القصة في القرآن

القصة في القرآن

بقلم د. محمد فاروق النبهان

القرآن كتاب هداية ، وهذا هو الأصل فيه ، وكل ما ورد فيه من توجيه وما اشتمل عليه من منهج وما تميز به من أسلوب إنما يهدف إلى تحقيق تلك الغاية ، ولذا فلا يمكننا أن نطبق المعايير البشرية المتعارفة على كتاب الله ، ولو طبقت تلك المعايير عليه لا نتفت الخصوصية القرآنية ، وهي خصوصية في الأسلوب ، وفي القصة ، وفي النظم ، وفي التصوير ، وفي المنهج . 
والقصة في القرآن ليست قصة بالمفهوم الأدبي المتعارف عليه عند كتاب الرواية ، ولا يمكن أن تكون كذلك ، فالقرآن ليس رواية ، وليست غايته سرد حادثة ، وإنما غايته تحقيق هدف ينسجم مع رسالة القرآن .. 
وما يقصه القرآن من أخبار الأنبياء السابقين والأمم السابقة إنما يراد به أولآ : العبرة والعظة ، ويراد به ثانيآ : تأكيد منهج الدعوة واستمرارية هذا المنهج ، ويراد به ثالثا : تصحيح الأحداث التاريخية ووضع تلك الأحداث في إطارها الصحيح ، للتأكيد على أن أنبياء الله واجهوا تحديات وصعوبات وصبروا ، ولم يضعفوا أو يستسلموا ، وتابعوا طريقهم من غير تردد ، مدافعين عن الحق رافعين لواء الإيمان بالله ، مطالبين بتصحيح مسيرة الإنسان ، مبرزين عظمة الفضيلة في السلوك الإنساني .

والقصة في القرآن خبر عن أمم سابقة ، وهو خبر عن غيب ولا يمكن أن يعلمه إلا من أوتي سعة من علم ، وجاء الوحي بها ، لتأكيدها و إقرارها وتصحيحها ، وما كان أهل الجاهلية يعلمون إلا القليل من أخبار الرسل والأمم ، ولا بد أن ما علموه د خله التحريف والتزوير والتشويه حتى أصبحت الحقيقة ضائعة ، وجاء القرآن لكي يؤكد الواقعة ، ويصحح الحدث ، ويشير إلى العبرة ، ويقود الإنسان إلى أن يكتشف بنفسه ما أراده القرآن من حتمية انتصار الإيمان على الكفر ، وانتصار الخير على الشر . 
والمحور العام الذي تدور حوله القصة القرآنية يتمثل في المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية ، من إيمان بالله ورفض لكل مظاهر الكفر والشرك ، ومحاربة الظلم في المجتمع ، وتشجيع الفضيلة ، 
ومنطق الأنبياء واحد ، ومنهجهم متماثل ، ومنطق أهل الكفر والظلم أيضا واحد ، في جاهلية مستمرة يصحح مسارها رسل الله في كل حين .
قال تعالى : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رَسِلَ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (1) .

وقال تعالى : ( وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (2) . 
وهذه الآيات واضحات بينات على أن القصص القرآني كان يراد به تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته لكيلا يضيق بكفر أهل الجاهلية و بتكذيبهم لدعوته , وألا ييأس من النصر , فهذا هو طريق الأنبياء والرسل , وهو طريق جهاد و صبر وهو محفوف بالأشواك والآلام والأحزان ولكن النصر في النهاية لهم , لأن الله ناصرهم ومؤيدهم . 
وقال تعالى : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (3) ) .
ولا شك أن القصة يراد بها أولا : النبي صلى الله عليه وسلم ويراد بها ثانياَ : أصحابه ومن جاء بعدهم من المسلمين , لكي يعلموا جيدا منهج الإسلام . 
قال تعالى :فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ(4) . 
والقصة في القرآن تساق لغاية معينة , ولهذا يذكر من عناصر القصة ما يخدم تلك الغاية , ويحقق الغرض من إيراد القصة فالزمن لا يذكر غالبا إلا عندما يمثل الزمن عنصرا من عناصر التعبير والتصوير , كقوله تعالى في حالة إخوة يوسف : وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (5) .
وتصور القصة في القرآن الحدث وكأنه واقع فعلا , وتهيئ الأسباب النفسية لكي ينفعل القارئ بالحدث , ويعيش معه , ويراه أمامه كمشهد حي ناطق , وليس مجرد صورة جامدة ميتة , فليست الغاية القصة ولا المشهد وإنما الغاية إيراد قصة أو مشهد منها للتعبير عن معنى معين ينسجم مع أغراض القرآن في إبراز الصراع الدائم بين الحق والباطل , وتصوير حالة المشركين والطغاة وهم يدافعون عن مواقعهم أمام دعوة الأنبياء التي تهدف إلى تحرير المفاهيم الإنسانية وتصحيح العادات والقيم الاجتماعية , وخلق إنسان يليق بخلافة الله في الأرض، فلا يطغى ولا يظلم ولا يذل ولا يسقط في هاوية الضلال ….
ولو تأملنا في قصة الرجلين اللذين يملك أحدهما جنتين من أعناب , وتابعنا ذلك الحوار الرفيع المعبر عن عظمة القرآن في تقريب المعاني من الأذهان ,وفي تصوير القيم الخالدة تصويرا رائعا , ما أعظم ذلك الحوار بين غافل عن الحق ظالم لنفسه دفعته غفلته إلى أن يعتز بماله ورجاله , ودخل جنته وهو يفخر بما يملك و وينظر نظرة صغار واحتقار لصاحبه المؤمن , ويقف المؤمن وقفة إيمان ونصح , ويقول له: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا(6). 
ثم يقول بلهجة الواثق من ربه : فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (7) .

وفجأة …. يأتي أمر الله ….. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (8) .
وتأتي العبرة .. وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (9) . 
ويأتي الهدي القرآني مقررا الحقيقة التي يجب أن يعيها البشر :  هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (10) .
إنه أروع تصوير ، و أجمل تمثيل ، وأصدق تعبير عن الحياة في مظاهرها ، و عن الإنسان في قصور نظره وعجزه وضعفه ، وقليل ما هم أولئك الذين يدركون الحق فلا يخدعون أنفسهم , ولا تخدعهم الدنيا ، موقفان لرجل .. 
الموقف الأول : يمشي بخيلاء ، في جنتيه أعناب ونخل وزرع ، ونهر يتدفق ماء وينظر باستعلاء لصاحبه : – أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا.ويشير إلى جنته بيده قائلا : ما أظن أن تبيد هذه أبدا .
أما الموقف الثاني : جنة خاوية على عروشها ، لا أعناب و لا نخل ولا زرع ، ولا نهر ولا ثمر ، ويقف صاحب الجنة حائرا دهشا يقلب كفيه لا يصدق ما يرى. ويبحث عن ناصر ينصره ، فلا يجد رجاله ولا ماله .
– يعود إلى حقيقته التي نسيها في لحظة غفلة .
– ياليتني لم أشرك بربي أحدا .
وتسدل الستارة عن هذا المشهد الرائع المعبر .. وتظل الصورة في الأذهان ناطقة حية معبرة . وفي كل يوم يتجدد الحدث ويتجدد الحوار .وينسى الإنسان في لحظة الغفلة حكمة الحياة وعظمة الدرس.
ويتجدد المشهد على مسرح الحياة .
فرعون يقف شامخا بين قومه ينادي بأعلى صوته: – يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (11) . ويشير بسخرية و استهزاء إلى موسى . أمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يَكَادُ يُبِينُ (12) . وانحطت الهامات طاعة وذلا ، وفجأة حل بهم عقاب الله وغرقوا جميعا .فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (13) . وتأتي العبرة : فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (14) .
ويتجدد المشهد . قرية بطرت معيشتها.. كذبت الرسل .. وظلمت.. وليس هناك أقسى من الظلم .. ولا بد من الهلاك .. هذا وعد الله .. وهذه هي العبرة ..وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلًّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (15) .

—————————————-
(1) الأنعام /33-34 / .
(2) الحج / 42-44 / . 
(3) يوسف / 110 / .
(4) القلم / 48-49 / .
(5) يوسف / 16- 17 / . 
(6) الكهف /36 / . 
(7) الكهف / 39 ,40 / . 
(8) الكهف / 40/ . 
(9) الكهف / 42 / . 
(10) الكهف /43 / . 
(11) الزخرف / 50 / . 
(12) الزخرف / 51 / . 
(13) الزخرف / 54 / . 
(14) الزخرف / 55 / . 
(15) القصص / 57 / .

( الزيارات : 1٬540 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *