الطريق الى المغرب..رحلة العمر

كان صاحبنا قد اختار جامعة الكويت نظراً لسمعتها العلمية التي كانت من أفضل الجامعات العربية في مناهجها وفي الكفاءات العلمية التي استطاعت استقطابها ، وقد أمضى في الكويت سبع سنوات كانت من أجمل أيام حياته ، وكتب فيها أفضل كتبه ، واكتسب خبرته الأكاديمية من زمالته لأفضل الأساتذة التي اختارتهم الكويت لجامعتها ، وقد وفرت لهم أفضل المزايا المادية والمعنوية ، وهيأت لهم حرية التعبير والتفكيروالتأليف مما جعل النشاط العلمي يزدهر بطريقة مدهشة ،وكانت الجامعة خلية حية لا يتوقف نموها ولايخفت بريقها ..

لم يفكر صاحبنا قط أن يترك الكويت ، لقد أحب المغرب بكل عواطفه ، وكان سعيداً لمشاركته منذ أربع سنوات في الدروس الحسنية ، و لم يطمح بأكثر من هذا .. لقد عرض عليه السيد الداي ولد بابا وزير التربية الوطنية قبل عامين أن يحضر خلال السنة لمدة شهر كأستاذ زائر واعتذر عن ذلك..

لم يكن يفكر في مغادرة الكويت  وقد كانت المنافسة على أشدها للتدريس بجامعة الكويت ، لقد فتحت لـه الكويت قلبها ومنحته حبها وثقتها ، وأخذ موقعه المتميز في نشاطها الثقافي ، ورشحته لتمثيلها في بعض المؤتمرات العلمية ، فلماذا يغادر الكويت .. ؟

أمضى صاحبنا ليلته تلك يفكر فيما عرض عليه ، ولا خيار لـه إلا أن يعتذر ، ولم يندم قط على هذا الاعتذار ، واعتقد أن الأمر قد انتهى ..

وفي أمسية اليوم التالي اتصل به الأستاذ الدكالي وأبلغه أنه قادم إليه ، ولما التقى به قال لـه :

لقد أبلغت جوابك إلى جلالة الملك ، وأمرني أن أبلغك تقديره لموقفك ووفائك للكويت ، كما يتفهم ظروفك الأسرية وصعوبة الانتقال ، كن مطمئناً إلى أن كل شيء سيكون ميسراً لك في المغرب ، وستكون ضيف ملك المغرب وتحظى بكل التكريم ، فلا تفكر في هذا الأمر ، أما موضوع الكويت فسوف يتولى جلالته الاتصال المباشر بسمو أمير الكويت ويطلب الإذن لك بذلك ، وستخرج من الكويت بكل التكريم ..

غلب على ظنه أن الأستاذ الدكالي لابد أنه يبالغ فيما يقولـه ، إذ لا يمكن للملك أن يشغل نفسه بمثل هذا الأمر فى الوقت الذى ينشغل فيه الملك بملف الصحراء المغربية.. ووقف حائراً ، فهو لا يستطيع أن يطلع أحداً على هذا الامر ، وفي الوقت ذاته كان بحاجة لمن يساعده في الرأي والنصيحة قبل الاقدام على اية خطوة..

وفي اليوم التالي اتصل به السيد أحمد بنسوده مدير الديوان الملكي ، وأخبره أن جلالته سيقيم دعوة إفطار في القصر الملكي في يوم حدده لـه لتكريم العلماء الضيوف في شهر رمضان ، وأن جلالته يدعوك لحضور هذا الحفل ..

ذهب صاحبنا إلى القصر ، وفي هذا العام لم تكن هناك دروس حسنية ، كان الملك قد أجرى عملية جراحية ، ووقف الملك يسلم على الضيوف ، ووقف إلى جانبه السيد الداي ولد سيدي بابا وزير الشؤون الإسلامية ، وتقدم صاحبنا للسلام على جلالته ، وفوجئ صاحبنا بالملك يرحب به ، ويخاطبه أمام كل الحاضرين من وزراء وسفراء وعلماء بأنه قد وقع اختياره عليه لكي يكون مديراً لدار الحديث الحسنية ، كان إعلان الخبر مفاجئاً للجميع ، وأخذ الخبر ينتقل من شخص إلى آخرفى القاعة ، والكل يسأل عما قالـه الملك..

تقدم عدد من الموجودين في القاعة يهنئونه بالثقة الملكية ، كان صاحبنا في حالة ذهول ، فرحة ودهشة وخوف ….

عاد صاحبنا إلى الكويت وهو حائر متردد ، لم يخبر أحداً من زملائه وأصدقائه بما وقع لـه ، تابع محاضراته في الجامعة كما كانت .. بعد شهر اتصل به وكيل الديوان الأميري السيد احمد العرادى وطلب منه الحضور إلى الديوان ، وهناك أخبره أن الأمير تسلم رسالة من الملك الحسن الثاني تتضمن ترشيحه لإدارة دار الحديث ، ويطلب من سمو الأمير أن يأذن لـه ، وأن سموه أرسل رسالة جوابيه بالموافقة على هذا الترشيح وأن عليه أن يعد نفسه للسفر إلى البلد ، وسيكون منتدباً من الكويت إلى المغرب ، وسوف يحتفظ بمنصبه في الجامعة ، وستحمل معك رسالة من الأمير إلى جلالة الملك ..

عاد إلى منزلـه وهو حائر متردد وجل ، كانت الأمور تمشي سريعة ، وكأن يداً خفية تقودها وتسيرها   ولم تعد لـه إرادة او اختيار ,ولم يعد قادراً على التراجع ، أخبر زوجته بالأمر ، بكت عندما تأكدت من أمر السفر ، لم تكن تصدق أن الأمر سيكون .. لن يكون الانتقال سهلاً .. مجتمع جديد وحياة جديدة ..

شاع الخبر في الجامعة ، وبين زملائه ، استدعاه مدير الجامعةالدكتور حسن الابراهيم وأبلغه بقرار الأمير بانتدابه للمغرب لمدة ثلاث سنوات . زاره أصدقائه ، شجعه البعض وخوّفه البعض الآخر .. لماذا يترك الكويت .. لماذا يغامر .. قال لـه صديق : ستواجه صعوبات كبيرة ، أنت غريب في بلد ليس في إدارته غريب ، ستجد نفسك وحيداً .. وقال آخر : الناس ترحل من المغرب إلى المشرق إلى حيث المال والبترول وأنت ترحل من بلاد الثروة والنفط إلى أقصى بلاد العرب .

وقال ثالث هذه فرصة العمر ، ستكون في ضيافة ملك المغرب ، في قصور المرابطين والموحدين .. لن تندم أبداً وإذا ذهبت فلن تعود أبداً .. لن تجد في المغرب ثروة البترول ولكن ستجدهناك ثروة القيم العظيمة وستجد آباراً من تراث المجد يوقظ في أعماقك الشعور بالذات ، وستجد هناك شعباً عريقاً لن يشعرك بالغربة أبداً ..

وابتدأت رحلة التدافع والتغالب بين إرادتين ، إرادة الاستقرار وإرادة المغامرة .. إنه اختبار صعب .. أصبحت السفينة تجري في البحر بقوة ذاتية يحركها الشراع ويقودها إلى أعماق المحيط ..

كان يعلم أن الرحلة إذا بدأت فسوف يجد أمامه ذلك البحر المحيط ، لن يجد معه أحد ، سيكون وحيداً في رحلته ، لن يسمع أحد صوته عندما تطوقه أمواج البحر وتحاصره في وسط المحيط ..

وبدأت كوابيس الليل تؤرقه كل ليلة ، تشجعه حيناً وتحذره حيناً آخر ، وأطل من خلال نافذة غرفته إلى مياه الخليج الهادئة المستقرة .. وأخذ يتصور أمواج المحيط الأطلسي الهادرة على شواطئ الرباط ، كانت الأيام تجري مسرعة .. كان يحاول أن يمسك بها لكي تتوقف ، ولكي يتمكن من أن يلتقط أنفاسه . كان يحتاج لمن يعينه ويشجعه بالإقدام أو  الإحجام .

وفجأة سمع رنين الهاتف ، وسمع صوت الأستاذ أحمد بنسوده مدير الديوان الملكي في المغرب يخاطبه بلهجته المغربية وبصوته الجهوري المحبب إلى النفس ويطلب منه أن يراه في الفندق الذي ينزل فيه بالكويت ، استقبلـه بحفاوته المعتادة ، وقال لـه : المغرب ينتظرك ، وأخبره أن سمو الأمير استقبلـه يوم أمس ، وخلال اللقاء أبلغه بأنه أعطى أوامره للجامعة لكي يصل صاحبنا إلى المغرب بأسرع وقت ، ونشرت جريدة الرأي العام في الكويت تصريحاً للأستاذ بنسوده يشكر فيها سمو الأمير لتفضلـه بالموافقة على طلب ملك المغرب بانتداب صاحبنا لإدارة دار الحديث الحسنية بالرباط ..

وأحس الأستاذ بنسوده بما يتردد في نفس صاحبنا من مخاوف وتساؤلات، فشجعه وطمأنه ، وأبلغه بأنه سيلقى من جلالة الملك كل الرعاية المعهودة في ملوك المغرب من تكريم العلماء ..

بعد ذلك اللقاء بدأ العد التنازلي للرحلة من المشرق إلى المغرب ، بعد أسبوعين وقف صاحبنا في مطار الكويت يودع أصدقاءه ، ويحمل في حقيبته رسالة من أمير الكويت إلى ملك المغرب وغادر الكويت بكل التكريم .. وتذكر وعد الملك ، ستخرج من الكويت بكل التكريم .

ولما حلقت الطائرة في سماء الكويت رأى زوجته تطل من النافذة تودع الكويت الوداع الأخير ، تودع ذكريات جميلة وأصدقاء وأحباب .. سألته زوجته هل سنعود للكويت ثانية أجابها : ادعو اللـه تعالى أن يختار لنا ما يريده لنا ..

كانت الرحلة من الكويت إلى الدار البيضاء مليئة بالآمال العراض ، زال التردد ، وابتدأت رحلة الأمل ، إنه الأمل الجديد والغد المشرق .. فجر يطل من أفق لابد إلا أن يستقبل بعزم وإرادة وأمل..

إنها بداية عهد ، كانت السماء عندما حلقت الطائرة فوق الدار البيضاء مشرقة ومشمسة ودافئة ، إنه الربيع في المغرب ، وما أجمل ربيع المغرب بعدما تسقى الأرض بأمطار الخير ، الأرض خضراء جميلة ، والبيوت الطينية التي يسكنها الفلاحون تبدو جميلة ، والأغنام ترعى في الحقول ، والفلاحون يحرثون الأرض ويطوفون حول حقولهم فرحين مزهوين بما أفاء اللـه عليهم من جمال الطبيعة وبهاء زينتها ..

أطلت السيدة من النافذة وصاحت : ما أجمل الطبيعة في المغرب ، حقول وأشجار ، غابات وأنهار ، كانت الأرض كما تبدو من الطائرة كأنها لوحة زيتية جميلة ، وفي المطار وجد في استقبالـه السيد زين العابدين الكتاني بن مولاي إبراهيم ،وكان عضواً في الديوان الملكي وأحد مساعدى السيد أحمد بنسوده مدير الديوان الملكي ، وقد اختاره السيد بنسوده نظراً للصلة السابقة التي كانت تربطه بصاحبنا ، ورافقه إلى فندق هيلتون بالرباط حيث أقام فيه لمدة أربعة أشهر إلى أن تم إعداد الدار التي سيسكن فيها فيما بعد.

كان ذلك يوم 15 فبراير 1977 ، كان يوماً مشمساً ، وأطل من شرفة غرفته إلى حي السويسي الذي يقع الفندق فيه ، وهو أبرز الأحياء الراقية ، وكانت الأبنية فيه فيلات أنيقة تمتد لمسافات واسعة ، ولم يكن يدري أنه سيقيم في هذا الحي وبالقرب من هذا الفندق لمدة تزيد عن ربع قرن .

( الزيارات : 1٬862 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *