العلم ليس مهنة

 ذاكرة الايام..العلم ليس مهنة

مااشق ذلك اليوم الذى قررت فيه ان اغادر مدينى الاولى التى ولدت فيها وعشت فى احيائها والتى تركت في نفسي اجمل الذكريات , , ايام الطفولة مازالت كما كانت تسعدنى واشتاق اليها , كانت مليئة بالذكريات , فى كل حي من تلك الاحياء والقديمة هناك ذكرى , واجكل الذكريات كانت فى الاحياء المحيطة بقلعة حلب التاريخية , لم افكر يوما اننى ساغادر تلك المدينة , انها المدينة الاجمل , انها الوطن الاحب الى نفسي , الوطن لا ينسى ولا يعوض , مهما فعل بك الوطن  فهو الارحم بك التى يضمك بصدق ,  كل الوجوه تعرفها وكل الملامح مرت بك , لا احد يخرج من وطنه راضيا  وبارادته , فى كل مكان خارج وطنك فانت غريب  , لم افكر يوما اننى ساغادر حلب , واترك كل شيء من تلك الذكريات  الدافئة , كانت الرغبة فى العلم غالبة وجامحة  ومتحكمة, هل العلم يستحق كل ذلك العناء والتضحية ,  , قبل سنتين من ذلك اليوم حاولت ان اترك العلم واختار التجارة وعالم المال , اخترت ذلك واعتقدت انه الافضل  , ولم اخترالتجارة  لاجل المال , ولكننى توهمت انه يحقق لى الكمال الذى كنت ابحث عنه , وامضيت عدة اشهر وانا اخالط اهل التجارة واعيش فى الاسواق  , عالم التجارة عالم مختلف كليا , لم يقنعنى العلم كما كنت اراه , كنت ارى افقا ضيقا لا يحقق لى ما كنت ابحث عنه  , لم تعجبنى  تلك الحولة السريعة التى قمت بها فى مجتمع التجارة  , ولم يشدنى  عالم المال , رأيته صغيرا  ولا يمثل طموحا , اقصى ما يمكنه ان يكون لس ما ابحث عنه , وعدت سريعا , عندما تركت ذلك الطريق  لم اندم عليه , لم يكن هو ما اريد ,ليس ما اريد ان املك اكثرمن المال , تلك القمم العالية ليست هي التى ابحث عنها ولا تستحق ذلك الجهد  ,  وعدت الى العلم مرة ثانية , لم يكن يقنعنى ما كنت فيه , كان لا بد من الرحيل واجتياز الحدود , كنت فى صحبة السيد النبهان طيب الله ثراه , وكان كل شيء ميسرا لى , , كنت اعيش عالم الكبار , ولكن لم يكن ذلك لى , كنت اريد الرحيل لكي اشعر بذاتيتى , كنت اريد ان اكون انا , امضيت سنة كاملة من التردد والقلق , لم اجد تشجيعا على الرحيل , وكان هناك صوت ينادينى من داخلى ويلح علي , وارتفع الصوت من داخلى ,  هل يمكننى ان احتمل حياة الغربة والعزلة والوحدة , وهل يمكننى ان اترك كل شيء  , كانت الرغبة اقوى , لم اكن احتمل غير ذلك , لم اتوقع ابدا اننى لن اعود , عندما غادرت حلب لاول مرة وقفت فى اعلى تلك الهضبة الغربية التى تطل على حلب , والتفت الى الوراء مودعا , وكنت اهمس فى داخلى متى اعود اليك ياحلب , وانهمرت دموع من عبينى وانا انظر الى   قبة الكلتاوية الخضراء التى تشدنى اليها ذكريات كثيرة  , لقد اخترت العلم ولا بد الا ان ادفع الثمن مهما كان غاليا , كان الطريق  الى دمشق طويلا وهي المحطة الاولى , كدت ان اعود , ولكننى لم افعل , لو عدت فسوف يتكرر الموقف من جديد . لا بد من مواصلة الرحلة  , فى دمشق كان الصمت  والشعور بالوحدة والغربة , انتهى كل ماكان وبدات حياة جديدة , كنت فى حلب اشعر بذاتيتى فانا الحفيد الذى يحظى بكل الحب والاهتمام , لقد انتهى كل ماكان , يجب ان اعيش كما يعيش غبرى معتمدا على نفسي , حياة لم اكن معتادا عليها من قبل , حياة طالب للعلم  ولا شيء غير العلم , كانت السنة الاولى قاسية , لم اعد كما كنت من قبل , كنت سعيدا بقرارى , ولم اندم عليه ابدا , كنت اشعر بدفء داخلى يؤنسنى فى وحدتى , ما ضقت يوما بتلك الوحدة والغربة , كنت امشى فى الطريق ولا احد  يعرف من انا , شعرت بحريتى ,  يجب ان اعترف اننى التقيت فى طريقى بكثير ممن اسعدتنى صحبته من اساتذتى ومن زملائي , اسعدنى ما وجدت منهم من محبة ومودة , ما زلت اذكر الكثير ممن عرفتهم , كم تحتضن بلاد الشام من قيم حضارية , , ما اجمل حياة البساطة وما اشد حاجتنا الى تلك القيم الانسانية فى العلاقات الاجتماعية , لم نكن نعرف فى تلك المرحلة من حياتنا تلك الانانية والكراهية والتعصب , كان القليل يكقينا لكي يسعدنا , لم تكن هناك طبقية اجتماعية , كان الانسان محترما بصفته الانسانية , كان هناك الاحترام المتبادل بين الانسان والانسان  , كان الكل قريبا من الكل بغير حدود , التقيت فى تلك الفترة بكبار علماء الشام , كانوا اعلاما فى مجتمعهم  باخلاقهم وعلمهم , مازلت اذكر شيخ الشام الكبير الشيخ حسن حبنكة , لقد زرته فى الايام الاولى فى بيته فى حي الميدان برفقة الصديق الشيح مصطفى التركمانى , وتكررت الزيارات , كانت لقاءات علمية , كان عظيم المواقف والخصال  , اننى احترمه من اعماق قلبي , وكنا نزوره كل صباح بعد صلاة الفجر مع صديقى الشيخ مصطفى التركمانى  , , ونقرأ عليه تفسير ابى السعود , كان يحبنى واحبه ,  واستمرت لك الجلسات  لمدة عام , كان فى غاية النبل الفضل  واحيانا كنا نفطر فى بيته , وقد اشعرنى ذلك الاهتمام بقدر كبير من السعادة , , وكنا نزور السيد مكى الكتانى شيخ الشام ايضا , ونحضر مجالسه , كان بيته مكتظا برجالات الشام  , وزرت الشيخ احمد كفتارو , واكرمنى اجمل تكريم , وقد اشعرنى كل ذلك بالسعادة ,  ووصلت اصداء تلك الزيارات العلمية الى السيد النبهان وقد اسعده ذلك , وفى الجامعة كنا نقضى النهار كله في تلك الجامعة , كانت قلعة شامخة تضم نخبة طموحة من الشباب  , كانت الجامعة كاسرة واحدة , الكل يعرف الكل , كل الكليات مجتمعة , كنا نقضى النهار كله اما فى المحاضرات اوفى المكتبة العامة , ا وفى المسجد اوفى  المطعم , حياة جميلة ودافئة بالامل , ماال ذى يجمع كل هؤلاء الشباب , انه الامل الذى يدفعك لكي تضحى بكل شيء , حياة الطلبة هي اجمل مرحلة فى الحياة , كانت هناك خلافات ومنافسات بغير احقاد , الشباب لا يعرفون الحقد , يصادقون ويخاصمون ولا يحقدون , الحياة تتسع للكل , كان اساتذتنا من اعلام الشام من تلك التخصصات العلمية , كنا نشعر بالصداقة والالفة , تعرفت فى الجامعة على اهم الشخصيات العلمية , كنا نشعر بالفرحة فى داخلنا , الشباب اقدر على تحمل العقبات , انهم اكثر صفاءا وصدقا واخلاصا واستقامة , لم تكن هناك مظاهر ترف , فى مجتمع العلم يكون التفاضل بالعلم والاستقامة , كانت تربطنا صداقة باساتذتنا , تلك ظاهرة حضارية , كان الاستاذ الذى يملك دارا وسيارة يعتبر فى نظر طلابه من المحظوظين  , كنت اشعر باثر العلم فى شخصية صاحبه خلقا وادبا واستقامة وتواضعا , مجتمع العلم ليس كمجتمع التجارة , وعندما يصبح العلم مهنة يفقد مجتمع العلم مكانته وهيبته , وتلك هي محنة العلم فى مجتمع فقد العلم اخلاقية العلم , واصبح التسابق على المال منهجا للتنافس , اصبح الطبيب تاجرا  واصبح القاضى موظفا واصبحت الدعوة الى الى الدين مهنة , ليس هذا هو العلم الذى يحبه الله ويرفع اهله , مهنة العلم كبقية المهن الاخرى , هكذا كنا نعتقد , وهذه هي فضيلة العلم على التجارة ان يقودك العلم الى مزيد من المعرفة برسالة الحياة , ولا جل تلك الغاية تعلمنا العم واخترناه وتركنا التجارة , عندما كنا طلابا كنا نحلم بالافضل , ونقول لانفسنا هذا يليق وهذا لا يليق , اخترنا العلم لكي نعرف به طريق الكمال الذى اراده الله لعباده , وانتهت مرحلة دمشق , ووجدت نفسي ابحث عن ذلك الكمال الذى كان هدفى , لم تقتنعنى تلك الدراسة الاولى وكانت المحطة الثانية هي القاهرة , وبدات مرحلة جديدة هي امتداد لذلك الامل , ولم اجد فى القاهرة ذلك النموذج الذى كنت ابحث عنه , لم اجد العلم لاجل العلم , اصبح العلم مهنة معاشية , والكل يتسابق للحصول على تلك الشهادة التى تؤهلة لتلك المهنة , كنت استعيد تلك الذكريات القديمة فى ايام الطفولة , لقد تركت التجارة لاجل العلم ولكن لم اتركها لكي يكون العلم تجارة ولا وظيفة معاشية ,  والمهنة المعاشية يجب اتقانها كمهنة , وبدات المشاعل تخبو رويدا رويدا , سراب بعيد كان يشدنا اليه وكلما اقتربنا منه كان يتضاءل وترى الصورة كما هي , الانسان هو الانسان , قلت اقول لنفسي هامسا ليس لاجل هذا تركت التجارة , واخترت العلم , كنت اؤمن ان العلم رسالة انسانية وهو اداة الانسان لمعرفة الله تعالى وما يريده الله من هذه الحياة , العلم لاجل ان ترتقى به وتكون به اكثر انسانية ورحمة ومحبة لكل الاخرين  , وتكون به اقرب الى الله واكثر فهما لما يريده الله منك ..

( الزيارات : 693 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *