العصر الذهبي للتصوف الاسلامى ..

كلمات مضيئة..العصر الذهبى للتصوف الاسلامى ..

الحلقة الثانية

مازلنا فى العصر الذهبى للتصوف الاسلامى , فى القرن الرابع الهجرى كان التصوف فى اروع صوره , انه العصر الاهم والاغنى وكل ما كان بعده فهو عالة عليه , كان التصوف علما وفهما ورقيا فى المفاهيم والتزاما بثوابت الدين واصوله , عندما نقرأ لاعلامه فى ذلك العصر ندرك جيدا انهم مختلفون عما نعهده من صوفية المتأخرين , كانوا اصحاب فهم اعمق لقضايا الايمان ومعانى الاحسان , عندما اقرا ماكتبوه ادرك جيدا انهم كانوا يفهمون من التصوف ما لم يفهمه الكثير ممن نسب الى التصوف او ادعاه فيما بعد  , اهم ما لفت نظرى انهم جميعا يحذرون ممن انتسب الى التصوف من غير اهله وهم كثر  , كان التصوف علما وفهما وادبا وخلقا وتميزا , كنت ارى نفس المصطلحات ولكنها بفهم اعمق والتزام اوضح , لم يكن التصوف سذاجة فى الفهم ولا تكاسلا فى العمل ولا اوهاما متخيلة ولا زعامة دنيوية ,  كان التصوف خلقا راقيا واستقامة سلوكية وصفاءا داخليا , من حق مجتمعنا ان يدين ما يراه من مظاهر منسوبة الى الصوفية , ولا احد يقر ما يراه من انحراف فى الفهم وقصور فى الهمة حتى فقدت المفاهيم الكثير من دلالاتها الراقية , تصوف اليوم ليس كتصوف الامس , عندما يحل الظلام تكثر الاشباح ولاأحد  يحسن التمييز بين الحسن والقبيح , عندما كان التصوف علما كان رموزه من  العلماء , وكان التحذير شديدا من ادعىاء التصوف ممن لا صلة لهم بالتصوف فهما ولا ادبا ولا خلقا , وانجب التصوف اعلاما كان لهم مكانة فى مجتمعهم , لم يكن التصوف مجرد حكايات ومبالغات وتوهمات وشطحات , كان لهم مواقف علمية تدل على حسن فهمهم لقضايا عصرهم ,

ومن ابرز اعلام التصوف فى القرن الرابع الهجرى ابو بكر محمد بن ابراهيم الكلا باذى المتوفى علم 380هجرية , كان الكلاباذى ممن اشتهر بعلم الاصول وكان يقال له تاج الاسلام , وكتب اهم كتاب فى التصوف سماه التعرف لمذهب اهل التصوف وكتب عدد من العلماء فى شرح التعرف ومن ابرزهم القاضى علاء الدين  التبريزى وشيخ الاسلام الانصارى  , وكان هذ الكتاب لا يقل اهمية عن كتاب اللمع للطوسي وقد يعتبره الكثيرون انه اكثر اهمية وفائدة وفهما وموضوعية منه , انه كتاب علمى مميز فى اسلوبه العلمى ومباحثه الدقيقة وبيانه لموقف التصوف من كثير من القضايا العلمية المتعلقة بالعقيدة واصول الدين والمعرفة والتكليف , واهم ما اكد عليه هو تلك الضلالات والافتراءات التى نسبت الى التصوف من غير اهله كما اكد على وجود كثير من الاخطاء التى وقع فيها بعض السالكين , كما اكد على كثير من الثوابت لدى الصوفية , واهمها انه اذا تعارض كشفك مع ما جاء فى القران والسنة فخذ بالقران والسنة فالله تعالى قد ضمن لك العصمة والحق فيهما وليس فيما رأيته بنفسك , وان من لم يؤتمن على ادب من اداب الشريعة فلا يمكن ان يؤتمن على ما يراه من الاحوال او ما يدعيه منها ,   لا شيء مما يترجح لك انه الحق  هو الحق الا اذا كان متفقا مع اصل من اصول الدين , والقاعدة ان التصوف هو علم الاحوال ولا تصح الاحوال ولا تستقيم الا اذا كانت الاعمال صحيحة ومتفقة مع ثوابت الشريعة  , واول خطوة فى منهج الصوفية هو معرفة العلم المكتسب بالتعلم لمعرفة ثوابت الدين والاحكام بحسب تخصصه من غير تقصير فيه او تجوز فاذا تمكن من هذا العلم درس طبيعة النفوس وافاتها وما يعتريها من الانفعالات والقابليات الطبيعية والاهواء المتحكمة , فاذا تمكن من الالتزام بكل الاداب والفضائل التى امر الله بها من غير تفريط او تقصير وحفظ الحواس من كل الافات والمخالفات استقامت النفس وتطهرت وعندئذ تكون المرحلة المرادة وهي المعرفة وهي معرفة الله وتجريد التوحيد  من اي خاطر تشبيه او تعطيل , وان يؤثر غيره على نفسه وان يرتقى بخواطره وان يلتزم بالمعانى الراقية واهمها الرضا ومن علامة الرضا سكون القلب وترك الاختيار  ..

كنت اتتبع بعض المفاهيم التى اوردها الكلاباذى اما ان تكون من عبارته الخاصة وله اسهام واضح في اغناء كثير من المفاهيم ,  واما انه ينقل اقوال من سبقه , ومما يميزه انه يحسن اختيار ما ينقل من اراء رموز التصوف ولا يخفى اعجابه فى اقوال الامام الجنيد من تعريفه ببعض المصطلحات والتعريفات , وقد احسن فى اختيار مانقله من المعانى عنه ,  واهمها انه ينقل عن الجنيد فى تعريفه عن الزهد انه خلو الايدى من الاملاك والقلوب من التتبع , وهذه كلمة فى غاية الدقة والجمال والرقي وهي ان تتبع الاخرين فيما يملكون ليس من الزهد ابدا , وما اكثر الذين يتتبعون حياة الاخرين فيما ينجحون فيه وما يملكون و التتبع بحد ذاته ليس محمودا وهو تتبع قلبى يتنافى مع الزهد  , اما الانس فيعرفه بانه ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة , اما المحبة فهي ميل القلب الى ما يحبه الله من غير تكلف , فمن تكلف شيئا فلا عبرة لما يدعيه , اما التواضع فهو خفض الجناح وكسر الجانب , ومما اورده الكلا باذى انه اورد معانى الاقوال والمصطلحات الصوفية وليس هناك معنى واحد فلكل صوفي تجربه الخاصة به واذواقه كما احسها بنفسه , وليست كل الاحوال سواء , ولا بد من معيار خاص , يمنع الانزلاق والشطط وهو كثير فى التراث الصوفى , فهناك فى هذا التراث ما يعبر عن حقيقة التصوف الراقى فى مفاهيمه المعبر عن رقي فهمه,  وهناك من هذا التراث مالا دلالة له ولا اثر فى حياة السالكين ,  وهناك ماتكثر شطحاته وانزلاقاته وجهل اهله به فى حقيقة التصوف وفهم رسالته التربوية والروحية , اننى اتكلم عن العصر الذهبى للتصوف فى القرن الرابع  والخامس الهجرى , كان المجتمع الاسلامى فى عصر ازدهاره , وكانت المناظرات العلمية الراقية والمذاهب الاسلامية الفقهية وهي مدارس تعبر عن تعدد منهجى وليس عن مذهبية متعصبة منغلقة ضيقة الافق , لاتحتمل الرأي الآخر وتضيق بكل من خالف ما هي عليه , كان هذا العصر هو عصر التدوين فى العلوم الاسلامية , كان التقليد فيه  اقل مما اصبح عليه فيما بعد ,

ومن المؤسف ان انوار هذا العصر قد بدأت تخبو رويدا ثم انطفات واصبحت الاجيال المتعاقبة تعيد قراءة تراث الجيل السابق واحيانا لاتحسن فهمه , كانت تحفظه جيدا كنصوص وتعيد كتابته او ترديده , توقف العطاء واصبحت الاجيال عالة على جهد الاولين لم يضيفوا اليه ما يجعل الشعلة معطاءة , كان التقليد هو المنهج المفضل للتعبير عن الوفاء لتراث الاسلاف , استمر الفكر الصوفي فى مصطلحاته ولكن الجهل قد عبت به ودخل الكثير مما لا دلالة له , وظهر واقع جديد يحمل اسم التراث الصوفي ولكنها اضافات  ليست معبرة عن تلك القيم الراقية , كثرت الطقوس بتاثير العادات والمصالح والرغبات الدنيوية والتافس على الجاه الاجتماعى وتعددت الطرق وانحرف بعضها عن مناهج الصالحين من ائمة الفكر الصوفي الذين كانوا صادقين فى توجههم ملتزمين باصول الصوفية اتقياء اصفياء يريدون الله ولا يريدون شيئا اخر , ما احوجنا الى صوفية اصيلة لا شطط فيها ولا شطحات ولا تمزقات فيها ولا منافسات على الدنيا والجاه الاجتماعى .. تلك صوفية اصيلة يحتاجها مجتمعنا اليها وهي تتطلب منهجا للتصحيح واختيار الافضل والاكمل الذى نحتاج اليه ..

( الزيارات : 785 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *