تأملات مغربية

ذاكرة الايام..تأملات مغربية

مازلت اذكر الايام الايام الاولى التى اعقبت وصولى الى المغرب عام 1977 , قبل اكثر من اثنين و اربعين عاما من الان , لم اتوقع قط اننى ساتجاوز تلاث سنين كحد اعلى , وتوقع بعض اصدقائي اننى لن اكمل السنة الواحدة , كنت ادرك ان مهمتى شاقة , واننى سأواجه صعوبات كثيرة , وبخاصة اننى لم اكن اعرف احدا فى المغرب ولا اعرف اي شيء عن المغرب , عندما كنت فى الطائرة فى طريقى الى المغرب كنت شاردا اتامل , كيف يمكن لى ان اتخطى كل هذه الصعاب , قال لى احد الاصدقاء , لو انتقل الانسان من مدينة الى مدينة اخرى لوجد من يقاومه ويعتبره غريبا وبعيدا , عندما اختارنى الملك الحسن الثانى رحمه الله شعرت بفرحة لحسن ثقته بي  , كان الانتقال من الكويت الى المغرب امرا يحتاج الى قرار شجاع , لم افكر فى الصعوبات , كانت لى ثقة كبيرة فى الملك ولولاه لما كانت الرحلة ممكنة , وكنت خلال ثلاث سنوات من المشاركة فى الدروس الحسنية اكتشف كل سنة جانبا من شخصية الملك , كان عالما متمكنا ويملك قدرات شخصية من الذكاء والدهاء والبصيرة وحسن الفهم والحكمة , كان فى غاية الادب وحسن الملاطفة ولا حدود لقدراته فى التواصل الانسانى  , كان رائعا فى كلماته التشجيعية وحرارة عواطفه , كان طموحا بغير حدود ويريد الخير لبلده , كان قوي الايمان بالله معتزا بالاسلام غيورا على العربية  , عندما وصلت الرباط شعرت بالوحدة والغربة , وتساءلت هل انا على حق فيما اقدمت عليه , عندما استقبلنى الملك بحضور كبار مساعديه من الوزراء زال عنى كل ما كنت اشعر به , كان فى غاية النبل والادب والرقي , وكان افضل مما توقعت فى كل المواقف  , كان رائعا فى كلماته المشجعة وترحيبه واهتمامه , سمعت منه ما اثلج صدرى من الامال , وسمع منى ما كنت افكر فيه من طموحات قد تتجاوز الحدود  , كان سعيدا بما سمع , كنت اتوقع ان الطريق سيكون معبدا , ولما انتهي اللقاء كنت سعيدا ومتفائلا , قال لى وهو يودعنى : مهمتك ستكون شاقة ولكننى اثق بك وسوف تنجح , وابتدات الرحلة , وكانت اشق مما توقعت , كانت الحواجز والعقبات كثيرة , بعد عام واحد اغلقت جميع الطرق والمنافذ , وتوقعت ان الرحلة قد انتهت , واكتشفت فيما بعد انها لم تبدا بعد, كانت المواجهات شديدة والعواصف متلاحقة لا تهدا , شيء ما فى داخلى اكتشفته ولم اكن اعرفه من قبل , الرغبة فى التحدى ومواصلة الرحلة , لا بد من الصمود , كل من حولى كان يشفق علي , شيء فى داخلنا يستيقظ ويمدنا بالقوة , انه الوقود الداخلى , انه الايمان , كان الملك رائعا فى كل المواقف , كان معى بغير حدود , مازلت اتساءل لما ذا كان معى , لما ذا كان يثق بي , عندما القيت درسى الرابع فى الدروس الحسنية تكلمت عن الازمة وقلت ما كنت اريد قوله , تجاوزت كل الحدود وكنت اظن انها الامانة والنهاية  , كان الملك كعادته رائعا , مع اننى تجاوزت , مازلت اتساءل عن السر , عندما اشتدت الازمة رأيت عشرات من اعلام المغرب ورجاله يقفون الى جانبي مؤيدين ومؤازرين , معظمهم لا اعرفهم ولا مصلحة لهم , كلهم اصحاب مكانة فى مجتمعهم , ما اروع ذلك الشعور الذى انتابنى وانا اتابع مواقف رجال كبار تحركت قلوبهم فكانوا لى مساندين ومؤيدين , من علماء وشخصيات ذات مسؤولية كبيرة , معظمهم لا اعرفه من قبل  , ما زلت اذكر هؤلاء الرجال وادعو الله لهم وهم فى رحاب الله , عندما يريد الله شيئا يحرك القلوب له , اسعدنى هذا الشعور واكتشفت الكثير من اصالة المغرب وخصال اهله , نسيت نفسي وانستنى عواطف المحبين كل مشاق الرحلة , ومرت السنوات سريعة , لم تتوقف الرحلة بعد ثلاث سنوات , استمرت الرحلة فى ادارة دار الحديث الحسنية قرابة ربع قرن من الزمن , ما توقفت العواصف ولكنها اصبحت معتادة , مما كان يسعدنى اننى انجزت بعض ما كنت اتمناه , ما كنت اتمناه لم يتحقق كما كنت اريد , لولا العواصف الشديدة لكان بالامكان ان يتحقق الكثير , ادركت فيما بعد ان  الحياة لاتستقيم بما يطمح فيه الطامحون , هناك سرعة لا يمكن تجاوزها , الطريق لك ولغيرك , عندما تسرع فسوف تجد امامك من يوقفك لئلا تتخطاه , اهم ما فى الذاكرة ان صاحبها يختزن فيها الكثير من اسرار الرحلة , ليس كل ما فى الذاكرة يمكنه ان يقال او يسجل فى سجلات التاريخ , الذاكرة مستودع كبير , هناك القليل مما يذكر وهناك الكثير مما يظل حبيس الظلام

( الزيارات : 710 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *