الفضيلة.. والحق

الفضيلة.. والحق

الفضيلة

من أبرز ما يُثير انتباه الباحث والدارس لنظرية الحق في الفقه الإسلامي ما يتعلق بطبيعة ذلك الحق من حيث الإطلاق والتقييد، فالحق سلطة ممنوحة لفرد ما لتحقيق مصلحة مُعترَف بها له، ولا يمكن للإنسان أن يتمتع بتلك المصلحة إلا بعد حماية الشريعة أو القانون له، فإذا اعترف الشرع أو القانون بحق ما جاز لصاحب الحق أن يتمتع به بطريقة تحقق له المصلحة المرتجاة التي كانت السبب المباشر للاعتراف بذلك الحق.

الخلاف:

ولا خلاف بين علماء الفقه الإسلامي وعلماء القانون الوضعي في قدسية الحق وحقّ صاحبه في ممارسته والاستفادة منه بطريقة تحقق مصالح شخصية أو اجتماعية، إلا أن التساؤل الملحّ يظل ملحاً حول الطبيعة الذاتية للحقوق المشروعة من حيث حجم السلطة التي يملكها صاحب الحق، فهل يمكن اعتبار الحق مطلقاً عن كل قيد، وعندئذٍ يجوز لصاحبه أن يباشر سلطته على حقه بطريقة مطلقة، متجاهلاً ما يترتب على ذلك الحق من آثار سلبية بحق الآخرين ولا يعتبر صاحب الحق مسؤولاً عن تلك الأضرار، لأن صاحب الحق يملك سلطة مطلقة، ولا يمكن تقييد حقه، لأن صاحب الحق هو المعني بالأمر، ولا يخضع الحق لأي قيد..

ولا نستطيع أن نتجاهل حجم الأثر السلبي الذي يمكن أن ينتج عن ممارسة صاحب الحق لحقه بطريقة مطلقة، لأن الحقوق مرتبطة بعلاقات اجتماعية، ويترتب عليها نتائج في حق الآخرين، ولا يمكن للشريعة أو القانون عند إقراره لحق مشروع أن يتجاهل الأبعاد الاجتماعية لهذا الحق، فمراعاة مصلحة لطرف معني بالأمر لا يُجيز تجاوز مصلحة مماثلة لأطراف أخرى هي معنية بطريقة مباشرة بذلك الحق، من حيث الآثار السلبية الناتجة عنه.

والشريعة الإسلامية معنية بالمقاصد الشرعية والمقاصد الشرعية مرتبطة بالمصالح الاجتماعية، ولا يمكن لشريعة الإسلام أن تقرّ ظلماً لأي فرد أو أن تعترف بتجاوز محمي بحق مشروع، فالتجاوز والظلم مرفوض في جميع الأحوال فإذا ثبت الظلم فالحقوق المؤدية إلى ذلك الظلم مقيدة ومتوقفة إلى أن يزول ذلك الظلم، لأن إقرار الحق لفرد ما هو إزالة لظلم وقع عليه واعتراف بمصلحة اجتماعية، فإذا ترتب على ذلك ظلم أو إضرار بالآخرين توقف الحق أو خضع لقيود تمنع وقوع الظلم أو تحد من الآثار السلبية الناتجة عن ممارسة الحقوق..

وهذه المقدمة ضرورية لإعطاء تصوُّر مبدئي عن نشأة فكرة الحق لسلطة ناتجة عن وجود مصلحة فردية أو اجتماعية لصاحب الحق وقع الاعتراف بها من الشرع، ولا يمكن للمشرع الحكيم أن يعترف بمصلحة مع ثبوت ضرر ناتج عنها إلاّ إذا كان الضرر المتوقع عند سلب الحق أقوى أثراً وأشدّ خطراً..

الطبيعة الذاتية للفقه الإسلامي:

ويختلف الفقه الإسلامي عن الفقه الوضعي من حيث الطبيعة الذاتية للحقوق الفردية. فالقانون يعترف بحقوق، وقد يعبر من خلال ذلك الاعتراف عن مصالح ضيقة إقليمية أو قومية أو طبقية، ولهذا يسقط القانون الوضعي بسقوط واضعيه، لأنه يجسد مصالح ذاتية ومفاهيم للعدالة والأخلاق قد لا تكون خالية من تأثير قيم اجتماعية سائدة، أحكمت قبضتها ضغوط اجتماعية أو عوامل بيئية أو مؤثرات ذات قوة وسلطان، وهذا أمرٌ لا يمكن تجاهله لأن الإنسان بطبيعته محكوم بقيم مجتمعه، وهو مرآة لذلك المجتمع والأخلاق الاجتماعية لا تجسد باستمرار مفاهيم مطلقة، وإنما تجسد مفاهيم سائدة وضاغطة ومسيطرة، وانطلاقاً من هذا الواقع تخضع القوانين للتغيير والتبديل مع تغيُّر الظروف الاجتماعية، وبخاصةً في حالات حدوث تبدلات جذرية، تعيد صياغة المفاهيم الاجتماعية بطريقة جديدة ومغايرة للمفاهيم القديمة، ومن اليسير أن نلمح أثر هذا المعنى في تطور مفاهيم الحق في القوانين الوضعية، من حق فردي مطلق إلى حق مقيد بالمصالح الاجتماعية إذْ لا يمكن للمجتمعات التي نمَتْ فيها أفكار العدالة والتكافُل الاجتماعي والحقوق الإنسانية أن تتقبل فكرة الحق المطلق الذي يولّد آثاراً سلبية ويعزز الروح الفردية والأنانية في المجتمع، وينشر الأحقاد الاجتماعية، نتيجة ما يولّده من تحديات لمشاعر الآخرين الذين تقع عليهم الآثار السلبية لممارسة الحقوق المشروعة.

 ونظراً إلى أن الفقه الإسلامي محكوم بقبضة النصوص النقلية التي تمنع انحراف الرأي، وتحدّ من حرية المجتهد عندما يتجاوز خطوط القدسية الإنسانية، فإن تلك النصوص تعيد المجتهد إلى جادة الصواب، وتجعل حركته الفكرية محكومة بقيم إنسانية عليا لا يتجاوزها برأي ولا يتخطّاها باجتهاد ولا يتجاهلها بتأثير قيم اجتماعية سائدة وضاغطة، فإذا تجاوز المجتهد حدود النصوص النقلية فقد حكم على اجتهاده بالخطأ، وأسقط اعتباره، لأن العقل البشري وليد بيئة اجتماعية، ولا يمكن أن يؤتمن على مصالح إنسانية عليا، لأن الإنسان متعاطف مع قضاياه الذاتية، وهو وليد ما رضعه في طفولته من أفكار وأخلاق وقيم.

وفي جميع الأحوال يجب أن تتراجع القيم الضيقة للإنسان لصالح سيادة القيم الإنسانية العليا، فالعدالة ذات مفهوم مطلق، وهي لكل البشر، والأخلاق سمو في النفس، ولا يمكن للظلم الاجتماعي أن يكون مقبولاً في نظر الأخلاق لأن من يقع عليهم الظلم لا يملكون القدرة على الدفاع عن حقهم، والأخلاق لا يمكن أن تكون إقليمية أو طبقية، فإذا سيطرت القيم السائدة على الأخلاق المطلقة تراجع دور الأخلاق في إصلاح الحياة الاجتماعية، وفقدت كلمة الأخلاق جمالها وقدسيتها وحماية الإنسان لها.

 

الحقوق مقيدة بالفضيلة:

لا يمكن للشريعة الإسلامية أن تعترف بمصلحة (ما) ما لم تكن تلك المصلحة محققة لأحد معنيين:

– جلب مصلحة..

– دفع مضرّة..

ومن الطبيعي أنَّ جلب المصالح مطلب شرعي، لأن مهمة الشريعة تنظيم أمور المجتمع مما يكفل له الأمن والاستقرار، ولا يتحقق ذلك إلاّ بفضل وضع معايير دقيقة للحق، وحماية الحقوق المعترف بها، دفعاً للخصام وللنزاع.

وليس هناك حق ذاتي مطلق، فالحقوق مبعثها اعتراف الشرع بها فإذا انتفى الاعتراف فلا شرعية لمالك، ولا حق لمتسلط، ولا حماية لباسط يد أو نفوذ تحت تأثير قوة أو سلطة، وإذا كان أصحاب النفوذ يملكون سلطة التأثير في توجهات القوانين البشرية فإن سلطتهم بالنسبة للشريعة الإسلامية محدودة، ولا يتجاوز حدود التفسير الذي سرعان ما تكشف الدلالات القاطعة للنصوص حجم التجاوز فيه، معيدةً إلى الفقه الإسلامي نقاءه وصفاءه وروحه المتعالية عن قبول قيم اجتماعية لا تنسجم مع قيم الإنسان.

والفضيلة هي القيد المطلق الذي لا يتجاوزه حق، فليس من الإسلام في شيء أن يمتظل صاحب حق بادعاء مشروعية لإقرار ظلم أو لممارسة تعسف. فلا مكان للظلم أو التعسف في مواطن المشروعية، وكل حق يترتب عليه ظلم فمن الواجب تقييده بكل القيود التي تمنع ما ينتج عنه من أضرار، لأن رفع الظلم من مقاصد الشريعة، ولا يحتج بحق لممارسة ظلم، فإذا نتج عن ممارسة الحق ظلم توقف الحق، لمخالفته لما ثبت في الشريعة عن طريق التواتر من جلب المصالح ودفع الأضرار.

والحق أمر اعتباري، وينبثق كإشعاع يضيء الطريق عندما تبرز مصلحة واضحة، والجهة المكلفة بالنظر في أمر الاعتراف بتلك المصلحة هي الشريعة لئلا تخضع الأحكام الشرعية لأهواء البشر، معبرة عن مصالح الأقوياء، متجاوزة حقوق الضعفاء، والشرائع جاءت لحماية الضعيف، لأنه محتاج إلى الحماية بخلاف القوي فهو قادر بقوته على أن يتجاوز حدود حقه..

معنى الفضيلة:

الفضيلة مأخوذة من الفضل والزيادة، كالربا مأخوذ من الزيادة وليست كل زيادة ربا، لأن الربح زيادة، وما يدخل ضمن الربا المحرم هو ما كانت الزيادة فيه متضمنة معنى الاستغلال ومنافية لأصول التبادل القائم على التوازن بين إرادتَي المتعاقدين، بحيث يكون العقد ناتجاً عن إرادة حرة ومصلحة واضحة لكل من طرفَي العقد.

والفضيلة زيادة، وليست كل زيادة فضيلة، فبعض أنواع الزيادة يعتبر رذيلة، لأن مطلق الزيادة قد يكون منافياً لمعاني الفضيلة، وقد أشار الإمام الغزالي إلى معنى الفضيلة في معرض حديثه عن فضيلة العلم في كتابه “إحياء علوم الدين”، وأكد أن الزيادة التي تدخل ضمن الفضيلة هي تلك الزيادة المؤدية إلى الكمال، فإذا أدت الزيادة في الشيء إلى نقصان المنفعة فيه، أو نقصان في قيمته فهذه الزيادة لا تدخل ضمن الفضيلة لانتفاء صفة الكمال التي تعتبر معياراً دقيقاً للفضائل، ولا فضيلة مع انعدام الكمال، ولكل شيء فضيلته الخاصة به، فما أدّى إلى الكمال فهو فضيلة وما أدّى إلى النقص فليس فضيلة، فالجري بالنسبة للفرس فضيلة، لأنه يحقق كمالها، لأن الجري من خصائص الخيول، وليس الجري فضيلة في الأغنام والأبقار التي تُقتنى للاستفادة من لحومها، ولهذا لا يجري التفاضل بالنسبة للسوائم بسرعتها ما لم تكن مُعَدّة لذلك، وكذلك الأمر لا تعتبر زيادة اللحم في الخيول فضيلة، وقد تكون مما يعيبها وينقص من قيمتها، ومن فضائل السيوف القطع والبتر ولا فضيلة لسيف إذا لم يكن قاطعاً، ولا عبرة بحجمه وشكله، لأن الغاية الأساسية للسيوف أن تُقتنى للحروب، ويتمثل كمالها في أدائها الجيد لما أُعِدَّت له من غايات..

والفضيلة في رأي علماء الأخلاق وسط بين رذيلتين، وأكد “ابن مسكويه” هذه الحقيقة في كتابه “تهذيب الأخلاق”، فإن تجاوزت الصفة حدود الوسط ابتعدت عن الفضيلة، فالشجاعة وسط بين رذيلتين، التهور والجبن، فالتهور زيادة في الشجاعة والجبن زيادة في الحذر والاحتياط، ولا فضيلة في كل من التهور والجبن، لانتفاء صفة الكمال في ذلك الاختيار السلوكي، وكذلك الأمر بالنسبة للجود فهو فضيلة بين رذيلتين البخل والتبذير، والتبذير ليس من الجود الذي يدخل ضمن معاني الفضيلة، ولو اعتبر التبذير فضيلة لكانت الفضائل معبرة في بعض المواقف عن رذائل.

 

ارتباط الفضيلة بالمصلحة الاجتماعية

ويجب في هذا المجال أن يكون مفهوم الفضيلة مرتبطاً بالمصلحة الاجتماعية ومجسداً موقفاً سلوكياً مفيداً للإنسان، فلا فضيلة في إطار الأنانية الفردية، لأن الأنانية مضرة بالإنسان، والفضيلة التي لا تترك أثرها في تحقيق مصلحة اجتماعية للآخرين لا يمكن اعتبارها فضيلة، فالفضيلة سلوك إيجابي ولا يمكن للسلوك السلبي أن يكون فضيلة، ولو أطلقت الفضيلة على السلوك السلبي المتمثل في العزلة عن الناس والأنانية في معايير السلوك لكانت الفضيلة ضارة ولانتفت أبعادها الإنسانية في وجود التواصل بين الإنسان والإنسان، والمجتمع والحياة.

وهذا المعنى للفضيلة يجعل القيم الأخلاقية حية مفيدة ممثلة لقيم إنسانية عليا، تخدم المجتمع الإنساني وتنمّي فيه مشاعر التعاون والتكافل لكي تكون المسيرة الإنسانية هادئة مطمئنة، لا تطاردها آلام البؤساء الذين ضنت عليهم الحياة بأسباب الحياة، ولا تهددها مظالم اجتماعية تنمي مشاعر الأحقاد وتثير في النفوس آلام الظلم والقسوة والتجاهل.

ولا يمكن للفضيلة أن تأخذ موقعها في جدول اهتمامات المجتمعات البشرية المتعاقبة ما لم تكن مجسدة صوت العدالة في ظلام الليل، تحمي البؤساء وتتحالف مع قضاياهم، وتمسح عنهم ملامح الكآبة والحزن، فإن تحالفت الفضيلة مع الأقوياء رافعةً لواء تجاوزهم مبررةً ما يقدمون عليه من سلوك أناني انتفت صفة الفضيلة في ذلك السلوك، وأصبحت الفضائل رذائل، ولا بد حينئذٍ من تصحيح المفاهيم لكي تظل الفضائل باستمرار تمثل مشعل النور في الليالي المظلمة، يستظل بها التائهون ويجدون فيها الحماية والرعاية.

علاقة الفضيلة بالحقوق المشروعة:

ليست هناك شرعية مطلقة لأي سلوك ما لم يكن ذلك السلوك محققاً غايتين:

* الغاية الأولى: تحقيق مصلحة لصاحب الحق، وهذه المصلحة هي السبب في اعتراف الشريعة بذلك السلوك وحمايته، فالمالك صاحب الحق في ماله، وبمقتضى ذلك الحق يجوز أن يتصرف فيه بكل ما يحقق له مصلحة مباشرة، وتوفير المصالح للأفراد مقصد من مقاصد الشريعة، فإن انتفت صفة المصالح في الحقوق كانت الحقوق خالية من غاياتها، ويبرز هذا الحق في جميع أنواع الحقوق، فالطلاق حق، وحرية الإنسان في التعبير حق، وحرية الفرد في الكسب حق، وسلطة الولي في تأديب ولده حق، وكل حق يحقق فائدة مرجوّة لصاحبه، وبسبب تلك المصلحة اعترفت الشريعة بالحقوق التي وقع إقرارها والاعتراف بها.

* الغاية الثانية: ألاّ يترتب على استعمال ذلك الحق ضرر يفوق حجم الضرر الذي يلحق بصاحب المصلحة في حال عدم الاعتراف له بذلك الحق، وذلك لأن المصالح متكاملة، ولا يمكن رفع ضرر عن فريق في معادلة عن طريق إقرار ضرر بآخر، ولو وقع تجاوز هذه الحقيقة لكانت الحقوق المشروعة أداة إذلال ومصدر ظلم للبشر.

ولا بد في هذه الحالة من تقييد الحق بالفضيلة الاجتماعية، وهذا التقييد لا يدخل ضمن القيد الأخلاقي الذي يفتقد القوة والإلزام، وإنما يدخل ضمن القيود القانونية التي يترتب عليها إبطال التصرف أو إيقاف المشروعية إلى أن يقع التلاقي بين المصالح بحيث تكون المشروعية محققة لغاياتها في حماية قيم الخير في المجتمع، وفي إيجاد توازن بين أطراف العلاقة.

وليس هناك أخطر على الفضيلة من أن تسقط تحت أقدام المشروعية ضعيفة متهاكلة مستسلمة، لا تقوى على مواجهة القبضة الفولاذية للقانون تاركةً للظلم أن يأخذ مداه، باسم الحق والفضيلة، ولا حق مع تجاوز الفضيلة، فالحق طريقه الفضيلة وهو دربه الوحيد، فإذا مارس الفرد حقه المشروع بطريقة مخالفة للفضيلة فقد ارتكب إثماً مبيناً، لأن الحقوق ما أقرت إلاّ لتحقيق أهداف اجتماعية نبيلة ومراعاة مصالح إنسانية معترف بها، فإذا أدّت تلك الحقوق إلى نقيض ما يبرر شرعيتها من وقوع ظلم أو تجاوز فلا يمكن الاعتداد بتلك الحقوق، لمناقضتها للمصالح الاجتماعية التي ثبتت شرعية الاعتداد بها عن طريق النصوص النقلية المتواترة والاجتهادات العقلية المراعية لمصالح البشر.

ارتباط الفضيلة بالمصالح الاجتماعية:

لا يمكن للفضيلة أن تكون منافية للمصالح الاجتماعية، لأن إطلاق صفة الفضيلة على السلوك الإنساني مرتبط بمدى ارتباط ذلك السلوك بقضايا الإنسان واقترابه مما يحقق له العدل والأمن والاستقرار، فإذا أدت الفضائل إلى تجاوز المصالح الاجتماعية والتنكر لها فلا قيمة للفضيلة عندئذٍ ولا تميُّز، فالعفو الصادر من قوي يعتبر فضيلة لوضوح معنى التميُّز فيه، فإذا صدر العفو من ضعيف معبراً عن جبن وتراجع فلا فضيلة في ذلك العفو، وكذلك الأمر في فضيلة التواضع، فإذا تواضع الضعيف أمام القوي وحنى رأسه ذلاً ومهانة رهبةً من عقاب أو رغبة في مال أو منصب فلا يمكن اعتبار هذا التواضع فضيلة، وهو رذيلة، لأنه يجسد معاني لا يرضاها أهل الفضل.

ولا خلاف في أن البخل رذيلة والسخاء فضيلة، لأن السخاء يسهم في رفع الآثار السلبية الناتجة عن سوء توزيع الثروة بين البشر، ويخفف من الأعباء النفسية ومشاعر الغضب التي تسيطر على النفوس الواقعة تحت قبضة الحاجة والفقر، ولا بد من الدعوة إلى الإنفاق والسخاء في ذلك الإنفاق لكي تقترب ضفة الفقر من ضفة الغنى، ويزيل السخاء آلام الأحقاد الناتجة عن التفاوت الاجتماعي، فإذا برز السخاء بصفة مغايرة للمصلحة الاجتماعية وتمثل بأنواع من السلوك الخالي من المسؤولية الأخلاقية، كالسخاء في مجال الترف والسخاء في مواطن لا تحقق مصلحة اجتماعية، فهذا السخاء لا يعتبر فضيلة، وبخاصة إذا أدى ذلك السخاء ـ وغالباً ما يكون ـ إلى إثارة مشاعر الفقراء وتحدي مشاعرهم الإنسانية، وإلهاب عواطف الحقد والكره بين طبقات المجتمع الواحد.

وهذا يؤكد لنا أن الفضيلة ذات معنى اجتماعي، وذات دلالة إنسانية، فإذا انفصلت الفضيلة عن معناها الاجتماعي وأبعادها الإنسانية فمن اليسير على المجتمع أن يتجاوز الفضائل وأن يستغني عنها، فما يُعطي للفضائل قدسية متميزة هو تحالفها الخالد مع قضايا الإنسان، ودفاعها المستمر عن المستضعفين من البشر.

الفضيلة قيدٌ مُلزِم:

ولا خلاف في أن الفضيلة قيدٌ يُقيِّد الحقوق، ويوقِف المشروعية عندما يغلب عليها الطابع الفردي والأناني، وهذا القيد ليس مجرد قيد أخلاقي، ولو كان ذلك لفقدت الفضيلة مكانتها كعامل توازن يحمي قيم العدالة، وإنما هو قيد قانوني يترتب عليه بطلان التصرف من الأساس أو توقُّف المشروعية إلى أن تُعاد صياغة الحقوق من جديد بطريقة تحقق التوازن بين أطراف إنسانية لا خيار لها في تعامل مستمر لتوفير أسباب الحياة، ولا يمكن لذلك التعاون أن ينتج ثماره الناضجة إلاّ عندما يملك جميع الأفراد فرصاً متساوية للدفاع عن حقوقهم، فإذا ملك فريق أو طرف من القوة المادية والمعنوية ما لا يملكه الفريق الآخر اختلّ التوازن وانعدمت الإرادة الحرة، وانتفت الرابطة العقدية التي يجب أن تتم بين إرادات متساوية في القوة تملك من الاختيار والرضى ما يمكّنها من التعبير عن إرادتها بحرية وصراحة..

وأخيراً.. نحن مدعوون لإبراز العلاقة بين الفضائل الأخلاقية والمصالح الاجتماعية، وهذا الربط يساعدنا على إعطاء الفضائل الأخلاقية مكانة متميزة في اهتمامات الأفراد والمجتمع، كعامل مؤثر وضاغط ومتعاطف مع قضايا الإنسان، فإذا لم تبرز تلك العلاقة واضحة بين الأخلاق وقضايا الإنسان فمن الصعب على دعاة الأخلاق أن يجدوا صدىً لندائهم المستمر والملحّ بالتمسُّك بالفضائل الاجتماعية، لأن مجتمعاً تحكمه قدرات متفاوتة ومعايير ليست إنسانية ولا أخلاقية لا بد من أن يجد في رحاب الفضائل الأخلاقية صدىً لقضاياه، دفاعاً عن الحق وانتصاراً لمبادئ العدالة.

( الزيارات : 1٬000 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *