المصادرالفكرية والتربوية والروحية للسيد النبهان

مصادر فكره

 

 

لابدّ لكل فكر من مصادر أمدّته بالتصورات وأغنته وأثرت في صياغة ملامحه، والمصادر كالينابيع التي تسقي الفكر وترويه منذ الطفولة إلى أن يكتمل تكوينه.

ومعرفة المصادر تيسر لنا فهم الأفكار بطريقة أفضل، وتعطي لتلك الأفكار نسقاً منسجماً معبِّراً عن ملامح تربط الفروع بأصولها، بحيث لا يرى في تلك الأفكار ذلك الانقسام والتناقض، وإذا جاءت الأفكار متناقضة دلّ ذلك على تشوّش في الرؤية وذهول عن إدراك الغايات المرجوَّة.

ولا يمكن أن تجتمع التناقضات في فكر منسجم وملتزم، فالتناقض دليل على أنَّ الشخصية ليست مؤهَّلة لتكوين رؤية ذاتية لها، فتأخذ من ملامح غيرها على غير هدى ومن غير قاعدة، فيأتي نسيج فكرها مفكَّك العرى، مترهِّلاً في تكوينه، وهذا لا يلغي خصوصية التجديد والتطوير، فلا بد في التجديد من التماس قاعدة له، تربط الجديد بالقديم في نسق منسجم يقبله العقل ويقتنع به.

وتختلف المصادر في حجم تأثيرها وفي مدى قوَّتها، فمن المصادر من يسهم بطريقة جادة وعميقة في تكوين الملامح، ومنها ما يكون ضعيف الأثر في هذا التكوين.

ولا بدّ عند دراسة فكر الشيخ من البحث عن مصادر فكره، منذ طفولته الأولى إلى أن نضجت شخصيته، ومن المصادر ما يكون فطريَّاً يستمدُّ قوَّته من الجود الإلهي الذي خلق البشر باستعدادات متفاوتة، ومنها ما يكون تربوياً تسهم البيئة في صياغته.

وهناك مصادر أخرى يكتسبها الإنسان من محيطه الثقافي، فيتأثر بها، ويستجيب لها، ولاشكَّ أنَّ التربية الدينية هي المصدر الأهم الذي يوجِّه الطاقات الفطرية ويتحكم في تكوين البيئة الاجتماعية، وهذه التربية بمكوِّناتها وتجلِّياتها تحدِّد مسارات الفكر ودروبه، وتدفعه إلى أهداف مرجوَّة تحقِّق كمال الإنسان في تطلُّعه إلى الأسمى.

ولو تتبَّعنا أحاديث الشيخ لاستطعنا اكتشاف مصادر فكره، وهي التي يشير إليها في كل مناسبة ويستشهد بها، وهي ثلاثة:

ـ تدبُّر آيات القرآن.

ـ التأثُّر بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ـ التعلُّق الفطري بالكمال.

 

المصدر الأول: تدبُّر آيات القرآن:

 

يشعر كل مسلم بعظمة القرآن الكريم وأنَّه كتاب هداية ورشد وهو عظة ورحمة، قال تعالى:

ـ {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} [آل عمران: 138].

ـ {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [الجاثية: 20].

ـ {واذكروا نعمة الله عليكم  وما أنزل عليكم  من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].

ـ {فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً  يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً} [الجن: 1 ـ 2].

ـ {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصّلت: 42].

ـ {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي رواه البخاري: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه».

وقال أيضاً في حديث أخرجه النسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه: «أهل القرآن أهل الله وخاصَّته».

والقرآن هو كلام الله المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو المدد الإلهي الذي تتجدد به حياة البشر وترتقي بفضل هديه قيم الخير في المجتمع، وهو يعلِّم الناس المكارم والفضائل، وتهتدي بنوره العقول، وتزكَّى بتوجيهاته النفوس وتحيا بتلاوته القلوب.

وأول ما يجب أن يلتزم به القارىء للقرآن أن يستشعر عظمته بقلبه، فهو كلام الله المعجز، وأن يستحضر كل معاني الاحترام والإجلال لله تعالى، وأن يتدبر ما يقرأ بالفهم العميق والأدب الرفيع، وأن يحسن القراءة والأداء.. وأن يتذكر أنه بين يدي الله تعالى يقرأ كلامه.

وأول ما يدعو إليه القرآن هو الفرار إلى الله قال تعالى:

{ففروا إلى الله إني لكم منه  ولا تجلعوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه } [الذاريات: 50 ـ 51].

والخطاب القرآني موجَّه لرسول صلى الله عليه وسلم لكي يدعو قومه ويقول لهم: فرّوا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، واختلف المفسِّرون في معنى هذا الفرار وما يراد به.

قال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة، وفروا منه إليه واعملوا بطاعته.. وقال غيره: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه، وقال ذو النون المصري: فروا من الجهل إلى العلم ومن الكفر إلى الشكر، وقال سهيل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله إني لكم منه نذير مبين(%1).

وقف الشيخ طويلاً وهو يتأمَّل هذه الآية، دعوة إلى الفرار إلى الله، والله لا يدعو إلا لهدى وحكمة وخير، وكان يكررها في مجالسه وينادي أصحابه فروا إلى الله، ولا ملجأ لكم إلاّ الله.. لا لكي تحصلوا على المال والزعامة والجاه، ولكن فروا إليه من كل ما سواه، وليس هناك غيره.. فروا إليه بفقركم إليه وفروا إليه بضعفكم وذلِّكم، ولا تفروا إليه بتعاليكم وتفاخركم بالأموال والأولاد.

ويقرأ الشيخ قوله تعالى:

{وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ماأريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون  إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.

ويتأمَّل معنى العبادة، وهي مأخوذة من العبودة والعبودية، والمراد بالعبودية الخضوع والذل، والتعبيد هو التذليل، والعبادة هي الطاعة، والتعبُّد هو التنسُّك، والقيام بالطاعة، وذهب مجاهد إلى أنَّ المراد بالعبادة هو المعرفة، فمن عرف الله عرف كيف يعبده ويوحِّده، وكان الشيخ يرجِّح هذا الرأي، ويقول من عرف الله أحبه ومن أحبه قام بما توجبه تلك المحبة من الطاعة فيما أمر، والعصاة لو عرفوا الله لما كفروا به.. ولو عرفوه لما أشركوا به..

وما أريد منهم من رزق، لا أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموا غيرهم فالله هو الرزاق ذو القوة ولا يحتاج لغيره.. أمَّا الذين ظلموا وكفروا وخرجوا عن طاعة الله فإنَّ لهم ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم السابقين ممَّن نزل بهم العذاب من الأمم القديمة، والذنوب هو النصيب، وهو الدلو المليء بالماء، ونصيبهم من العذاب سيأتيهم فلا يستعجلون.

ويبتدىء القرآن باسم الله الرحمن الرحيم، وهو القَسَمْ الذي أقسمه الله لعبادة في بداية كل سورة من القرآن أنَّ ما تضمَّنته تلك السورة هو حق ووعد من الله تعالى لعباده بأن يفي لهم بكل ما وعده لهم في قرآنه الذي أنزله على رسوله، بسم الله تعني الاستعانة بالله عند افتتاح كل عمل لكيّ يضمن له البركة، ويحفظ صاحبه، والأصل أن تحذف كلمة اسم، ويبقى اللفظ «بالله الرحمن الرحيم»، وزيدت لفظة الاسم للتبرك ويصبح تقدير الكلام «أبدأ باسم الله» أو بدأت باسم الله، والاسم مشتقٍّ من السموّ وهو العلوّ والرفعة أو مشتق من السمة وهو العلامة الدالة على صاحبه، ولفظة «الله» هو اسم الله الأعظم وهو أكبر أسماء الله ولذلك لا يثنَّى ولا يجمع، وهو يدلُّ على الجامع لصفات الألوهية المنعوت بأوصاف الربوبيَّة المتفرِّد بالوجود الحقيقي الذي يستحق العبادة، والفرق بين الرحمن والرحيم اسم عام يشمل جميع أنواع الرحمة ويختص بالله تعالى، فهو الرحمن بكل خلقه والرحيم خاص بالمؤمنين لمن تاب وأطاع.

كانت البداية التأمل في كلام الله وتدبر معاني القرآن، فهو البحر الذي تجري فيه سفن المعرفة، وتقف على شواطئه العقول حائرة تنهل من معين ذلك الحوض الرباني المليء بكنوز المعارف والعلوم، وتلك المعرفة لا تتوقف عند حدود مدركات العقول التي خلقت لكي تدرك عن طريق حواسها ما يتعلَّق بشؤون العبودية، ولم تخلق لكي تدرك المعارف والإشراقات التي تنبثق في أعمال القلوب التي استعدَّت لكي تنطبع فيها حقاق الكون.

ولا حدود للمعرفة، والعقل غريزة يتهيأ بها الإنسان لقبول العلوم الحسية والنظرية، ولا يمكنه أن يتجاوز ذلك، والعقول متفاوتة في قدراتها على الفهم، وقد يتناقض ما تفهمه العقول فقد تقود صاحبها إلى النور أو الظلام، وإلى السكينة والقلق، وإلى السعادة والشقاء، مما يدلُّ على أنَّ النفوس تشتاق لمعرفة اسمى وأعلى، تشرق في القلوب فتمنحها الشعور بالطمأنينة والسكينة.

كيف يمكن للعقول المجرَّدة المظلمة العاجزة عن إدراك ذاتها وحركتها ووجودها أن تدرك المعارف المتعلِّقة بالله تعالى، وأن تؤمن أنَّه ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء وأنَّه نور السموات والأرض، وأنَّه ليس بِجِرْمٍ ولا جوهر ولا يماثله موجود، وهو رفيع الدرجات، وقريب من الخلق، يحبُّهم ويحبُّونه، وهو رحمن رحيم، باسمه يبتدىء الإنسان حركته، ويستعيذ به من الشيطان الرحيم، ويحمده ويعبده، ويستعين به، ويطلب الهداية منه في كل كلمة من كلماته.

فكَّر الفلاسفة قديماً وحديثاً ولم يصلوا إلى كنه الحقيقة، وضلُّوا طريقهم وأضلُّوا غيرهم، فلم يتفقوا على رأي، ولم يصلوا إلى غاية، واختار الصوفية طريقاً مغايراً، فاستنارات به قلوبهم، وسكنت نفوسهم، وفهموا من كلام الله ما أدْخَلَ السعادة إلى قلوبهم، وكانوا سعداء بمواجيدهم ومجاهداتهم وأحوالهم، ووجدوا في كتاب الله الهداية التي يطلبون والطمأنينة التي يأملون.

ولم يندم أحد ممن اختار القرآن الكريم طريقاً لسعادته، وينبوعاً لمعرفته، وإذا ضلَّ البعض أو انحرف فليس بسبب مااختاروه من هذا الطريق، وإنما بسبب ما انحرفوا به عن كتاب الله، فجعلوه مطيَّة لأفكارهم الخاطئة، وجسراً لشهواتهم وملذَّاتهم الدنيوية.

واختار الشيخ طريق القرآن فعكف على تدبُّر آياته والتزام آدابه، فلم ينحرف عن الطريق، وكان إذا قرأ القرآن بكى وتأثَّر، واستشعر أنَّه أمام ربه، واستغرق في تدبُّره، وابتعد عن التأويل الفاسد والتفسير الخاطىء، والتزم بمعايير الشرع وضوابطه، وحكَّم القرآن في أمره، ولم يحكِّم عقله في القرآن، فأمَّده القرآن بثمرات القراءة النافعة فهماً ومعرفة.

أشْعَرَهُ القرآن بالطمأنينة والسكون، وأغنى فكره بدفء المعرفة التي غذَّاها التأمل في الآيات خلال مدة تأملاته ومجاهداته، فكان فكره مستمدَّاً من القرآن، من آياته المحكمات ومن ومضات إشاراته إلى عظمة الربوبية، وما تَحْمِلُهُ من معاني محبَّةَ الله للخلق المتمثِّلة في رحمته بهم والإحسان إليهم، وهذا يتطلَّب الشكر لله، وشكر الله حال يقتضي نسبة النعمة إلى المنعم، والقيام برعاية حقوق الله، وهذا هو معنى التوحيد والتقديس، فالله هو الأحد والصمد وقيُّوم الأرض والسماء، ولا أحد معه، والكلُّ منه، ومن كمال القدرة الانفراد بالخلق والتدبير، وإذا شعر العبد بنعمة الله عليه فَرِحَ بالمنعم وأحبَّه وتعلَّق به وخضع له وسجد، لكي يكون شكره صادقاً.

كان الشيخ يقول من تمام الشكر لله أن تفرح بالمنعم لا بالنعمة ذاتها، فالنعمة صفة زائلة، أما المنعم فهو خالق النعمة وموجهها، والفرح بالمنعم هو غاية النعمة، وإذا أعطاك الله شيئاً فأنت تحب الله الذي أعطاك وأنعم عليك ولا تتعلَّق بالنعمة ذاتها، أما النعمة فيجب أن توجَّه لخدمة المنعم، فإذا أعطاك الله مالاً أو جاهاً فأنت تشكر المنعم وتفرح بالنعمة وتوجِّه تلك النعم إلى حيث يريد المنعم أن تتوجَّه إليه.

ثقافة القرآن هي الثقافة الأغنى والأعظم، ومن تأمَّل وتدبَّر فسوف يشعر بعظمة معاني القرآن التي تمنحه القوة والمعرفة بالله تعالى، وتجعل فكره مستنيراً بهدي الله.

لم تكن معاني القرآن قاصرة على ما ذكره المفسِّرون من شرح الألفاظ وبيان الدلالات وبيان النكت البلاغية والأوجه النحوية، وإنَّما هي أشمل وأعمق، إنَّه كلام الله المعجز الذي لا حدود لإعجازه في مجال الفهم والتأمل، ومن أراد أن يفهم القرآن فعليه أن يفهمه بقلبه المستنير، بهدف القرب من الله تعالى، فاللذات ليست سواء، فمن الناس من يستلذُّ الطعام والشراب ومنهم من يستلذُّ المعرفة والحكمة، وكلمَّا ارتقى الإنسان ارتقت مستويات لذَّته من اللذَّات الحسيَّة التي تشاركه الحيوانات بها إلى اللذَّات المعنوية التي ينفرد بها الحكماء والعلماء.

ولذَّة الفهم هي أشرف اللذَّات وأعظمها مكاناً، لأنَّ القلب يتغذَّى كما تتغذَّى الأجسام، ويشعر الإنسان بالسمو والعلو ويحلِّق في الفضاء الفسيح الذي لا يحدُّه حد ولا تحيط به الأبصار.

 

المصدر الثاني: السيرة النبوية:

 

ترتبط السيرة النبوية كل الارتباط بالقرآن الكريم، وهي الترجمة الحية لما يدعو إليه القرآن من التعلق بالكمال الإنساني والالتزام بقيم الفضيلة في السلوك الإنساني.

والسيرة هي المدرسة التربوية الأولى التي يتعلم فيها المسلم كيف يكون مسلماً في عقيدته وفي سلوكه وفي معاملاته، والذين يجهلون السيرة يجهلون دروب الإسلام ومسالكه.

وكل الآداب المرتبطة بالعبادات والعادات يتعلمها المسلم من دروس السيرة، فالسيرة ليست مجرد روايات تاريخية تسجِّلُ حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومراحل الدعوة، وإنما هي مسالك تربوية غنية بالقيم والمفاهيم والآداب، فمن جهلها فقد جهل حقيقة الإسلام.

والإنسان في سعيه إلى المعرفة لابدَّ له من هداة يرشدونه إلى طريق الحق والنور ويحذِّرونه من الجهالة والضلالة، ولابد من النبوة الهادية إلى طريق الله ودروب الفضيلة في السلوك، وكان الوحي هو الظاهرة الأولى التي تحقق ذلك التواصل بين الله وأنبيائه، قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري مالكتاب ولا الأيمان} [الشورى: 52].

وزوِّد الله الإنسان برسولين هاديين:

أولهما: العقل، وهو طريق الهداية والنور، وبه يميز بين الصواب والخطأ، ويكتشف النور من الظلام، فهو مزودَّ بالبصر والحواس الأخرى التي تمكِّنه من التمييز الحسي المدرك، والتمييز خطوة أولى نحو المعرفة، والذين لا يميِّزون سرعان ما يضلُّون، ولابدَّ من التمييز لكي يكون الاختيار صحيحاً وسليماً.

ثانيهما: الرسول، وهو الهادي والمعلِّم والمرشد، هو الذي يمسك بالمقود ويقود إلى الفضيلة بأقواله وأفعاله، وعلى كل مسلم أن يقتدي به وأن يطيعه وأن يتبعه.

ولابدَّ من الاستعانة بالعقل في دعوة الرسل الذين يحتكمون إلى العقول ويخاطبونها ويرشدونها، والعقل الذي حافظ على صفائه سرعان ما يستجيب لدعوة الأنبياء والرسل، لأنها دعوة حق، ولا يمكن للعقل الذي زوَّد الله به الإنسان لهدايته أن يضلَّ طريقه إلا إذا حجب عن العقل بما سيطر عليه من غرائز الرغبة الملحة التي تحجب عنه شمس النهار، فلا يبعد ذلك النور، ولا يرى ذلك الضياء بسبب ذلك الضباب المظلم الذي يحجب نور الشمس.

والإنسان العاقل يستفيد من عقله ويجب عليه أن يستفيد من تلك الموهبة التي يدرك بها الأمور الحسية، فهو غريزة يتهيأ بها للإدراك الصحيح لكل المعقولات، والعقل هو المنبع الداخلي للمعارف، والعلم يصقل العقل ويزوده بآلات المعرفة كالعين آلة للرؤية، فهو كالنور الذي خلقه الله للإنسان لكي يمشي به في الأرض فلا يضل طريقه.

وأكرم الله الإنسان بالعقل لكي يمتاز به عن سائر المخلوقات فهم يملكون ما يملك من غرائز وقدرات تعينهم على دفع الأخطار عنهم وتوفير أسباب الحياة لهم، وتمدُّهم بالحواس التي ينظرون بها ويسمعون، ولكنهم لا يملكون قدرة التمييز التي تجعلهم متميزين عن بقية المخلوقات.

 

والإنسان عاقل ويوصف بالعقل سواء استخدم عقله أو لم يستخدمه، لأنه يملك تلك الغريزة الفطرية التي زُوِّدَ بها، ولكن تلك القدرة تميز المحسوسات ولا تدرك ما هو خارج عن نطاقها من شؤون الخلق..

ولابد من النبوة كوسيلة للهداية والإرشاد، فمن الناس من يؤمن بها ويستهدي بهديها وتكون نوراً له يمشي بها في الأرض ومن الناس من تزيدهم رجساً إلى رجسهم ويموتون وهم كافرون.

قال تعالى:

{وإذا ماأنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون  } [التوبة: 124 ـ 125].

وتُجَسِّدُ السيرة النبوية عظمة الهدي القرآني ومقاصده ومناهجه، ولا يمكن فصل القرآن عن السيرة، فالسيرة هي التجسيد الحي لذلك الكمال الذي يدعو إليه القرآن، وهي البيان الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ولذلك ارتبطت دعوة القرآن لطاعة الله بدعوته لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

دَرَسَ الشيخ السيرة النبوية، لا دراسة رواية وتوثيق، وإنما دراسة دراية وتحقيق، وتعلّق بحب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يتَّبعه في كل ما أمر به وما نهى عنه، يفعل ما فعل ويحب ما أحب، ويبغض ما بغض، ويترك ما ترك.

كان يتحدث في مذاكراته عن ذلك الحب والتعلق، ويرى أن الحقيقة المحمدية تمثّل الكمال الخلقي في كل السلوكيات، وكان يحضُّ على الإتِّباع، والإتِّباع هو الأخذ بالسنة والتمسك بدروس السيرة النبوية، كان لا يترك شيئاً أحبه الرسول الكريم وتمسك به وحافظ عليه إلا أخذ به، ولو كان من العادات التي لا تدخل ضمن الأحكام التشريعية.

لم يقل بأن الأحكام المندوبة هي واجبات ولم يقل أن السنن والنوافل هي فرائض، ذلك أمر مفروغ منه، والخلط فيه يؤدي إلى ضلالة ويعبِّر عن جهل بقواعد الدين، ولكنه كان يريد أن يتمسك المسلم بالسنن والنوافل التي تمسك بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بكل ذلك، لأن ما يصدر عن النبي الكريم هو كمال، ولا يجدر بأحد أن يترك ذلك الكمال.

وكان يقول بأنه لا يريد أن يفعل «خلاف الأولى» فالكمال يتجلى بذلك الأولى، وليس بخلافه، فخلاف الأولى هو أخذ بالأقل كمالاً، ويجدر بالعاقل أن لا يترك الكمال ويأخذ ببعضه.

لم يكن يتكلف ذلك، ولو تخلَّى عن هذا المنهج لَشَعَرَ بالتكلّف، والذين يتعشقون الكمال لا يتكلفونه، ولو تكلفوه لكان حبهم للكمال وهماً من الأوهام.

كان يدعو عقب كل صلاة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك واجعل حبك أحبّ إليّ من الماء البارد على الظمأ».

وحب النبي صلى الله عليه وسلم يرتبط بحب الله تعالى، فمن أحب الله أحب كل من يحبه الله، وأحب الخلق إلى الله هو نبيه ورسوله الذي اختاره لكي يحمل الرسالة ويؤدي الأمانة، وهو الذي وصفه الله تعالى بأنه على خلق عظيم، والخُلق العظيم صفة جميلة، والجمال محبوب للنفس تستلزُّه وتأنس به وتتقرب منه وتجاريه في صفات جماله وتقلده في كل مظاهر ذلك الجمال، وليس الجمال قاصراً على الأمور المحسوسة كالجمال المظهري، بل هو شامل لكل ما هو جميل من الأمور المعنوية التي لا تُدرَك بالبصر، وإنما تدرك بالبصيرة الداخلية العميقة التي تدرك بها جماليات الباطن الذي لا يظهر، فجمال الظاهر سرعان ما يزول بتأثير الشيخوخة ومظاهر المرض، أما جمال الباطن فلا يزول أبداً، لأنه ارتبط بالصفات التي تستلزُّها النفوس، وأهمها حسن الخلق، ومن فقد البصر لا يدرك الجمال الظاهري لأنه لا يراه، ومن فقد البصيرة لا يدرك الجمال الباطني لأنه لا يراه أيضاً.

لم يتحدث الشيخ عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ينافي صفة العبدية فيه، وأعظم أوصافه هي تلك الصفة التي خاطبه الله بها {{ع94س71ش1ن1/س71ش1ن44} للإشارة إلى انتقاء أي صفة تخالف ذلك الوصف الذاتي الذي يجب أن يتحقق العبد به.. حتى في مناجاته لربه في لحظات الرجاء، فالعبدية صفة ملازمة للعبد حيثما كان.

فمن أحب الله أحب رسوله، ومن أحب رسول الله اتبعه في كل ما أمر به ونهى عنه، وكان يتلو هذه الآية في كل مجلس {{ع94س3ش13ن1/س3ش13ن111} [آل عمران: 31] وقوله: {{ع94س9ش42ن1/س9ش42ن333} [التوبة: 24] كانت السيرة النبوية هي المصدر الأهم لفكره، ومنها كان يستمد معالم تصوراته وآرائه واختياراته السلوكية والتوجيهية، وكان هذا المصدر واضحاً في أقواله وأفعاله وأحواله، وكانت هذه السيرة هي مرشده وموجهه، وكان يستمد منها المثل الذي يقتدي به.

ومن الكلمات الاصطلاحية التي كان يرددها لفظة «الإتِّباع»، وينصح أصحابه بالاتِّباع، والاتِّباع هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه وحلمه وصبره وشجاعته وزهده، حتى الأمور الشخصية كان يوصي بأن يقتدي به فيها، وكان يقول في تعريفه لمنهجه وطريقته بأنَّ منهجنا هو الاتباع والاقتداء برسول الله الذي يمثل الكمال في شخصيته وخصاله.

 

المصدر الثالث: التعلق الفطري بالكمال:

 

يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بما أُوجد فيه من خصوصيات وأهمها التطلّع للفضائل والتشوّق للكمال والتمسّك بعلو الهمة، وعلو الهمة من مقومات الكمال، فمن علت همته وصحت إرادته وقويت عزيمته أحب الفضائل وتخلق بالخلق الحسن، لا لمنفعة يرتجيها ولا لثروة يحرص على كسبها ولا لشهرة يريد تحقيقها، وإنما يحب الكمال لذات الكمال، ويحب الفضيلة حباً بالفضيلة، ولا يهمه ما يكسبه من ذلك.

وبعض الناس تستهويهم الغرائز الحيوانية فتنصرف هممهم لتحصيلها، من الطعام والكساء والسكن والمال والمرأة، وكلما كبرت الهمة كبرت المطالب وشرفت الغايات، وكلما صغرت الهمة انحطت المطالب وتضاءلت وهزلت.

والإنسان بطبيعته يندفع إلى فعل الفضائل لأسباب ثلاثة:

أولها: الرغبة في الثواب والابتعاد عن العقاب، وهذا مما تدفع إليه الشهوات، وهذا ما يفعله معظم الناس الذين يرغبون في الثواب عند الطاعة، ويخافون من العقاب.

وثانيها: وهو الرغبة في الجاه وحسن السمعة وارتفاع المكانة والمنزلة عند الخلق، وهذا ما يفعله الطامعون في الزعامة والسيادة، فيفعلون الفضيلة لاستجلاب عواطف العامة.

وثالثها: وهو حب الفضائل لذاتها، رغبة في الكمال واستحياءً من الله تعالى، لأن الإنسان الذي يحب الكمال لا يرضيه إلا الكمال، ولا يرضى أن يصدر عنه إلا ما يمثل الكمال، فيفعل الفضائل تعلقاً بها، ولو لم يعلم بأمره أحد، ويتجنب الرذائل ولو لم يطَّلع عليه أحد، وهذا هو الطريق الذي ترجى فضائله وتحمد أفعاله، لأنه يفعل ذلك لا لخوف ولا لرغبة ولا لجاه ولا لزعامة ولا لمحمدة عند الخلق، وإنما لحب الفضائل وتعشُّق الكمالات.

وأهل الكمال من الأنبياء والأولياء والصالحين يفعلون الفضائل لوجه الله تعالى ابتغاء مرضاته، وهذه هي الصفة المحمودة التي يعود الفضل فيها إلى الجود الإلهي ورعاية الله.

وقال بعض العلماء:

ـ مخالطة العلماء تقربك من الله وترغبك في ثوابه وتخوفك من عقابه.

ـ ومخالطة الحكماء تقربك من الحمد وتبعدك عن الذم.

ـ ومخالطة الكبراء تزهدك فيما عدا فضل الله.

كان الشيخ يؤكد في مذاكراته على أهمية الهمم العالية التي تدفع صاحبها إلى عمل الخير حباً في الخير وعمل الفضيلة حباً في الفضيلة، وطاعة الله مرضاة له وتقرباً منه، لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، فمن قام بحق الله عليه إرضاءً لله تعالى ومحبة له كان محباً للكمال، وكان أهلاً لمحبة الله له.

ويندد بأجير السوء الذي لا يفعل الخير إلا عند الرغبة والرهبة، والكمال يتحقق بأحد أمرين:

الأمر الأول: التكوين الفطري الذي يمنُّ الله تعالى به على بعض خلقه، فيجعل بعضهم في موطن القابلية الفطرية للكمال، فيحبون الكمال ويكرهون ما ينافي الكمال، يحبون الصدق ويكرهون الكذب، يحبون الأمانة ويكرهون الخيانة، يحبون الاستقامة ويكرهون الانحراف.

الأمر الثاني: التربية والتكوين والتخلق والصحبة الحسنة واتباع الصادقين فمن اعتاد الكذب يحمل نفسه على الصدق إلى أن يصبح الصدق من خصاله ومن اعتاد الجبن يحمل نفسه على الشجاعة إلى أن تصبح الشجاعة خلقاً له، وهكذا بالنسبة لكل الفضائل، ولهذا كانت التربية ضرورية لتغيير الطبائع الشاذة والمستقبحة لكي تصبح طبائع استقامة وأمانة وشجاعة.

ومن اعتاد على الكمال أحبه وتعشقه وتمسك به، ومثله في ذلك كمثل من يعتاد النظافة فلا يحتمل القذارة أبداً، لأنه اعتاد الكمال، ومثله كمن يعتاد الطعام اللذيذ فلا يستعذب غيره ولا يطيقه.

فالصادق لا يستطيع أن يكذب ولو حمل على الكذب وأجبر عليه، والأمين لا يستطيع الخيانة ولا يحتملها ولو أجبر عليها، والنظيف لا يحتمل القذارة ولو فرضت عليه، فلا يطيقها ولو ساعة من نهار.. وهؤلاء لا يفعلون هذه الفضائل طمعاً في أجر أو خوفاً من عقوبة، ولكن يفعلون ذلك تمسكاً بفضيلة الكمال.

كان الشيخ يضيق صدره بمن يفعل الخير لأجل الثواب فقط، كان يريد أن يأخذ الناس بالفضائل لأنها فضائل محبوبة لذاتها، ومرغوبة لكمالها.

وكان يردد بيتين من الشعر:

ومنذ كنت طفلاً فالمعالي تطلبّيوتأنف نفسي كل ما هو واضعولي همة كانت وهاهي لم تزلعلى أن لي فوق الطباق صوامعولم تكن المعالي التي يقصدها ما اعتاد الناس أن يعتبرها من المعاني الدنيوية المتمثلة في طلب المال والجاه العريض، وإنما هي معالي الفضائل وحب الكمالات، وأهمها التزام حسن الخلق الذي يعتبر الكمال الأسمى، ولا كمال يجاريه في مكانته، فحسن الخلق من الصدق والأمانة والوفاء بالوعود والسخاء والحلم هي المعالي الحقيقية التي تشعر صاحبها بالسمو والتفوق والتميز.

والاستقامة هي رأس الفضائل، وقد أمر الله تعالى بها في قوله {{ع94س11ش211ن1/س11ش211ن33} [هود: 112]، وأهل الاستقامة هم أهل المعالي، فلا شيء يشعر الإنسان بالعلو كالاستقامة، ولذلك يدعو العبد الله تعالى أن يهديه إلى الطريق المستقيم، ولا حدود للاستقامة، فالاستقامة قمة يتطلع إليها العبد ويحرص على الصعود إليها، إلى أن يبلغ قمتها أو ما يقرب من القمة.

وأهم العوالم التي تهدي صاحبها إلى الاستقامة أن يتعلم العبد الفضائل من عيوب غيره، فإذا وجد عيباً في الآخر تجنبه، لأنه مناف للكمال، فما يصدر عن غيرك وتراه قبيحاً منه فهو قبيح إذا صدر عنك، ولذلك فإن العاقل يتعلم الكمال من عيوب غيره، وهذا شأن العلماء والحكماء.

والإنسان بفطرته يحب الكمال ويتعشقه ويتعلق به ويتمنى أن يفعله لأن الكمال مطلوب ومحمود، ويتمثل الكمال في كمال الفطرة التي خلق الله الناس عليها، والفطرة بيضاء نقية، تحب الكمال ولا تميل إلى النقص، إلا إذا اعتادت على ذلك وحادت عن أصل الفطرة قال تعالى: {{ع94س03ش03ن5/س03ش03ن88)ع94س03ش03ن9/س03ش03ن001} [الروم: 30] وقوله: {{ع94س2ش831ن1/س2ش831ن222ع94س2ش831ن3/س2ش831ن444ع94س2ش831ن5/س2ش831ن77} [البقرة: 138].

والقرآن الكريم بآياته المحكمات الهاديات يعلِّم المسلم معنى الفضيلة والكمال، ويدعوه للتمسك بهما، والقرآن كينابيع الماء العذب التي تسقى القلوب لإحياء مواتها، وإخراج ثمراتها، فكلما جفَّت القلوب جاء الهدي القرآني ليسقي تلك الأرض ويعيد إليها النضارة والحياة والخضرة والجمال، والذين ابتعدوا عن القرآن واعرضوا عنه جفّت ينابيعهم وقست قلوبهم، فحادوا عن التطلع للكمال، واكتفوا بعوائد الغفلة ومخلفاتها، من البحث عن الملذات في الشهوات الدنيوية التي تميت القلوب وتجعلها أكثر قسوة، لا تلين لكلمة الحق ولا تنصت لدعوة القلوب إلى التطلع إلى الكمال.

ولا شيء كالكمال يسعد النفوس، فما تسعى إليه النفوس هو كمالها الفطري، وما تشتاق إليه تلك النفوس هو شعورها بذلك الكمال، وكما تبحث كل الكائنات عن كمالها الفطري فإن الإنسان يبحث عن كماله، فالنبات يبحث عن كماله في النمو ويشتاق لأسباب ذلك الكمال وهو الماء، فإذا سقت الماء التربة الخصبة امتدت الأغصان باحثة عن كمالها في فضائها، حتى إذا حققت ذلك الكمال أعطت ثمارها المرجوة منها.

قال تعالى: {{ع94س9ش421ن1/س9ش521ن221} [التوبة: 124 ـ 125].

ويتحقق الكمال برسول داخلي يعمقه ويدفع إليه وهو العقل، وبرسول خارجي يصححه ويغذيه وهم الرسل الذين اختارهم الله لحمل الرسالة ودعوة الناس إلى الكمال الخلقي، فالعقل يهدي بنوره الذي يتمكن به الإنسان من التمييز، وبغير نور السراج لا يتوهج الظلام ولا تبين معالم الدروب، والرسول يعلم ويغذي ويهدي إلى طريق الله وهو طريق الاستقامة «فاستقم كما أمرت» والاستقامة على أمر الله، ولا استقامة خارج هذا الأمر، فالله لا يأمر بأمر إلا إذا كان فيه الصلاح والمصلحة والرشاد، ولا ينهى عن أمر إلا إذا كان فيه الصلاح والمصلحة والرشاد، ولا ينهى عن أمر إلا إذا كانت فيه المفسدة والمضرّة والهلاك.

ولا شيء يسيء للفضيلة والتطلع للكمال كاستكبار النفوس المعبر عن غفلة القلوب وقسوتها، فالاستكبار دليل جهل وغفلة، والجاهلون لا تخشع قلوبهم ولا تسجد للرحمن، ويدفعهم جهلهم إلى التكبر على الناس وينسوا عبوديتهم لله تعالى الذي خلقهم من تراب ومن نطفة أمشاج فإذا هو بعد ذلك خصيم مبين، يتعالى برأسه ويستكبر في الأرض بغير الحق ويمشي مرحاً ولا يدري أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً.

تلك هي الغفلة الكبرى التي تنتاب القلوب، فتبعدها عن كمالها الفطري وعما خلقت به من صبغة الله تعالى التي جعلها في موطن الاستقامة، تجد سعادتها في عمل الصالحات التي تخدم عيال الله في الكون وتسعى لإسعادهم.

لا أنانية بغيضة كأنانية المعرضين عن الله الذين تُزيُّن له نزواتهم وعقولهم المحجوبة عن ربهم سوء عملهم فيرون ذلك حسناً وجميلاً، ويجدون كمالهم فيه، وسرعان ما يكتشفون حقيقة أمرهم فلا يجدون سبيلاً لإصلاح ما أفسدوه وبناء ما هدموه، وذلك هو الخسران المبين.

كان الشيخ رحمه الله يتحدث عن الكمال في مجالسه ويدعو إليه، ويندد بالذين لا يشعرون بكمال الكمال ولا بجمال الكمال ولا بحلاوة ذلك الكمال، فالكمال له وجمال وحلاوة، فمن رأى جماله وذاق حلاوته أحبه وتعلّق به.

لقد خسر الفلاسفة وتاه الحكماء وهم يبحثون عن الكمال من خلال نظريات سطحية وتعريفات لفظية وقوالب فلسفية وكلامية يحكمها الجدل والنظر العقلي المجرد، ولو بحثوا عن الكمال في حقيقة ذاتهم ومرآة قلوبهم لأضاءت أنواره ظلمات نفوسهم، وأنارت مشاعله ليالي حيرتهم، فشعروا بدفء الكمال وهو يطارد ذلك الصقيع الذي يشعر أجسادهم برعشة التيه والضياع.

والكمال بحر متلاطم الأمواج عميق الأغوار ماؤه عذب، فمن شرب منه فسرعان ما يعتاد عليه ويستلذه وينهل منه ما يحتاج إليه في نهاره وليله من عميق الأفكار ورفيع القيم.

( الزيارات : 864 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *