اهتمام السيد النبهان بتكوين الاسرة

اهتمام الشيخ بالأسرة:

واخترت الحديث عن الأسر وليس عن الأفراد، لأن علاقة الشيخ لم تكن خاصة بفرد واحد من الأسرة، بل كانت علاقة بالأسرة بأكلمها، من رجالها ونسائها وأبنائها وأحفادها، وهذا ما جعل العلاقة أكثر متانة ووثوقاً، فالتربية غايتها تخليق العادات والسلوكيات لكي تكون أكثر سمواً واستقامة، والتزاماً بقيم السلوك السليم، وهذا مما كان يؤدّي إلى أن انعكاس أثر هذه التربية على سلوك الأسرة كلها، لكي تكون العلاقات بين أفرادها أكثر تماسكاً ومتانة.

كان الشيخ يدعو إخوانه لكي يكونوا قدوة لغيرهم، وان يقدموا أنفسهم للآخرين بسلوكهم، والآخر الأقرب هو الزوج والزوجة والأولاد والآباء والأخوات، فإذا التزم أحدهم بمنهج الشيخ وأخذ بآداب السلوك فسرعان ما ينعكس ذلك على من حوله، فيحاكونه فيما أخذ نفسه به، ومشوا في نفس الطريق الذي سار فيه.

أحياناً يبتدىء الأمر بالابن وسرعان ما يلحق به الأب والأم، وأحياناً يبتدىء الأمر بالزوج فتلحق به الزوجة، وأحياناً يبتدىء الأمر بالأم فيلحق بها أولادها، ولا يلحق الآخر بمن سبقه إلا أن يجد فيه الصدق والاستقامة والتقوى وحسن الخلق.

وأكثر ما كان يلفت انتباهي أن أجد أماً عرفت الطريق وسارت فيه، وأخذت تبذل كل جهدها لاستمالة أبنائها إلى هذا المنهج، وتقنعهم بكل الحنان والعطف لكي يسيروا معها، وتأتي بهم إلى مجالس الشيخ وقلبها واجف خائف يتضرع إلى الله تعالى بكل صدق الأمهات أن يشرح الله قلوبهم لمحبته وطاعته، وأحياناً كنت أجد شاباً لم يبلغ سن العشرين بعد أشرق النور في قلبه فأثمر هداية وطاعة يمسك بيد أبيه والدمعة في عينيه يأتي به إلى مجلس الشيخ، ويرفع رأسه إلى السماء داعياً الله تعالى بكل براءة وصدق أن يذيق والده حلاوة الإيمان وسكون اليقين، وأحياناً كنت أسمع قصة فتاة في مقتبل العمر، هجرت حياة المتعة والتبرج والسفور وشعرت بلذة الأنس الذي تطمئن به القلوب الراضية بقضاء الله.

واكتفي بهذا المقدار من التعريف بهذه الأسر التي تربت على حب الشيخ، سواء أكانوا من الرجال أو النساء، كما تربى الأطفال منذ نعومة أظفارهم على عشق رمز وجدوا فيه الكمال والاستقامة والفضيلة حيث رضعوا هذا الحب، واختاروا هذا المنهج، ورحل الشيخ وبقيت الذكريات حية في النفوس ناطقة في كل موقف، تحدثهم وتوحي إليهم بما يسعدهم من أحاسيس ومشاعر سامية إذ أحبهم لله وأحبوه لله.. فما أحبهم لشيء وما أحبوه لغاية.. فلم يكن بحاجة إليهم ولم يكونوا بحاجة إليه… هذا هو الحب لله.. هذه هي النزاهة التي يمكن أن تولد الحب الحقيقي وقد رحل الشيخ ورحل معظم إخوانه، وبقيت ذكريات حلوه.. من الوفاء… لهذه المسيرة النورانية والسلوك الإنساني.

ونحن عندما نسجل أسماء هذه الأسر وأسماء أولئك الرجال فهذا حق من حقوقهم، لأنهم جزء من تاريخ هذه المدرسة الفكرية العريقة التي أسهموا في بناء صرحها، إنَّهم تراث نفيس يجب أن نحافظ عليه، ومن حق أبنائهم وأحفادهم أن يقرأوا هذا السجل المشرق من الذكريات لذلك الجيل الذي بني وأعلى البناء وشاد هذا الصرح الكبير.

في كل زاوية من زوايا هذه المؤسسة القائمة اليوم باعمدتها توجد قصة جهاد وتضحية ما زلت أرى ملامح أولئك النفر الطيب من أنبل الرجال تتحرك أرواحهم كما كانت تتحرك أجسادهم، أسمع همس كلماتهم وهم يتكلمون، وأرى العرق يتصبب من جباههم وهم يبنون وأشم روائح الطيب وهي تعطر ذلك الفضاء الرحب من المكان الذي شهد أروع المواقف وأجمل الأيام.

أراهم وأنا أكتب.. فأصف وأرى، وأسجل تلك الذكريات وتنهمر من عيوني دموع سخية تعبر عن التأثُّر العميق، والانفعال الصادق وأشعر بالدفء يسري في كياني، وأظن نفسي في حلم جميل، لم يكن وهماً ما أرى، ولم يكن حلماً من أحلام الليل… إنه جزء من ذاتيتنا وكياننا، إنه الأمس بكل دقائقه، الذي اشعل في قلوبنا تلك المشاعل المضيئة، من الأحاسيس والعواطف. وحرك في ذواتنا أروع وأجمل الذكريات التي لا تمحى أبداً.

وقد سطرت هنا بعض ملامحها لكيلا تنسى، فالتاريخ الذي لا تسجل أحداثه سرعان ما يموت كما تموت الأجساد، ويفنى كما تفنى الأبدان، والأمة التي لا تاريخ لها تشعر بالصقيع المرعب الذي تولده ليالي الشتاء الباردة، وتبحث عن الدفء في الأساطير التاريخية التي تحفظها الأجيال وترددها على مسامع الأطفال، لكي يشعروا بالأمن النفسي قبل أن تأخذهم سنة من النوم العميق، وها أنذا أكتب ذلك إلى أحفادنا الذين لم يولدوا بعد، فجيلنا ما زال يحفظ بقايا من الذكريات، أما أولئك فسوف يبحثون عن تاريخ أجدادهم، ولأنه تاريخهم وهو منهم وإليهم، حتى يظل التواصل قائماً، ولكي لا تنطفىء الشعلة المضاءة، فزيتها يتجدد في كل يوم بما نضيفه في كل صباح إلى مخزونها من مشاعر الاعتزاز.

كنت أتأثر كل التأثر عندما كنت أزور ضريح الشيخ وأطوف في ذلك الفضاء المفعم بأريج من المشاعر والعواطف الدافئة، وأرى شباباً لم أرهم من قبل، يطوقونني ويحيطون بي وأتساءل عن سر ذلك، إنني أراهم قريبين مني ويرونني كذلك، إنهم لا يحيطون بي كشخص وإنما كرمز، إنهم يجدون ذاتهم وكيانهم، ويبحثون عن ملامح آبائهم وأجدادهم، إنهم على حق فيما يحسون به، ولولا ذلك الدفء لما جاءوا، إنه الإنسان في تكوينه كما أراده الله، يبحث عن كماله الذاتي في حركته، وأعظم كمال هو كمال الإحساس بالذات، إنه الوهج الصادق الذي يأتي من بعيد، يشعرك بالدفء الصادق وينير في قلبك القناديل المضيئة بعبق التاريخ روعة السنين.

أحس بذاتي بكل ما يحسون به، واشعر بكل ما يشعرون، والتمس لهم العذر، وأشد على أيديهم، إنني أعطيهم هذا الشعور وهم يعطونني ذلك.. شعور متبادل، يحدثونني عن تاريخي وحياتي كما سمعوها في طفولتهم وأحدثهم عن تاريخهم كما رأيته وعشته وشاهدته فعلاً إنه عناق دافىء جميل.

تهيبت في البداية أن أكتب عن إخوان الشيخ، خفت أن تخونني الذاكرة بعد نصف قرن من الزمن، عشت بعيداً بجسدي عن تلك الأسرة الممتدة الواسعة، كيف يمكنني أن أذكر الأسماء والوقائع والأحداث، بل كيف أستطيع أن أرسم صور المجالس وأكسو ملامح الوجوه بما كان يلونها ويمنحها الحياة وينطقها بما كان يختلج في أحشائها وفجأة أحسست أن كل ذلك قد استيقظ كالمارد في كياني، يحدثني ويومىء إلي، بأنه حي تسري في شرايينه دماء الحياة.

لقد رأيت الملامح كما كانت ما زالت بشرتها لم تتغضن، وكأنها لم ترحل من عالم الشهود إلى عالم الغيب، حقاً ما زال صوتها كما كان، يدوي في المسامع، وكأنه لم تخرسه رعشات الفناء، وما زالت أحداقها مفتوحة تقدح بالوهج والضوء وكأن الموت لم يوقف بريقها.

عاد كل شيء كما كان بالأمس البعيد.. شخوص وليست أشباحاً، أحياء وليسوا أمواتاً يتحركون في فضاء الشيخ الذي يتوسط جمعهم، بابتسامته الأبوية الحنونة التي لم تتوقف يوماً، يدعوهم إلى الله، ويحضهم على أن تصفو قلوبهم من الأكدار، وتتزكى نفوسهم من التطلع إلى الآثام، وأن يترفعوا عن التعلق بأعراض الدنيا الزائلة، وان يحب بعضهم البعض الآخر، وأن يتعاهدوا على رعاية حقوق الله في حياتهم الخاصة والعامة، وأن يتسامحوا ويتحابوا وأن يكونوا إخواناً تشرق في قلوبهم ومضات الخير والفضيلة، وأن يلتزموا بالاستقامة في معاملاتهم، ويكونوا بررة لآبائهم محسنين لأسرهم رحماء بأطفالهم وبكل المستضعفين في الأرض، وأن يحتكموا إلى الله ورسوله فيما شجر بينهم من خلاف، وأن يشعروا برقابة الله عليهم في كل عمل من أعمالهم، ما ظهر منه وما بطن.

في كل صباح نداء موجه، ودعوة مفتوحة، لا لحفلة طرب وسماع، ولا لقضاء إجازة بجوار غابة خضراء، ولا للاستمتاع بمائدة شهية، ولا للانغماس في الدنيا لتحقيق ربح مادي، وإنما للمشاركة في عمل يرضي الله ورسوله ويخدم مصالح للمسلمين، فمسجد يبنى بسواعد قوية لكي يكون منارة للدين تقام به شعائر الإسلام وتؤدى فيه الصلوات وتعقد فيه مجالس الذكر، ومدرسة تشاد على التقوى لكي تكون مركز إشعاع ثقافي وعلمي لتكوين قيادات فكر ورواد معرفة، تؤدي رسالتها في توعية الأمة والنهوض بأمرها، وجمعية خيرية تطوف أحياء الفقراء والمستضعفين التي تضم رفات البؤساء واليتامى والأرامل الذي أنهك الجوع أجسادهم، لكي تمسح عن عيونهم دموع القهر والإذلال، ومؤسسات تأهيلية ذات طبيعة اجتماعية لإعداد الأسر الفقيرة لحياة تحفظ كرامتهم وتعينهم على تحمل أعباء الحياة، ومعاهد تربوية لتكوين أطفال الغد الذين يشرق الأمل في ملامحهم، وصروح تضاء مصابيحها ليلاً للتغلب على ظلمة ما يجري في فضائها من سلوكيات الغفلة واللهو، فتنقلب بين عشية وضحاها إلى صروح هداية ونور، يرفع فيها اسم الله، وتصبح محجاً للمصلين القانتين العابدين، ومسيرات مستمرة في كل مكان تنادي بمراعاة حقوق الله، والالتزام بآداب الشريعة في العبادات والمعاملات والسلوكيات والمناهج التربوية والمظاهر الاجتماعية.

ذلك هو برنامج الشيخ اليومي الذي يسهر على الالتزام به، لا يشغله عنه شاغل، ولا تنسيه إياه ابتلاءات متجددة ومتواصلة تريد أن تصده عن هذا الطريق، ويتحول من مكان إلى آخر، ويمسك بيده غرسات الخير يزرعها بنفسه وجهده كل أرض ينتقل إليها، فتنبت وتورق وتزهر، وتطوق مسيرته أشجار النخيل المثمرة، وتظلله أغصانها التي سقاها ورعاها فكانت له وفية وبه حفية.

( الزيارات : 914 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *