفراد وعائلات حاكمة وليست دول مؤسسات وشعوب,  ومهمة الدولة هي حماية النظام القائم وكل القوانين والدساتير والهياكل التنظيمية تصاغ بالطريقة التي تخدم النظام وتسقط مع سقوط ذلك النظام..

وكنت أرى وما زلت أؤمن أن السلام مع إسرائيل المغتصبة لأرض فلسطين سيمكن إسرائيل من بسط نفوذها السياسي والاقتصادي في كل المنطقة العربية لأنها تملك ما لا يملكه العرب من إمكانات علمية وسياسية وقدرات اقتصادية , ويجب تشجيع المقاومة بكل أنواعها وطالما أن الحرب ممكنة في كل لحظة والمقاومة مستمرة ومشاعر الكراهية ضد الاغتصاب متنامية فان إسرائيل لن تحتمل هذا الواقع لمدة طويلة , وسوف يضيق الشعب الإسرائيلي بهذه التضحيات , أما السلام فهو خطوة خاطئة لأنه يشعر إسرائيل بالأمان والاستقرار , وهذا ما تبحث عنه إسرائيل , والتطبيع جريمة مع المعتدى , ويجب أن تقطع كل الأيادي الممدودة للعدو المغتصب لأرضنا ويجب ان تمزق كل اتفاقات السلام المفرطة بالحقوق ,ولاحظت ان الشعوب ترتاح لهذه المواقف ,أماالأنظمة فكانت تضيق بها وترفع شعارات الاعتدال لكي تبرهن أمام الغرب عن حسن سلوكها , ولهذا كنت أدعو الشعوب إلى الضغط على الأنظمة السياسية لكي لاتضعف أوترضخ , ولا اتهم هذه الأنظمة بالخيانة ولكن اتهمها بالضعف والخوف من ان تتهم بالتطرف , وهي تخاف على وجودها وتحرص على استمرارها.

أما موضوع الحوار الحضاري مع الغرب فقد تناولت هذاالموضوع في عدد من المحاضرات والندوات في المغرب وطهران والقاهرة وعمان والكويت والرياض والإمارات العربية، ولا أراه مجدياً بالرغم من أهميته ، والغرب ليس  جاداً في هذا الحوار، ولا يريد أن يسمع إلا ما يريد سماعه ، وسبيل إقناع الغرب هوالمصالح وليس المبادئ ، وهم يخشون من الإسلام ويحقدون على العرب والمسلمين ، ولولا مصالحهم في المنطقة لما وجدناهم معنيين بما يحدث فى عالمنا من أحداث، ولا حوار إلا في ظل القوة المتوازنة والمصالح المتبادلة، وطالما أن الدول العربية متفرقة ومتباعدة ويسعى بعضها للإساءة للبعض الآخر، ويستقوي البعض بأعدائه للتغلب على أخيه وجاره، فلا أمل من أي حوار، ولا يثمر هذا الحوار شيئاً، والقوي لا يعطي ما بيده إلا عندما يجبر على ذلك، وما اغتصب من حقوق هذه الأمة بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ولا حدود لحق الشعوب في الدفاع عن مصالحها، وكل ما تراه من وسائل الدفاع مجدياً ومفيداً فيجوز لها الأخذ به، ويجوز للمدافع من وسائل المقاومة ما لا يجوز للمهاجم، والقوة  مشروعة لاسترداد الحقوق…



[1]البحث منشور في كتاب محاضرات فى الفكر السياسي والاقتصادي في الإسلام

( الزيارات : 1٬670 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *