الفكر الخلدونى من خلال المقدمة

..لم تتجه نيتي إلى إعداد كتاب عن ابن خلدون، ولم يكن هذا مما أفكر فيه، إذ بدأت صلتي بابن خلدون بقراءة بعض فصول المقدمة عن التاريخ، وبدأ شعور بالإعجاب، ورأيت تحليلا واقعيا ووصفا حيا لطبائع النفس البشرية، ثم امتدت دائرة القراءة إلى وصف تحليلي إلى نشأة الدولة، وأهمها العصبية وكيفية نشأتها الأولى كحاجة للدفاع عن الذات أولا قبل نشأة الرغبة في المغالبة ثانيا والملك ثالثا…

حياة البؤس الأولى تولد خلقا جديدا غير معهود في الطبيعة البشرية وهو خلق البأس والقوة والمواجهة والاستعداد للتضحية، فالبؤس حالة حرمان ومعاناة ويولد الاحتقان الداخلي، ويدفع النفس لتجنيد كل طاقاتها للدفاع عن وجودها، ولا حدود لطاقات النفس في حالات الاحتقان، ثورة ملتهبة وقودها مواقف إذلال يوقظها أمل في الانتقام…

لا حدود لقوة الدفع الداخلية المتمثلة في يقظة الذكريات المؤلمة، مظاهرها قلق وتوتر واحتقان وتمرد وثورة، ويزداد اللهيب اشتعالا، انه نار محرقة مدمرة، ولن تتوقف مادام وقود الذكريات المؤلمة يمدها بأسباب التوتر…

لا شيء يوقف ذلك السيل المتدفق إلا تحقيق الانتصار، وتتوقف المدافعة وتبتدئ المغالبة طمعا في راحة النفس، ولا شيء يوقف ذلك إلا النصر النهائي، أو الهزيمة المحبطة المدمرة، وقلما تكون الهزيمة كذلك، بسبب قدرة البائسين على تجديد خلاياهم في كل حين…

هذه سنة الحياة، وقوانين التدافع والتغالب، على مستوى الأفراد والطبقات والدول، والبؤساء هم وقود الحركة وأداة التغيير، هم يتطلعون إلى الغد الأفضل في الليالي المظلمة، والمترفون ينامون على أسِرّتِهم مطمئنين لا يدرون ماذا يجري خلف الأبواب الموصدة….

ليست القوة هي قوة عضلات أو سلاح، وإنما القوة الحقيقية هي قوة الإنسان في اندفاعه التلقائي نحو الهدف المنشود، ولابد من إمكانات النجاح، فالقوة الإنسانية دافعة ومحركة، والقوة الخارجية ضرورية للنصر…

شعرت بمتعة كبيرة في قراءتي للمقدمة، سجلت أفكار ابن خلدون وصنفتها، وأخذت أسجل بعض أفكاري، عن التاريخ، والبداوة، والحضارة، والعصبية، والاجتماع الإنساني، واثر الظلم في خراب العمران واثر الاستقرار في تطور العمران، حركة التاريخ من البداوة إلى الحضارة، واثر الدعوة الدينية في تكوين العصبية، واثر الحضارة في تطور الصنائع…

أعدت تصنيف ما كتبت، وصدر الكتاب عن ” الفكر الخلدوني” عن مؤسسة الرسالة، وهناك كتابان آخران، الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون، والقوانين الاجتماعية عند ابن خلدون…

ولا أنكر أنني أفدت كثيرا من قراءة فكر ابن خلدون، وتعلمت أشياء كثيرة، وأصبحت أكثر قدرة على تفسير الظواهر الاجتماعية، ومما أسعدني أنني وجدت أفقا واسعا للتفكير من غير قيود، وهذا ما نحتاج إليه لإغناء تراثنا…

أدركت أننا نحتاج لتوليد قوانين نقدية للنقد الذاتي، ليس كل ما يقال صحيحا، وليس كل ما يروى دقيقا، نريد أن نعيد قراءة كل المرويات في ظل مناهج نقدية تماثل المناهج النقدية التي اعتمدها علماء الحديث، واستطاعوا بفضلها أن يقدموا لنا تراثا من المرويات الصحيحة، وان يخرجوا من نطاق هذه المرويات ما كان دخيلا ومدسوسا، وهذا جهد عاقل وسديد ويجب أن نتمسك به وان نجعله مدخلا ضروريا لكل إصلاح في مجال رواية التراث…

( الزيارات : 1٬162 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *