العقوبات المالية المفروضة لصالح الفقراء

لم يكتف الإسلام بفرض حقوق مالية لمصلحة الفقراء على الأموال والرؤوس بل فرض على الأغنياء أن يدفعوا للفقراء صدقات مالية , عند كل مخالفة لأحكام الشريعة في بعض التصرفات الخاصة للتكفير عن تلك الأخطاء , وهذا ما يسمى في الفقه الإسلامي ( بالكفارات ) .
و الكفارة هي العقوبة التي قدرها الشارع الحكيم عند ارتكاب أمر فيه مخالفة لأوامر الله تعالى ,وتشمل كفارة اليمين , وكفارة الظهار , وكفارة الإفطار في رمضان , فمن حلف على أمر أن يفعله ثم حنث في يمينه فعليه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم , ومن أفطر في رمضان بعذر ولم يكن قادراً على الوفاء فعليه أن يدفع فدية طعام مسكين عن كل يوم , ومن تعمد الإفطار في رمضان فعليه أن يصوم شهرين متتابعين ,فمن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً , ومن قال بأن امرأته كأمه في الحرمة فعليه صيام شهرين متتابعين , فمن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً .
كفارة الأيمان :
قال تعالى في كفارة الأيمان :” لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان , فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم , أو كسوتهم , أو تحرير رقبة , فمن لم يجد فصيام ثلاثة ايام , ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم , كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون”.( المائدة / 89 ).
وقد اتفق الفقهاء على أن الحانث بالخيار بين الاطعام والكسوة والتحرير , فان لم يستطع فعندئذ يصوم ثلاثة أيام , قال ابن العربي :
( والذي عندي أنها تكون بحسب الحال , فان علمت محتاجاً فالطعام أفضل لأنك إذا اعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجاً حادي عشر اليهم , وكذلك الكسوة تليه , ولما علم الله الحاجة بدا بالمقدم المهم”.
واختلف في مقدار الاطعام , فقال مالك والشافعي : يعطي لكل مسكين مد من حنطة , لأن المد وسط في الشبع .وقال أبو حنيفة : يعطيهم نصف صاع من حنطة أو صاعاً من شعير , وقال مالك : إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزاه . وقال الشافعي:
لايجوز أن يطمعهم جملة واحدة ولكن يعطي كل مسكين مداً , ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال :لا يجزىء إطعام العشرة وجبة واحدة حتى يغديهم ويعيشهم .ويجب أن يطعمهم مما يأكل , فان كان يأكل البر فيجب عليه ان يخرج براً , وإن كان يأكل الشعير فعليه أن يخرج من الشعير .
ولا يجوز أن يطعم من هذا الطعام غنياً ولا قريباً تلزمه نفقته , لأن الغاية من الاطعام هي تغريم الحانث وإطعام الفقير ولا يتوفر هذا في الغني ولا في القريب الفقير , لأن نفقته تجب على الحانث .
واشترط الشافعي ومالك أن يدفع الطعام الى عشرة مساكين , وقال أبو حنيفة : لا يشترط العدد ويكفي ان يطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام , وسبب هذا الاختلاف بينهم هو هل تجب الكفارة لمساكين عشرة وعندئذ يجب العدد أو تجب على المكفر وعندئذ لا ترتبط بالعدد ما دام الحانث يقوم باطعام ما يكفي عشرة مساكين .
والمراد بالكسوة هو ما يطلق عليه اسم الكسوة , ويكون ساتراً للبدن , وأدناه ثوب واحد لكل مسكين , ويدخل في مفهوم الثوب القميص والرداء والملحفة والجبة , وقال مالك : يجب أن يكسيهم الكساء الذي تجوز فيه الصلاة , لأن هذا هو مفهوم الكساء بالمعنى الشرعي .
كفارة الافطار :
روى أبو هريرة : جاء رجل الى النبي ( ص ) فقال : هلكت يا رسول الله , قال وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان , قال : هل تجد ما تعتق رقبة , قال , لا , قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين , قال :لا, قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا , قال ثم جلس , فأتى النبي ( ص ) بعرق فيه تمر , قال : تصدق بهذا , قال : فهل على أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج اليه منا , فضحك النبي (ص ) حتى بدت نواجذه , وقال : اذهب فأطعمه أهلك .
وأوجب أبو حنيفة ومالك هذه الكفارة أيضاً على من يفطر في نهار رمضان عامداً بالأكل والشرب قياساً على الجماع , لأن سبب الكفارة هو الافطار , ويشمل الافطار بالجماع والإفطار بالأكل والشرب , وقال الشافعي وأحمد وأهل الظاهر , لاتجب الكفارة إلا على من يفطر بالجماع فقط لأنهم لا يجيزون قياس الافطار بالأكل والشرب على الافطار بالجماع , لأن الأخير أكثر مناسبة لهذه العقوبة.
وذهب الإمام مالك الى أن المفطر بالخيار بين هذه العقوبات الثلاثة تشبيهاً لهذه الكفارة الحنث , ولأنه روي عن النبي ( ص) في بعض الروايات التخيير بين هذه الأنواع . وقال الجمهور بان هذه الكفارة مرتبة : العتق ثم الصوم ثم الاطعام و ولايجوز الانتقال من الأولى الى الثانية إلا عند العجز عن الأولى .
كفارة الظهار :
قال تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل ان يتماسا ذلك توعظون به والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل ان يتماسا فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكيناً ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب اليم “.
والظهار هو أن يقول الزوج لزوجته ” أنت علي كظهر أمي ” وعندئذ يحرم عليه وطؤها حتى يكفر عن ظهاره , وقد كان الظهار قبل الاسلام طلاقاً , ولكن الإسلام جعله تحريماً مؤقتاً حتى يخرج الزوج الكفارة .
والكفارة كما ذكرت الآية هي عتق رقبة , فان لم يجد فعليه أن يصوم ستين يوماً متتابعة بدون انقطاع , فمن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً.
( ونلاحظ مما ذكرناه في بحث الكفاراتأن الاسلام قد جعل اعتاق العبيد وإطعام المساكين تكفيراً عن كثير من الأخطاء التي يرتكبها الانسان كالحنث في اليمين والإفطار العامد في رمضان ,والظهار , ومع ان الحنث والإفطار هي حقوق لله ولا علاقة للعبد بها , ومع ذلك فقد أراد الاسلام أن يكون إطعام الفقير هو الكفارة التي يكفر بها الانسان عن ذنبه .)
وهذا الاتجاه الجماعي الذي يقصد به مصلحة الفقراء والمساكين واضح في جميع مجالات التشريع و كما تبين معنا حتى في التصرفات الفردية التي لا يطلع عليها أحد إلا الله .
وهكذا يلمح الإسلام على الأغنياء في كل مجال أن يدفعوا للفقراء , وان يكفوهم الحاجة , وهنا لا يحتاج الفقير لأن يتسول على أبواب الأغنياء , بل إن الأغنياء هم الذين يجرون على أبواب الفقراء حتى يدفعوا اليهم حقهم وليحموهم من عقاب الله الذي يحل عليهم إذا لم يكفروا عن خطيئاتهم .
المصدر : الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الاسلامي .

( الزيارات : 1٬152 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *