السيد النبهان وذكريات متجددة

ذاكرة الايام..السيد النبهان ..وذكريات متجددة

لم تتوقف صلتى الروحية بالسيد النبهان طيب الله ثراه من طفولتى حتى اليوم , لقد مضى على رحيله اكثر من اربعثن عاما وما زلت اشعر بأثره فى حياتى تربية وتوجيها وتاثيرا , ما زال حتى اليوم فى ذاكرتى من خلال مرافقتى له اكثر من عشرين عاما , فى كل موقف استعيد موقفا مشابها عشته معه , لم يكن بالنسبة لى الجد المحب الذى احاطنى برعايته من طفولتى الاولى , وانما كان المثل الاعلى الذى حاولت ان اتاثر به , كانت صلتى به اوثق من كل تصور , هناك اشياء ما زلت اتساءل عنها واحاول ان افهم دلالتها , هناك اشياء افهمها اليوم اكثر مما كنت افهمها من قبل , هناك اسئلة احاول ان اجد لها جوابا , ما زلت اتساءل عن سر تلك العلاقة التى كانت تشدنى اليه , كنت يحكم الطفولة لا افهم الكثير مما كنت اراه , كان قريبا منى بغير حدود , وكان معى فى كل موقف ناصحا امينا وموجها , كان يحرص ان اكون معه فى كل مجالسه وزياراته الخاصة والعامة , كان يريدنى ان ان اسمع كل شيء وان افهم كل شيء , كان يوقظنى كل ليلة قبل الفجر  لكي اصلى معه قيام الليل ثم الفجر  , كنت اصلى الى جانبه فى كل الصلوات التى كان يصليها فى البيت مع الاسرة من النساء , كان لا يصلى الا اذا حضرت وينتظرنى الى ان احضر , كان صديقا ومربيا ومرشدا  , كنت احترمه بغير حدود ولم اكن اهابه او اخاف منه , كانت صلتى به صلة حب لا خوف , لم يقل لى كلمة نابية او جارحة او مسيئة, وفى نفس الوقت كان شديدا فى محاسبتى اذا اخطات , كانت اقسى عقوبة ان ينظر  لى نظرة عتاب  , وكنت اعتبر ذلك هي العقوبة القصوى التى يمكن ان تدفعنى  لاشد انواع الندم , لم ينتقدنى قط فى عمل قمت به , كان يشعرنى بالمحبة والرعاية بغير حدود , كان يريدنى ان اكون قريبا منه فى المجلس ,  كنت افهمه جيدا وافهم ما يريد , وكان يفهمنى ويفهم جيدا ما اريد , كنت شديد الادب فى مجلسه لا اتكلم فى مجالسه العامة , وعندما اكو ن  فى مجلس خاص كنت اتكلم معه  فى كل شيء , وكان ينصت لى باهتمام ويحاورنى ويبين لى ما يريد قوله  ,  ما ضاق يوما بحديثى معه ابدا , احيانا كان يغلب عليه النعاس وانا معه  ولم يطلب منى ان اغادر مجلسه , لم يكن يمدحنى  بحضورى ,  وكان يثنى علي اذا كنت غائبا , ربما كان يخشى ان يصيبنى الغرور , عندما كنت اعود من السفربعد غياب طويل , كان يرسل عددا كبيرا من محبيه لا ستقبالى  فى مدخل المدينة لا شعارى بالرعاية وكان يسعدنى ذلك  , واذهب اليه مباشرة حيث كان , وكان يستقبلنى بفرحة كبيرة , ويخصنى بمحبة خاصة وكان الكل يعرفها ولا احد يتدخل فى اي امر من امورى , , وكنت انزل فى منزله , وكان يعطينى بعض ملابسه البيضاء فكنت ارتديها لكي اذهب معه الى الكلتاوية , كانت كل الاسرة تعرف هذه الخصوصية , كان يحدثنى عن كل شيء واحدثه عن كل شيء , لم يسالنى عن امر خاص بى الا اذا حدثته عنه , ما سالته عنه يجيب بصراحة وامانة , كان يثق بى بغير حدود , كنت اتدخل فى بعض قضايا الاسرة فكان ينصت لى ويستجيب لما ارجوه منه , كان يعرف اننى احبه , وكنت اعرف انه يحبنى , كنت اشعر اننى قريب منه ولو كنت على سفر بعيد وطويل , تعلمت منه الكثير الذى لم اجده فى الكتب ولا فى تجارب الايام ,  اهم ما تعلمته منه الادب مع الله ومع كل الاخرين , رايت فيه الصوفية الحقة , وليست صوفية الكتب ولا صوفية الطرق ولا صوفية الطقوس والشطحات , لم تكن صوفيته متكلفة , كان بعيدا عن صوفية القشور والطقوس والاحوال المتكلفة والادعات المتوهمة , كان بعيدا عن الطرقية والعصبية وشطحات السالكين وكان يضيق بمجالس الوجد والغفلة والمبالغات , كان منهجه الالتزام بالثوابت والاصول كما جاءت , والتوقف عند حدودها وعدم تجاوزها , وتجويد الاعمال لكي تعبر عن الكمال , كان قريبا جدا من المستضعفين  والبسطاء والاطفال ويضيق بمجالس السفهاء والمتكبرين  , وكان يحتضن كل المذنبين وياخذ بيدهم  ويشعرهم بدفء  الرعاية , ويتجاهل كل ماهم فيه , كان منهجه البيان بالكلمة الطيبة وتزيين طريق الخير , كان قريبا من كل الاخرين ولا يعنيه ما هم عليه او فيه , لم يسأل احدا عن دينه او عقيدته او طائفته او مذهبه , كان يعنيه الانسان مهما كان , والخير فى الانسان ولا بد من سقاية تلك البذرة الطيبة فيه , كان مهيبا فى المجالس قويا فى المواقف , لم اره يوما يتحدث عن الحلال والحرام  , ولما سألته قال : الكمال هو الاولى , وخلاف الاولى هو النقصان , ولا يليق بالانسان ان يفعل النقصان مع امكان الكمال , قال لى ما ثبت لى انه الحق وقام الدليل عليه اخذت به , وما لا دليل عليه تركته , ولا يعنيىه ما يقول به العوام , وكان يحترم كل المذاهب الفقهية ويحترم كل اتباعها , ولم اره قط يتعصب لاي مذهب منها او ينتقص اخر , ..

تاثرت كثيرا بما كنت اسمعه منه من افكار , ومعظم افكارى تجد لها اصلا مما كنت سمعته منه , كان له فهم عميق لمعنى الدين فى الحياة ولدور العلماء فى مجتمعهم , كان يؤمن بالعلم ويرى فيه الاساس الذى تبنى عليه المفاهيم والافكار  , كان يحترم العلم ويكرم العلماء فى مجلسه , اقول بكل موضوعية : كان مختلفا عن كل الاخرين معرفة وخلقا وادبا وفهما , كان واسع الفهم عميق الايمان , لم اجد فيه صوفية المتاخرين من اهل الطرق ,  ولم المس منه تزمت المتزمتين من اهل التقوى والورع ولم فيه ميلاللمجاذيب واهل الكرامات وكان يكره ذلك  , ولم يكن يريد ان يكون الدين مطيته لدنيا فى مال يرجوه او جاه يعمل له , كانت حياته بسيطة ويسيرة وكان يكره التكلف , كان يملك الكثير ولم يكن يملك شيئا , وما تركه من بعده كان الشيء اليسير الذى لا يتجاوز ماكان فى غرفته من الامور الضرورية ,

رحم الله السيد النبهان طيب الله ثراه فقد كان صاحب الفضل الاول والاهم فى حياتى , وانا مدين له , فما احسنت فيه فهو اثر من اثاره..

( الزيارات : 644 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *