الحكم العطائية ومكانتها في الفكر الصوفي

الحكم العطائية ومكانتها في الفكر الصوفي

تعتبر الحكم العطائية المنسوبة لابن عطاء الله السكندري من أروع ما قدمه الفكر الصوفي من معان سامية ، وتعبر أصدق تعبير عن طبيعة الشخصية الصوفية في تكوينها النفسي وفي آدابها وفي سلوكها وفي نظرتها للحياة والكون ، ولذلك حظيت هذه الحكم باهتمام العلماء الذين عكفوا على حفظها والاستشهاد بها ، وشرح معانيها ودلالاتها ، نظراً لعمق ما تضمنته من أفكار، وبخاصة في مجال مجاهدة النفس وآداب السلوك .
‏وكان ابن عطاء الله من أسرة علمية اشتهرت باهتمامها بالعلوم الشرعية ، وعاش في الإسكندرية ، ولم يكن معروفاً في بداية حياته بالتصوف ، وربما كان ينكر على الصوفية ما يذهبون إليه من أفكار ، وذلك بتأثير تربيته الدينية وبيئته الاجتماعية ، والصوفية عالم متكامل ، وكثيراً ما يقع الإنكار على من أخذ بهذا الطريق .

‏نقطة التحول في حياة ابن عطاء الله :

ونقطة التحول في حياة ابن عطاء بدأت بعد مقاولة وخصام وقعت بينه وبين أصحاب أبي العباس المرسي الذي يعتبر من أبرز أعلام التصوف في الإسكندرية في عصره ، وأنكر ابن عطاء الله على أبي العباس المرسي آراءه وأقواله في التصوف ، وعندما عاد إلى منزله أخذ يحاسب على إنكاره لآراء لم يسمعها ، وأخذت الخواطر تلاحقه وتضيق الخناق عليه ، و ذهب إلى مجلس أبي العباس المرسي ليستطلع الأمر بنفسه ، ووصف ذلك بقوله : (‏( وكان سبب اجتماعي به أن قلت في نفسي بعد أن جرت المخاصمة بيني وبين ذلك الرجل : دعني أذهب وأنظر إلى ذلك الرجل ، فصاحب الحق له أمارات ولا يخفى شأنه )) وسمعه يتحدث عن الإسلام والإيمان والإحسان أو الشريعة والحقيقة والتحقق فبهر بما سمع ء وعلم أن الرجل يغترف من فيض بحر إلهي ء فأذهب الله ما كان عنده من الإنكار على هذا الطريق
ولما عاد (ابن عطاء الله) إلى منزله كان في وضع مختلفة عما اعتاد أن يكون عليه ، وأحس بشعور غريب يطرقه ، وأخذ في التأمل الوجداني ، واعتزل أسرته ، وبدأ التحول في حياته على شكل قلق وحزن ، وتطلع إلى المجهول ، وعجز عن معرفة الطريق ، ولعل هذه هي البداية في كل تحول ، والغزالي عاش نفى التجربة ، وعبر عنها في كتابه المنقذ من الضلال ، وهي رحلة البحث عن اليقين والطمأنينة بعد شعور قوي بالقلق والحزن والألم . . رحلة البحث عن الذات إلى أن تشعر النفس بالتصالح مع ذاتها عن طريق الشعور بالاستقرار .
ونقطة التحول في حياة الإنسان تبتدىء عادة بذلك الشعور من القلق والحزن الذي لا يمكن تفسير أسبابه ، ويتطلع الإنسان إلى ذلك الأفق البعيد الذي يتراءى النور فيه على شكل قبسات من الأمل متعاقبة ، تظهر له في لحظات اليأس فتريحه وتنير قلبه بيقين صادق ، ثم تغادره سريعاً فيعاوده الألم والحزن والاضطراب ، ويسقط صريع ذلك الاضطراب ثم يتراءى له ذلك النور من جديد يريحه ويبشره ويمسح عنه ذلك الشعور باليأس والإحباط إلى أن يجد طريقه ويقبل بكليته على هذا الطريق ، ويضيق صدره عندما يبعد عنه ، ويتوجه بكل إرادته وهمته إلى الله ، وتنصرف همته عن كل ما يشغله عما اتجه إليه قلبه ، وعندئذ تتقلب القلوب ، ويحدث التحول الداخلي في أعماه الذات الإنسانية ، ثم يظهر ذلك على الجوارح والسلوك الخارجي بعد أن اتجه ‏القلب إلى ربه .
وهنا نتوقف عند الأسباب المؤدية إلى هذا التحول ، هل هي أسباب نفسية ‏أو عقلية ، أم هي أسباب خارجة عن نطات التفسير العقلي ؟ . . ولو تأملنا في الوقائع والأحداث المروية لنا عن لحظات التحول في حياة البشر والمنعطفات الرئيسية التي تحكم سلوكيات الإنسان واختياراته لاكتشفنا في معظم الأحيان أن شيئاً غامضاً يتحكم في الأمر ، أن سراً خفياً يقود الإنسان إلى حيث يسير ، هذا يؤكد أن العناية الإلهية تتحكم في التدبير والتسيير ، وتقود الإنسان من حيث لا يدري إلى ما هو مدبر له ، وما هو ميسر له .
كلمات قليلة في لحظة ما قد تحدث ذلك التحول ، قد توقظ ، وقد تلهم ، وقد تنير ، وقد تحدث ذلك التقلب في القلوب كلمات في لحظات الأحوال ، والحال هو الذي يوجد ذلك الاستعداد في النفس للتحول والانعطاف .
ولعل هذا هو الذي قاد ابن عطاء الله من حال إلى حال ، وعاد من جديد إلى الشيخ أبي العباس المرسي شيخ الطريقة الشاذلية في مصر وتلميذ الشيخ ‏أبي الحسن الشاذلي مؤسس هذه الطريقة ، والتي تقوم على أساس التقوى في السر والعلانية ، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم والإعراض عن الخلق والتوجه إلى الله .
وأصبح (ابن عطاء الله) من أكثر أتباع الشيخ أبي العباس المرسي التزاماً وإخلا‏صاً ، ومن أشهرهم مكانة ، ومن أصدقهم محبة للشيخ ، وسلك على ‏ يد شيخه ولازمه ، وفتح الله عليه من أبواب المعرفة ما ظهر أثر ذلك فيما صنفه من مؤلفات ،ومن أشهرنا (الحكم العطائية) التي اشتهرت في الأوساط العلمية ، وتناولها العلماء بالشرح والتعليق ، كما أعجب بها عدد من المستشرقين الذين ترجموها وأكدوا تأثر بعض رجال التصوف المسيحي بها .
ونظراً لما حظيت به الحكم العطائية من مكانة واسعة في الفكر الصوفي ، فقد عكف عدد من علماء التصوف والمهتمين به على شرح هذه الحكم ، ومن أبرز هذه الشروح ما يلي :
الأول : شرح ابن عباد النفزي الرندي على متن الحكم ، سماه (التنبيه) ، وأشار في مقدمته إلى أن هذا التنبيه كالشرح لبعض معانيه الظاهرة ، واعتبر أن لفظة (( شرح كلا‏م المؤلف )) من إساءة الأدب لأن كلام الأولياء ينطوي على أسرار مصونة وجواهر حكم مكنونة لا يكشفها إلا هم ، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقي عنهم .
الثاني : شرح الشيخ أحمد زروق الفاسي وقد أعجب الشيخ زروق بالحكم ، وأخذ يشرحها ثم يعيد شرحها من جديد بعبارة جديدة ، وأكمل منها سبعة عشر شرحأ ، وذكر صاحب شذ رات الذهب أنه كتب على الحكم نيفاً وثلاثين شرحاً .
الثالث : شرح ابن عجيبة على الحكم الذي سماه : (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) وهو كتاب مطبوع بالقاهرة .
الرابع : (المنح القدسية على الحكم العطائية) شرح الشيخ عبد الله بن حجازي الشرقاوي المتوفى سنة 277 ‏اهــ ) وسماها في مقدمته ( تقييدات لطيفة على حكم العارف بالله ابن عطاء الله ‏( وهو مطبوع بهامش شرح الرندي . وهناك شروح أخرى ذكرها العلماء ، ومعظمها مخطوط في بعض خزانات الكتب المتخصصة ، كما شرحت الحكم بمنظومات شعرية .
وقد ألف الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاتي كتاباً عن (ابن عطاء الله السكندري وتصوفه ) وهو كتاب قيم تحدث فيه عن شخصية (ابن عطاء الله) وحياته ومصنفاته ، كما تحدث فيه عن مذهبه العطائي في إسقاط التدبير والنفس والمجاهدة وآداب السلوك والمقامات والأحوال والمعرفة و شهود الأحدية في الوجود ) .
ولو تتبعنا الحكم العطائية فسوف نجد أن ابن عطاء الله حرص على أن يصوغ فكره الصوفي من خلال هذه الحكم التي صاغها بطريقة أدبية رائعة ، وبعبارة جميلة معبرة ومؤثرة ، يخاطب بها السالك إلى الله آمراً وموجهاً وناصحاً ، وجاءت على شكل قوانين ثابتة تبين طبائع النفس البشرية وبواعثها وطرق مجاهدات النفوس وآداب السالكين وطرق المعرفة .
وبالرغم من أن الحكم العطائية تعبر عن فكر (ابن عطاء الله) وتجربته الروحية فإنها لا تخرج عن إطار الفكر الصوفي كما نجده لدى علماء التصوف الذين تأثر بهم ابن عطاء الله ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الحكم العطائية تأخذ موقع الصدارة في الفكر الصوفي ، لأنها عبرت عن المعاني التي يؤمن بها السالك إلى الله ، واستخدمت نفس العبارات والألفاظ والرموز ، فجاءت محكمة الأسلوب ، دقيقة العبارة ، عميقة الدلالة ، مؤثرة في المخاطب ، لقوة بيانها ودقة صياغتها وجمال أسلوبها .
ولهذا عكف العلماء على الاهتمام بها والاستشهاد بها والاحتجاج بمضمونها وشرح معانيها وبيان أوجه دلالتها ، ولا نجد في هذه الحكم ما يتنافى مع عقيدة أهل السنة ء كما لا نجد فيها تلك الشطحات التي نجدها في كتب الصوفية الأخرى .
وحظيت الحكم العطائية بمكانة وشهرة في الأوساط العلمية في الغرب والشرق ، وتداولها العلماء وأخذوا بتدريسها وحفظها والعكوف عليها والاستشهاد بها ، ولعل السبب في ذلك أنها اختصرت المفاهيم الصوفية ، وعبرت عن أخلاقية التصوف وآداب السلوك ، فضلاً عما تضمنته من معان روحية رائعة .
وبالرغم من كثرة الشروح التي حاولت بيان معاني هذه الحكم فإن الحكم تظل قمة شامخة لا يمكن الإحاطة بما تضمنته من مفاهيم عميقة لأنها تريح السالك وتفتح أمامه أبواب الأمل والرجاء وتخاطبه بعفوية وصدق .
ومن خصائص الحكم العطائية أنها استطاعت أن تقدم الفكر الصوفي بطريقة قريبة من النفوس واستخدام ابن عطاء الله المصطلحات الصوفية بطريقة عفوية ، يمكن استيعاب معظم دلالاتها .
وعندما يقرأ الإنسان المؤمن الحكم العطائية فإنه يفهمها جيداً ويرتاح لها ، لأنها تحمل معاني إيمانية تحدد علا‏قة الإنسان بربه ، وتجعل الإنسان في رعاية الله ، تحمله الأقدار إلى حيث يراد له وتدفعه إلى ما هو مقدر له في الأزل ، وهذا ينسجم مع مذهب ابن عطاء الله في إسقاط التدبير الذي ألف فيه كتاباً سماه (التنوير في إسقاط التدبير) ، ضمنه المعاني التي تدور حولها الحكم العطائية .
ومن اليسير علينا أن نلاحظ أن الفكر العطائي يدور حول نقطة أساسية ويعبر عنها بكل مناسبة ، وينطلق منها لإقرار حقائق المعرفة في مجال السلوك الإنساني ، وهذه النقطة هي فكرة الافتقار الكلي إلى الله والتوكل عليه والرضا بقضائه وقدره ، والتسليم المطلق بما اختاره الله للعبد ، وهذا ما عبر عنه بكلمة (إسقاط التدبير) وكتب كتاباً خاصاً حول هذا المعنى لأن التدبير يدفع العبد إلى الانشغال فيما هو مضمون له ء وهو حجاب شاغل عن الله وهذا المبدأ يؤدي إلى الزهد في الدنيا ، والانشغال بما هو أجدر من التدبير وهو معرفة الله . . فالله تعالى خلق العبد وتكفل له بأمر رزقه ، ولا ينبغي لهذا العبد أن ينشغل بما هو مقسوم له .

من كتاب مبادئ الفكر الصوفي

( الزيارات : 1٬869 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *