التصرف… والاختيار

التصرف… والاختيار:

كنت أسأل نفسي عن حقيقة التصوف، هل هو شيء محمود أم مذموم، ولا أدري إذا كنت أحبه أو لا أحبه، أنتمي إليه أو لا أنتمي إليه.. أدافع عنه أو انتقده.

لم أكن أنتمي إلى السلفية المتطرفة، كما لم أكن أنتمي للصوفية المتزمتة، كنت أشعر في كياني بحب للقضايا الروحية، وكنت أحياناً استعمل لغة أهل التصوف ومصطلحاتهم، إلا أنني كنت أقف عند خطوط حمراء لا أتجاوزها، لأنني أجدها، منطقة غامضة غير مقنعة، وبخاصة ما تعلق منها بالطقوس الصوفية التي تشوه صفاء القلوب..

كنت أحب صفاء القلوب، ولكن لا أحب تلك المبالغات والشطحات والسلوكيات المنحرفة، أحببت نقاء الصوفية وما أحببت طقوسها التي تحرص على التمسك بها الطرق الصوفية للحفاظ على وجودها…

لم أجد في معظم الطرق ذلك الصفاء الروحي، وإنما وجدت سحباً كثيفة من الحجب التي تشغل القلوب عن التعلق بالله، رأيت الدنيا في هذه الطرق ولم أجد الآخرة، رأيت الظاهر ولم أر الباطن، رأيت القشور ولم أر الحقيقة، ورأيت الغرور والرياء ولم أجد الصدق والإخلاص..

ومن خلال رحلاتي في هذه الدروب رأيت رجالاً صادقين مخلصين لا يعرفهم أحد، ولا يريدون أن يعرفهم أحد، أهل استقامة ونزاهة وورع، يحاسبون أنفسهم في كل صباح ومساء، ويفعلون الخير لأنهم يحبون الخير، قلوبهم معلقة بالله وأبصارهم شاخصة نحو السماء، ليسوا أهل طريقة، ولا يعرفون ذلك العالم الكثيف الذي ينطوي على انحرافات خطيرة في المعتقدات والسلوكيات… وتذكرت كلمة الشيخ وهو يقول: بأن الصادقين يقودك صدقهم إليهم وينشرح صدرك للقائهم، ولا تجد فيهم غروراً ولا إدعاء، تحجبك بشريتهم عن خصوصيتهم، لا ينسبون لأنفسهم شيئاً مما يفعلون بل ولا يجدون أنفسهم فيما يفعلون، قلوبهم شاخصة لله تعالى…

وأدركت أن الصوفية ليست مجرد انتماء والتزام بالطقوس، وإنما هي خُلُق، فمن تميز عليك بخُلُق فقد تميز عليك بالمكانة، وهذا هو الأساس في الصوفية الحقة، صوفية التربية والخلق الحميد، وهذا التزاحم في الطرق على الجاه والسمعة والمكانة هو مناقض لحقيقة التصوف، وكيف تستقيم دعوة التصوف إلى الإعراض عن الدنيا بالإقبال عليها والبحث عن أسبابها..

والصوفية في حقيقتها سمو في الهمة وبحث عن الكمال، وارتقاء بمستوى التعلقات إلى أفق رحب من قيم الخير، وتتميز الشخصية الصوفية بشفافية روحية رائعة لا نجد مثيلاً لها في الشخصيات العلمية المحجوبة بتأملاتها العقلية عن إشراقات القلوب في لحظات أحوالها، وقدم لنا التاريخ لمحات من تاريخ هذه الشخصيات التي أنارت مجتمعها بآثارها الإيجابية، فكانت المثل الأعلى في سلوكها وفي قيمها وفي دفاعها عن القيم الإنسانية.

وتأثرت الصوفية بالواقع الاجتماعي المحيط بها، وبخاصة في فترة التخلف العلمي والثقافي والحضاري، فكانت هي نتاج ذلك الواقع الذي شوه نقاء الصوفية الأولى بسلوكيات خاطئة ومنحرفة، ولابد من تصحيح هذه الصورة بالبحث عن حقيقة التصوف..

إن صوفية السلوك والوجدان والتزكية أعطت خلال التاريخ عطاءها المتميز وأثمرت فكراً أخلاقياً راقياً، أما صوفية الطقوس والمبالغات والشطحات فقد شوهت الصوفية الحقة وأساءت إليها وانحرفت بعض الطرق عن أهدافها الأخلاقية إلى تكوين عصبيات متصارعة ومتنافسة تبحث عن الدنيا وتستغل عوام الناس وعواطفهم باسم الدين..

( الزيارات : 1٬421 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *