العلاقة بين التفسير والتجدد في الفكر الإسلامي

العلاقة بين التفسير والتجدد في الفكر الإسلامي


معظم الناس يعتقد أنّ كلمة التجديد في الفكر الإسلامي تقتضي أن يتم ذلك التجديد على أساس تجاوز النصوص النقلية والتنكر

وهذا المعنى للتجديد لا يمكن أن يكون مقبولاً، لأنّ تجاوز الأصل النقلي هو إلغاء لعلاقة الفكر بأصوله ، وبالتالي فإنّ كلمة التجديد لا تكون صادقة في التعبير عن هذه الحالة لأنّ كلمة التجديد تعني الالتزام بالنصوص الأصلية .

وينحصر التجديد في مجال يتعلق بالجهد الإنساني في تفسير النصوص ولا يمكن إنكار دور الإنسان في فهم النصوص النقلية لأنّ الإنسان هو المخاطب بها ويتجدد الخطاب في كل لحظة مع كل مكلف لكي يستقيم أمر التكليف .

ولو توقف الخطاب لتوقف التكليف فلا تكليف إلاّ بخطاب متجدد يخاطب الأجيال المتعاقبة على الدوام لكي يستمر الارتباط قوياً بين النصوص النقلية والأجيال المتلاحقة .

وكل جيل مكلف بقراءة النص وتفسيره مع احترام شروط التفسير .

ولا نستطيع أن ندعي أنّ جيلاً من أجيال المكلفين اختص بالخطاب التشريعي وانفرد بحق تفسير ذلك الخطاب ولو صح ذلك لتوقف النص عن العطاء والنصوص النقلية قائمة وثابتة وراسخة وهي قابلة للتفسير في كل عصر من العصور لكي يستمر النماء والعطاء بفضل الإنسان الذي يجسد قضايا مجتمعه …..

والاجتهاد يكون فيما ورد فيه النص في معظم الأحيان وذلك عندما يحتاج النص إلى التفسير ، ولهذا اختلف المفسرون في تفسير النصوص كما اختلف الفقهاء في مناهج الاستنباط وفروع الأحكام ولقاعدة الفقهية – لا اجتهاد في مورد النص – تفيد عدم جواز استنباط حكم اجتهادي مخالف للنص وهذا أمر بدهي كما لا يجوز الاجتهاد فيما كان النص فيه دالاً على حكمه بطريقة قاطعة .

ومن المقرر لدى علماء أصول الفقه أنّ الاجتهاد يكون فيما ورد فيه نص وفيما لم يرد فيه نص فما ورد فيه نص يكون الاجتهاد فيما كان ظني الثبوت أو ظني الدلالة ، وتتمثل مهمة المجتهد في البحث عن النص من حيث اعتباره دليلاً أو غير دليل ، ويكون ذلك في السنّة النبوية حيث يقع الاختلاف في مدى الحكم على الرواة من حيث العدالة والضبط ولا يتصور الاجتهاد في مجال القرآن من حيث الثبوت لأنّ القرآن قطعي الثبوت .

و الاجتهاد في النص يكون في مجال معرفة الدلالة اللفظية لذلك النص والمفسر هو الجهة المكلفة بمعرفة الدلالة المرادة من ذلك النص بقدر الطاقة البشرية ولذلك قال علماء التفسير في معرض تعريفهم للتفسير هو البحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية…

الموضوع الأول: التعــــــريف بالتفسيــر .

التفسير في اللغة البيان والإظهار يقال فلان ذو بيان أي ذو قدرة على إظهار المعنى بأبلغ عبارة والإظهار يحتاج إلى جهد بشري ويختلف عن الظهور فالظهور يكون ذاتياً والإظهار لا يكون إلاّ بجهد لذلك يقال ظهر الهلال أي بان ويقال أيضاً أظهرت المعنى أي بذلت جهداً في كشف ما هو مراد باللفظ من الدلالات .

وكلمة التفسير تقتضي وجود نص لأن المفسر يعكف على ذلك النص للكشف عن المراد به والنص هو الخطاب الشرعي وكلمة الخطاب تستدعي البحث عن المخاطب- بكسر الطاء – والمخاطب- بفتح الطاء- فالمخاطِب في الخطاب الشرعي هو الله والمخاطَب هو الإنسان

والمخاطب بالفتح هو الإنسان الذي يوجه إليه الخطاب وهو المكلف بتفسير ذلك الخطاب في حال توفر أهلية التفسير فيه ولا يجوز لجيل مخاطب بالنص الشرعي أن يتخلى عن مسؤوليته في تفسير النصوص مكتفياً بجهد الأجيال السابقة لأنّ ذلك يلغي النص ويعدمه فالنص متجدد في مخاطبة المكلفين ومن واجب المخاطب أن ينظر في النص وأن يستنبط منه الحكم الشرعي فالقرآن يخاطب المكلف ومن واجب المكلف عند قراءته للنص أن يعتقد أنه المخاطب بذلك النص وأذكر بهذه المناسبة كلمة للشاعر الباكستاني المسلم محمد إقبال يخاطب بها ولده: يا بني اقرأ القرآن كأنه عليك أنزل …..

الموضوع الثاني: مدارس التفسيــر.

يراد بمدارس التفسير الاتجاهات التي أخذ بها فقهاء القانون في تفسيرهم للنصوص الشرعية من حيث الالتزام بالدلالة اللغوية أو الأخذ بمقاصد الشرع وغاياته .

ونلاحظ أنّ مدارس التفسير ثلاث:

المدرسة الأولى : المدرسة التقليدية وتأخذ هذه المدرسة بما أخذ به معظم الفقهاء في بداية العصر الحديث من نظرة احترام لإرادة المشرع والبحث عن تلك الإرادة من خلال الدلالة اللغوية للنص التشريعي وأخذ بهذا الرأي علماء الفقه في فرنسا ونظروا للنص التشريعي نظرة قداسة وسميت هذه المدرسة بمدرسة الشرح على المتون وحجة هؤلاء أنّ إرادة المشرع كامنة في اللفظ وعلى المفسر أن يبحث عن تلك الإرادة من خلال ذلك اللفظ ولا يجوز بناءً على هذا الاتجاه لأي مفسر أن يتجاوز الدلالة اللغوية للنص التشريعي ، ويروى عن أحد الفقهاء الفرنسيين أنه قالك لا علاقة لي بالقانون وتنحصر مهمتي في تفسير مدونة نابليون…

ويؤخذ على هذه المدرسة أنّ أصحابها وجدوا أنفسهم يبحثون عن إرادة وهمية للمشرع لأنهم لا يستطيعون معرفة إرادة المشرع الحقيقية وهم في بحثهم عن الإرادة الحقيقية كانوا يبتعدون عن غايات المشرع ومقاصده وأحياناً كان تفسيرهم مناقضاً لتلك المقاصد والمصالح الاجتماعية التي جاء النص التشريعي لحمايتها .

المدرسة الثانية: المدرسة التاريخية : وتأخذ هذه المدرسة بمبدأ يقوم على أساس مراعاة غايات المشرع ومقاصده فالمشرع عندما وضع النص التشريعي كان يراعي ضمير الجماعة ويعبر عن مصالحها كما تصورها خلال فترة زمنية معينة وضمير الجماعة متجدد ولو جاء المشرع في عصر آخر لأخذ بالاعتبار مصالح الجماعة ولا علاقة بين إرادة المشرع والنص التشريعي لأنّ القانون له شخصية مستقلة ومن حق أي مفسر أن يفسر النص مراعياً بذلك ضمير الجماعة الذي يتجدد باستمرار وأخذ بهذا الاتجاه علماء الفقه الألماني .

ويلاحظ في هذه المدرسة أنّ المفسر قد يبتعد كثيراً عن إرادة المشرع وقد يتجاوز في بعض الأحيان الدلالة اللغوية للنص وهذا يدفعه إلى البحث عن إرادة افتراضية للمشرع والإرادة الافتراضية لا تقوم على أساس صحيح لأنّ المفسر في ظلّ الأخذ بهذا المبدأ قد يلغي النصوص التشريعية بحجة مراعاة المصالح الاجتماعية .

المدرسة الثالثة : المدرسة العلمية : برزت هذه المدرسة على أنقاض المدرستين في محاولة للتخفيض من تطرف الاتجاه الأول والاتجاه الثاني ويقوم هذا الاتجاه المعتدل على أساس احترام الدلالة اللغوية للنص التشريعي مع مراعاة مقاصد المشرع وغاياته لكي يكون التفسير في ظلّ هذا التوازن والواقعية معبراً عن إرادة المشرع ومراعياً المصالح المتجددة التي أراد المشرع احترامها .

الموضوع الثالث: أقسام التفسيــر.

ينقسم التفسير من حيث الجهة التي تقوم بمهمة التفسير إلى ثلاثة أقسام :

التفسير التشريعي : ويعتبر التفسير التشريعي امتداداً للنص ويأخذ خصائصه من حيث الإلزام ويجب أن يصدر التفسير التشريعي عن نفس المشرع أو عن جهة مخولة القيام بمهمة التفسير ونظراً لهذا الاعتبار فإنّ التفسير التشريعي يعتبر امتداداً للنص التشريعي ويكون له أثر رجعي لأنّ هذا التفسير يكشف عن إرادة المشرع الحقيقية .

التفسير القضائي: ويطلق التفسير القضائي عل ما يقوم به القضاء من تفسير لبعض النصوص بغية التمكن من الفصل في المنازعات وليس من مهمة القضاء أن يتصدى للتفسير والتفسير بالنسبة للقضاء ليس غاية بذاته إلاّ أنّ القضاء يحتاج أحياناً إلى تفسير بعض النصوص عند الحاجة إلى القضاء ويتميز التفسير القضائي بالمرونة والواقعية وهو أقرب إلى مراعاة مصالح الناس لأنّ القضاء شديد الصلة بحاجات الناس وهو يحسن معرفة ما ينفع الناس إلاّ أنّ التفسير القضائي لا يمكنه أن يستغني عن تفسير الفقهاء لأنّ الفقهاء يحسنون التفسير ويكون تفسيرهم أكثر عمقاً إلاّ أن ّما يؤخذ على تفسير الفقهاء إيغاله في التفسير النظري الذي قد يصطدم في معظم الأحيان مع الواقع .

والتفسير الفقهي: لا يمكن الاستغناء عنه ويعتبر الفقهاء أنّ التفسير غاية بذاته ولذلك يبحثون عن كل الدلالات التي يمكن أن تستفاد من اللفظ ولا يعنيهم في شيء أن يكون تفسيرهم محققاً لمصالح اجتماعية لأنّ انصرافهم إلى الفظ يبعدهم في بعض الأحيان عن مقاصد المشرع وغاياته…

وهذا ما نلاحظه في بعض الأحكام الفقهية في الفقه الإسلامي حيث نجد أنّ الفقهاء الذين عملوا في مجال القضاء كان اجتهادهم أقرب للواقع ، ولذلك فأنّ من الضروري أن يقع التعاون والتكامل بين القضاة والفقهاء لكي يستفيد القضاء من عمق الآراء الفقهية ويستفيد الفقهاء من مرونة القضاء وخبرته في مجال الأحكام .

ولو نظرنا إلى بعض الاجتهادات الفقهية لوجدنا أنّ بعض الاجتهادات خضعت لمنهج في التفسير يأخذ بالاعتبار المقاصد الشرعية كالاجتهادات التي صدرت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كثير من المواقف التي واجهته كاجتهاده في موضوع المؤلفة قلوبهم وراعى في تفسيره للنص الذي يعطيهم بعض أموال الزكاة الظروف الزمانية التي أخذت بالاعتبار وأهمها مراعاة المصلحة الإسلامية في تخفيف العبء عن المسلمين لكي يكونوا أكثر قدرة على مواجهة خصومهم .

ويدخل ضمن هذا المنهج في التفسير ما قرره عمر بن الخطاب من إيقاف حدّ السرقة في عام المجاعة وأعتقد شخصياً في هذه الواقعة أنّ جريمة السرقة لم تكتمل أركانها فالركن المادي للجريمة قائم والركن الشرعي كذلك إلاّ أننا لا نستطيع الحكم بتوافر ركن الجريمة وهو القصد الجنائي فالسارق في عام المجاعة يندفع للسرقة وهو مكره ولا خيار له لأنّ الجوع يدفعه إلى ذلك السلوك ولا قصد مع توفر أسباب الإكراه والقاعدة الشرعية تقرر مبدأ درء الحدود بالشبهات والإكراه من أكبر وأهم الأسباب التي تنفي توافر جريمة السرقة بالطريقة التي توجب إقرار عقوبتها الشرعية، وانتفاء عقوبة السرقة لا يعني إلغاء عقوبة التعزير للتخويف ولعدم تشجيع الإقدام على السرقة تحت مظلة الجوع والحاجة .

الموضوع االرابع : قواعد التفسيــر.

القاعدة الأولى : في التفسير هي البحث عن الدلالة اللغوية للنص الشرعي لأنّ التفسير يعني البيان والمفسر الأول للقرآن الكريم هو النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه القرآن وكلف ببيان معانيه وأحكامه لقوله تعالى } وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون { والتفسير النبوي للقرآن يدخل ضمن إطار التفسير التشريعي ويملك نفس خصائصه من حيث الإلزام ويختلف عن التفسير الفقهي أو التفسير القضائي الذي يصدر من القضاة والمجتهدين ويخضع ذلك التفسير لقواعد الاجتهاد .

وأول ما يجب البحث عنه في مجال التفسير القواعد التفسيرية التي تساعد على معرفة الدلالة اللغوية للنصوص التشريعية وقد اهتم علماء الأصول بدراسة القواعد اللغوية لأنها أداتهم المباشرة لمعرفة معاني الألفاظ ودلالاتها ومن الطبيعي أن يكون التساؤل الأول مطروحاً حول الطرق التي تثبت بها اللغة من حيث دلالتها على معانيها .

والطرق التي تثبت بها اللغة ثلاثة :

الطريق الأول: النقل المتواتر وهذا طريق مباشر ومؤكد ولا خلاف فيه فالكلمات الشائعة على معنىً معين تفيد ذلك المعنى ما لم تخرج عن ذلك المعنى بدليل .

والطريق الثاني : هو أخبار الآحاد وتثبت اللغة عن طريق نقل الآحاد الذي لا يبلغ حد التواتر ويشمل هذا النوع الكلمات التي تعرف بغريب الألفاظ التي تخفى عل العامة ولا تخفى على أهل الاختصاص .

والطريق الثالث: فهو استنباط العقل مما نقل إليه وهذا دليل على أنّ العقل وحده لا يكفي لمعرفة الدلالات اللغوية للألفاظ لأنّ اللغة تنقل عن العرب والعقل لا يستطيع أن يعرف معاني الألفاظ دون العودة إلى كلام العرب .

واختلف العلماء في حكم ثبوت اللغة عن طريق القياس فأجاز البعض ذلك وبناءً عليه أجازوا التوسع في استعمال القياس لتوليد كلمات جديدة أو لإطلاق كلمات على غير المعاني التي أطلقها عليها العرب إذا كانت العلة القياسية مناسبة بين المقيس والمقيس عليه وأجازوا إطلاق كلمة الخمر على كلّ ما ستر العقل مما هو من عصير العنب .

وخالف البعض الآخر هذا الرأي ولم يجيزوا إثبات اللغة عن طريق القياس فالخمر يطلق على ما ستر العقل مما هو من عصير العنب فلا يستعمل في غير ما استعمله العرب من أنواع العصير الأخرى ولو أدّى شربها إلى الإسكار لأنّ إطلاق كلمة الخمر على غير الكلمة التي استعملها العرب يعتبر تقولاّ على العرب .

واختلف العلماء في حكم خروج الكلمات عن معانيها اللغوية إلى معاني اصطلاحية فالعرب استعملوا الكلمة في معنىً معين وهذا المعنى هو الدلالة اللغوية لتلك الكلمة إلاّ أننا نلاحظ أنّ الكلمات قد تستعمل أحياناً في غير معانيها التي وضعت لها واستعمل الشرع الحنيف الكلمات العربية في غير معانيها اللغوية التي وضعت للدلالة عليها بحسب الاستعمال العربي وذهب الخوارج والمعتزلة إلى أنّ الشارع يجرد الكلمات اللغوية من معانيها الأصلية وينقلها إلى معانٍ جديدة كالصلاة والزكاة والحج وهي كلمات لا يراد بها معانيها الأصلية وإنما يراد بها معانيها الشرعية ، وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الشارع تصرف في الكلمات اللغوية كما تصرف العرف فيها وأطلق تلك الكلمات في مواطن بعيدة عن معانيها اللغوية إلاّ أنّ الاستعمال الشرعي ليس بعيداً عن الاستعمال اللغوي ولا تخرج الكلمة بمقتضى الاستعمال الشرعي عن المعنى اللغوي وتظلّ الكلمة مرتبطة بأصولها اللغوية .

وذهب علماء المذهب الشافعي إلى تقسيم دلالة الألفاظ على المعاني إلى قسمين :

دلالة المنطوق ودلالة المفهوم :

ويراد بدلالة المنطوق دلالة اللفظ على المعنى المراد به دلالة صريحة بحيث يستطيع السامع أن يفهم المراد بطريقة مباشرة من خلال اللفظ نفسه كدلالة قوله تعالى } فلا تقل لهما أفٍِ ولا تنهرهما { على حرمة التأفف وهذه الحرمة مستفادة من اللفظ نفسه من غير حاجة على إعمال الذهن لاستنباط معانٍ جديدة .

أما دلالة المفهوم : فيراد بها دلالة اللفظ على معنىً آخر ليس مستفاداً من اللفظ نفسه وإنما هو مستفاد من معنى اللفظ إذ لا يصح المعنى إلاّ به وهو ضروري ولازم .

ودلالة المفهوم إما أن تكون موافقة لحكم المنطوق وإما أن تكون مناقضة له فإذا أثبتنا للمسكوت عنه حكم المنطوق كان ذلك ضمن مفهوم الموافقة وإذا أثبتنا للمسكوت عنه حكماً مغايراً لحكم المنطوق كان ذلك ضمن مفهوم المخالفة .

وذهب معظم العلماء إلى الاعتداد بالمفهوم والأخذ به لأنّ القيد يهدف إلى إثبات حكم للمسكوت عنه ، وذهب علماء المذهب الحنفي على عدم الاعتداد بالمفهوم ويظل المسكوت عنه على أصله إلى أن يقوم دليل على إخراجه من حكم الأصل إلى حكم آخر .

القاعدة الثانية : قاعدة الإلحاق وتقوم هذه القاعدة على أساس الاشتراك في العلة التي أنيط بها الحكم في الأصل وقاعدة الإلحاق لا تدخل ضمن التفسير في مفهومه الذي ذكرناه لأنّ الإلحاق يقوم على أساس توسيع قاعدة النص عن طريق علة الحكم وهذا ما يعرف بالقياس .

والقياس عند الأصوليين إلحاق فرع غير منصوص على حكمه بأصل منصوص عليه لاشتراكهما في علة واحدة، ولابد لإعمال القياس من توافر أركانه وهي الأصل والفرع والعلة والحكم ويعطى الفرع حكم الأصل إذا توفرت في ذلك الفرع العلة التي بني عليها الحكم في الأصل ومثال ذلك أنّ النص ورد بتحريم الخمر وعلة التحريم الإسكار فإذا توفرت علة الحكم في أي فرع من الفروع يعطى لذلك الفرع حكم الأصل .

وتعتبر العلة أهم ركن في القياس وهي الوصف الذي أناط الشرع الحكم به وجعله علامة عليه ويشترط في العلة أن تكون مناسبة للحكم لأنّ الأحكام معللة بمصالح الخلق والغاية من الحكم جلب مصلحة ودفع مضرة والمناسبة هي إدراك تلك العلاقة بين الحكم والمصلحة فالعلة في منع القاتل من الإرث استعجال منفعة عن طريق القتل ويعاقب بالحرمان والحرمان يحقق مصلحة للمجتمع لأنّه يمنع من اللجوء إلى القتل للحصول على الإرث وهذه المصلحة تؤدي إلى حماية النفوس وتعرف العلة عن طريق النص من كتاب وسنّة كما تعرف من طريق الإجماع فالنص قد يكون صريحاً في دلالته على العلة وقد يكون عن طريق الإيماء إلى العلة واستعمال الاشتقاق اللغوي كقوله صلى الله عليه وسلم : pلا يرث القاتل (لا وصية لوارث).

وأحياناً لا تثبت العلة عن طريق النص أو الإجماع وعندنا يحتاج المجتهد على البحث عنها مستعرضاً في ذلك الأوصاف المختلفة فإن وجد وصفاً مناسباً أخذ به واعتبره علة الحكم وإذا وجد أوصافاً متعددة اجتهد في تنقيحها على أن يتوصل على معرفة العلة المناسبة .

يشترط في الوصف المناسب أن تتوفر فيه شروط:

أولاً: أن يكون ظاهراًَ يمكن إدراكه والتحقق من وجوده من غير جهد كالصغر في ثبوت الولاية عل الصغير .

ثانياً: أن يكون منضبطاً والغاية من هذا الاشتراط ربط الحكم بصفة يمكن التحقق منها لئلا يقع خلل في تطبيق الأحكام لأنّ ربط الحكم بعلة غير منضبطة يوقع المكلفين في حرج فالمشقة علة تبيح الفطر في رمضان إلاّ أنّ الشرع لم يربط إباحة الإفطار بالمشقة لاختلاف الناس في تعريف المشقة وتفاوتهم في مدى تحملها فالبعض يجد مشقة في أشياء بسيطة والبعض الآخر لا يجد مشقة فيما يعتبره الناس من الأعمال الشاقة ولذلك ربط الشارع الحكم بوصف منضبط وهو السفر لأنّ السفر مظنة للمشقة .

ثالثاً: أن يكون متعدياً والمراد بهذا الشرط عدم اقتصار الحكم على الأصل فإذا كان الحكم خاصاً بالأصل فلا يصح القياس لعدم قابلية الأصل للقياس عليه ومن ذلك ما كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أن لا يكون من الأوصاف التي ألغى الشارع اعتبارها ومن ذلك حق المرأة في الطلاق فعقد الزواج يستدعي أن يتساوى كل من الزوجين في ممارسة حق الطلاق إلاّ أنّ الشرع الحكيم ألغى حق الزوجة في الطلاق تحقيقاً لمصلحة اجتماعية معينة لتضييق دائرة الطلاق لأنّ إعطاء هذا الحق لكل من الزوجين سوف يؤدي على مضاعفة حالات الطلاق في المجتمع.

القاعدة الثالثة: قاعدة الاستحداث وتقوم قاعدة الاستحداث على أساس المصلحة العامة فالشريعة نصت على أحكام معينة وتركت للعقل البشري أن يقرر ما يراه مناسباً لتحقيق مصالحه البشرية تحقيقاً للمنافع ودرءاً للمفاسد ولا يمكننا إغلاق باب الاجتهاد أو إيقاف قاعدة الاستحداث وهذه القاعدة لا تدخل ضمن التفسير إلاّ أنها تعتبر امتداداً للنص وهو امتداد لمقاصد النصوص في تنظيم حياة الناس بما يكفل المقاصد الشرعية .

وشرعية الاستحداث ثابتة بالنص الشرعي وحديث معاذ بن جبل عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن خير دليل وأوضح نص في إثبات شرعية الاستحداث لأنّ المجتمع الإسلامي محتاج إلى أحكام جديدة لتنظيم قضاياه الجديدة .

والاستحداث هو الوسيلة الطبيعية لاستمرارية الشريعة الإسلامية لأن حاجات الناس متجددة والقول بصلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان يستدعي الأخذ بقاعدة الاستحداث لكي تظل الشريعة قادرة على مواصلة عطائها المتجدد في تنظيم حياة المجتمع بطريقة لا مشقة فيها ولا حرج ….

شروط الاستحداث : وأهم شروط الاستحداث ما يلي :

أولاً: عدم وجود نص بالاعتبار أو الإلغاء فإذا ورد نص بالاعتبار اعتبر الحكم داخلاً ضمن ما هو منصوص عليه وإذا ورد حكم بالإلغاء كان الحكم نهائياً ولا يجوز الاستحداث بما يخالف نصاً ثابتاً .

ثانياً: وجود مصلحة راجحة وذلك لأنّ الاستحداث يحتاج إلى توفر أسباب تدفع إليه فإذا برزت مصلحة راجحة وجب على المجتهد أن يستحدث الحكم المعبر عن تلك المصلحة لئلا يكون هناك مشقة ويشترط ان تكون تلك المصلحة من المصالح المعترف بها .

ثالثاً: أن يكون ذلك خارج نطاق العبادات وذلك لأنّ العبادات ليست خاضعة للمنطق الاجتهادي الذي تدركه العقول البشرية بسهولة ويسر فالعبادات أوامر تكليفية ويجب على المكلف أن يأخذ بها وهو يبحث في ثبوتها لأنّ الحكمة منها قد تكون في بعض الأحيان مدركة وقد تكون غير مدركة وهي تختلف عن الأحكام العملية التي تهدف على تحقيق المصالح البشرية .

ضوابط الاستحداث:

أولاً: الضابط الشخصي : ويهدف إلى التأكد من توفر شروط الاجتهاد في المجتهد من حيث الأهلية العلمية أو من حيث السلامة الاعتقادية، فالسلامة الاعتقادية شرط ضروري للاطمئنان إلى شخصية المجتهد وسلامة منطلقاته الفكرية فإذا كان صاحب بدعة أو انحراف في عقيدته كان ذلك قادحاً فيما يصدر عنه من اجتهادات وآراء والإسلام يحترم الرأي ويشجع عليه إلاّ أنّه لا يسمح لأهل الانحراف والبدع أن يمارسوا شططهم لنشر الضلال والانحراف تحت شعار الحرية الفكرية وفي الوقت ذاته فإنّ الاستقامة الفكرية ليست كافية ما لم يكن صاحبها من أهل الكفاءة وأن يكون متمكناً من النصوص والأحكام والقواعد والأصول محيطاً بكل ما يحتاج إليه من أدوات الاجتهاد مستوعباً النصوص والمعاني والدلالات لكي يكون رأيه في موطن الاعتبار والاحترام .

ثانياً: الضابط الموضوعي: ويهدف هذا الضابط إلى ربط حركة الاجتهاد بمقاصد الشريعة التي تهدف إلى تحقيق مصالح العباد ودفع الضرر عنهم فالشريعة جاءت لتنظيم الحياة الإنسانية بما يضمن حماية الإنسان من كل عبث وظلم ويجب أن تكون هذه الغاية هي المنطلق لكل مجتهد والمجتهد الذي ينسى هذه الغاية يبتعد عن الشريعة ولابد من أن يقع في الانحراف لأنّ الشريعة ليست منفصلة عن حياة الإنسان ومصالحه والإسلام يحرص على تحرير الإنسان وتنظيم حياته فإذا كانت ىراء المجتهد مغايرة لهذه الغاية ومناقضة لمبادىء الإسلام الأساسية في تحقيق العدل بين العباد كان ذلك انحرافاً عن شرع الله .

وهكذا يتبين لنا أنّ منهج التفسير هو أداة التجديد فالتفسير يمثل الأداة الأولى للتعبير عن دلالات النص اللغوية كما يعبر عن مقاصد النص وغاياته سواء عن طريق اللفظ أو عن طريق التوسع في مقاصد النصوص لكي تكون محققة غاياتها في تكوين نظام اجتماعي يقوم على أساس التعاطف مع الإنسان لكي يكون مصان الحقوق لا تطوقه سواعد الأقوياء ولا تتجاهل حقوقه تشريعات وضعية ظالمة .

والتجديد مطلب لا خيار لنا في التأكيد على أهميته لأنّه أداة الاستمرارية ولا حياة لتشريع إذا لم تتجدد خلاياه عن طريق الاجتهاد البشري ، فالعقول البشرية هي المخاطبة بالتكليف وهي المؤتمنة على استمرارية الشرائع السماوية لأنّها تجد فيها السمو والعدالة والموضوعية

ولا يجدر بنا أن نخاف من التجديد أو نقف موقف التردد في قبول مناهج المجددين فالتجديد المعتمد على منهج سليم لا انحراف فيه ولا تجاوز هو أداة الضرورية لإثراء فكرنا الإسلامي والمجتمعات الحية لا ترفض التجديد لأنّه أداة الاستمرار .

( الزيارات : 1٬533 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *