المنعطف الاهم فى تاريخ التصوف الاسلامى..

كلمات مضيئة..المنعطف الاهم فى تاريخ التصوف.

ظلت الظاهرة الصوفية قليلة التأثير فى حياة مجتمعها , كانت المجالس العلمية العقدية والكلامية والفلسفية والفقهية هي الاقوى شيوعا والاكثر اهتماما , كانت المناظرات العلمية هي ما يشغل اهتمام الناس وازدهرت وكثرت مجالسها , كان الفكر الاعتزالى يشغل الاهتمام , وكثرت الفرق وتعددت وتباعدت , كانت الحياة السياسية مضطربة , كانت الدولة العباسية فى حالة تفكك ولم تكن قادرة على منع قيام  كيانات تعبر عن ضعف الدولة , كان الفكر الاعتزالى هو الاقوى فى الساحة العلمية  , وكان الفقهاء قد عكفوا على التدوين الفقهي شرحا لما كتبه الاولون او اختصارا او نظما او تعليقا , كان التقليد قد تمكن وترسخ فى التعليم والتفكير , قلة من اهل الورع والتقوى اعتزلوا مجتمعهم واصبحوا رموزا صافية ونقية ولم يشغلهم ما انشغل الناس فيه من منافسات ومغالبات ومناظرات يراد بها التميز والانتصار على المخالفين , وفى ظل هذا الواقع كثر الطمع واستفحل الظلم واصبح القضاء بيد الطامحين كشان كل الولايات السلطانية , احيانا كان المجتمع يفرح بكلمة حق ناصحة يقولها رجل صالح , كان الترف متمكنا من مجتمع النخبة الحاكمة فى ظل غياب لكل المسضعفين والمنسيين والمحرومين , ضعف الضمير الديني والوازع الاخلاقى , لم يعد للعلماء دور فى مجتمعهم فقد كانوا مطايا للحكام الذين كانوا يتصارعون ويتغالبون على الحكم ويتنا فسون فى ظلم المستضعفين من رعاياهم , فى هذا العصر ظهر ابو حامد الغزالى وانتشر امره واتسع ذكره واصبح احد الذين اتجهت الانظار اليهم , واصبح حديث لمجالس العلمية بقوة حجته وسداد رأيه , واختير لكي يكون احد ابرز علماء المدرسة النظامية فى بغداد وكان مجلسه يحضره كبار العلماء , وفجاة وعلى غير توقع تو قف كل شيء , وصف الغزالى حاله فى كتابه المنقذ من الضلال , تحدث عن احواله ,  اصيب بحالة نفسية ولم يعد قادرا على الكلام , كان يغالب نفسه فلا يستطيع , امسك عن الكلام وعجز عن متابعة ماكان يقوم به , اخذ يستعيد ماكان قد تعلمه من قبل , ما كتبه الامام الغزالى عن حالته كان مثيرا للتامل , عقلة اللسان امسكت به ولم يعد قادرا على التدريس ولا على متابعة مجالس العلم التى اعتاد عليها , كان يسأل نفسه عما كان يفعل فى محاسبة صادقة,  وكان يقول لما ذا كان يفعل كل ذلك  , هناك تحولات كبيرة فى حياة مثل هؤلاء , لا احد يمكنه ان يفهم اسبابها , احيانا تدرك عوارضها الظاهرة وتجهل حقيقتها ولماذا كانت , كان الغزالى يسأل نفسه فى حالة من التأمل عن اليقين العقلى فلا يجده , اين اليقين .. كان يقول هناك ما كنت اراه صوابا بمنطق اليقين ثم اكتشفت مع الايام انه ليس صوابا فما الذى يؤكد لى ان ما اراه اليوم يمكننى ان اكتشف خطأه  بعد حين,  فاين اليقين , وصل الغزالى الى مرحلة الشك فى الحسيات والعقليات معا وكان يبحث عن يقين لا شك فيه , كتب الغزالى كتابه المشهور المنقذ من الضلال ووصف  فيه رحلته من الشك الى اليقين , وعكف الغزالى على نقد الفلسفة وكتب كتابه تهافت الفلاسفة , لم يعد يثق بالعقليات واخذ يشكك في كل ما اعتمد عليه الفلاسفة من الادلة , واخذ يبحث من جديد عن الحقيقة التى لا مجال للشك فيها , العقول محكومة بالحواس والحواس متفاوتة ولهذا كانت المدركات متناقضة , كانت رحلة الامام الغزالى من الشك  الى اليقين قاسية وكان الطريق اليها غير ميسر لمن يريد السير فيه , كل المذاهب والطوائف والافكار كانت تحت المجهر فى رحلة التامل والمحاسة والمراجعة , كان يريد الفجر والضياء والنور , هرب الغزالى من مجتمعه الى مجتمع لا شهرة له فيه , فى دمشق اقام عدة سنوات فى  مسجد دمشق  لا يعرفه احد , كان فى حالة تامل , واخيرا وجد اليقين فى التصوف كما قال عنه ووصف هذه الطائفة من الناس وصفا مختلفا عما كان يعتقده معظم الناس فيهم , كتب كتابه احياء علوم الدين فى اربعة اجزاء تحدث فيه  عن علوم الدين كما سماه احياء علوم الدين , هل كانت علوم الدين فى عصره فى محنة وعزلة وتراجع لكي يستخدم كلمة احياء علوم الدين ,  وكانه بذلك كان ينكر على علماء عصره ماكانوا فيه من اهتمام بظاهر الاحكام وانشغلوا بالعلم عن العمل به واصبحت المناظرات العلمية بعيدة عن اخلاقية العلم , لم تكن الغاية منها البحث عن الحق وانما كانت وسيلة للوصول الى الدنيا والشهرة والجاه الاجتماعى والمناصب العليا, كان التنافس على اشده بين العلماء لا لنصرة الحق ولكن للتغلب على الخصوم بالمنطق العقلى والحجة الظاهرة , كتب الاحياء واهتم فى النصف الاول عن العبادات والاحكام الظاهرة كما يراها الفقهاء وفقا لضوابطها الفقهية , اما الجزء الثالث والرابع فخصصه للبحث عن الباطن كما سماه ولم يكن يريد به علم المكاشفة التى قال عنه انه لم يؤذن للعلماء بالبحث فيه ولكن من انكره فيخشى عليه من سوء الخاتمة , واراد بالباطن هو ما ارتبط بالاوصاف المحمودة التى موطنها القلب كالصدق والاخلاص والشكر والزهد والتواضع وعدم التعلق بالدنيا  والتخلى عن الاوصاف المذمومة كالطمع والحقد والغيبة والحسد والتكبر والغرور ,  وهذه الاوصاف موطنها القلب وليس النفس , فالنفس هي موطن الغرائز ,  اما القلب فهو موطن الفهم وهو المخاطب والمعاقب والمقرب من الله والمحجوب عن الله , وخصص الفصل الاول من الجزء التالث من الاحياء للحديث عن القلب وخواصه وامراضه والعوارض التى تتحكم فيه , كان هذا الفصل من كتابه من اروع ما كتبه الامام الغزالى , حظى كتاب الاحياء باهمية كبيرة فى عصره وفي العصور التى بعده , وكان من اروع كتب التصوف الاسلامى الاصيل الذى لا انحراف فيه ولا شطحات , كان عصر الغزالى هم المنعطف الاهم الذى تراجعت فيه المذاهب الباطنية والمذاهب الكلامية التى كانت تعتمد على العقل وترفع من شأنه , كان الغزالى صاحب رؤية سديدة وفهم عميق لمعنى القيم الروحية والدراسات النفسية والمجاهدات والرياضات الروحية , بعد عصر الغزالى استطاعت الصوفية ان ترسخ اقدامها فى المجتمعات الاسلامية ولكنها مع الاسف لم تلتزم بالمنهجية الغزالية العلمية والتربوية , كثرت الرموز الصوفية واصبحت اكثر قوة ورسوخا وازدهرت الطرقية فيما بعد , وظهرت اراء لم تكن من قبل  انحرفت عن منهجية الاسلام الصحيح وكثرت الشطحات , وانتسب الى الصوفية من ليس من اهلها , وانحرفت بعض المفاهيم عن اصول التصوف الحق الملتزم الى صوفيات تأثرت بمجتمعها واعرافه واهوائه  وكثرت الطقوس التى لا دلالة لها على التقى والورع والاستقامة , وتأ ثر البعض بمجتمعه جهلا وتخلفا ولم يعد التصوف صافيا كما اراده شيوخه الاوائل , واصبحت الحاجة ماسة الى تصحيح لما انحرف وتسديد لما ابتعد عن مقاصد التربية الروحية , تصوف اليوم لم يعد كما كان من قبل ,  جيل الاتباع لم يعد كما كان فى عهد الصالحين الاتقياء من شيوخ التصوف , كان التصوف وسيلة لكي يكون المسلم اكثر خلقا وادبا وحكمة واستقامة ولم يعد الامر كما كان , اصبخ التغالب فيه والتنافس على الدنيا والجاه الاجتماعى , شجرته لم تعد تثمر كما كانت من قبل ..ستظل التربية الروحية منهجا اصيلا وضروريا للعناية بالشخصية الانسانية و ومهمة الاجيال ان تحسن اختيار ما تتوارثه وتحسن التفريق ما بين الاصيل من التصوف الحق والدخيل عليه مما لا حاجة لمجتمعنا اليه , ما لا يتفق مع ثوابت الدين واصوله واخلاقياته ومناهجه فلا ينسب الى الدين ومالا ينهض بالانسان خلقا وادبا واستقامة ومحبة للخير فلا حاجة اليه …  

( الزيارات : 774 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *