تشجيع السيد النبهان للعلم

حرص الشيخ على التكوين العلمي لإخوانه:

لا شيء يندد به الشيخ في مجالسه كالجهل، كانت كلمة الجهل تتردد في مجالسه كالجرثومة القاتلة التي تحمل معها الأمراض والأوبئة، وكان يحذر من الجهل المطبق حتى أصبحت هذه الكلمة من المصطلحات التي يرددها إخوانه، وتدل على أقصى درجات الجهل ولا يقصد بالجاهل ذلك الذي لا يعرف القراءة والكتابة ومبادىء العلوم وأصولها، وإنما يقصد بالجاهل ذلك الذي لا يعرف الحقيقة، ويجهل أنه جاهل، فالجاهل الذي يعرف جهله يبحث عمن يعلمه ويبين له الأشياء ويصحح له الأخطاء، أما الجهل المطبق فهو مرض يحل بصاحبه ولو كان علامة الدنيا، يمنعه من سماع كلمة الحق ويصده عن سبيل الله عناداً وتمسكاً برأيه، كمن يرى عيوب نفسه وسوء طبعه فلا يعترف بذلك وينكر على الناس أن ينصحوه ويدلوه على الطريق المستقيم.

وعلى الجاهل أن يتعلم، فالعلم يقوده إلى معرفة حقيقة نفسه، فيتمسك بالحق ويعترف بأخطائه وعيوبه، ويقدم الشكر لناصحيه الذين دلوه على الحق والصواب، وأنقذوه من أوحال الجهالة والضلال، والجهل المطبق هو الجهل الذي يغلق القلوب، فلا تنشرح لسماع ما هو حق وشرع، وتنتصر لما هي فيه من سيء العادات.

وكان يحض أصحابه على ملازمة مجالس العلم والمعرفة وأهمها ما يلي:

أولاً: مجلس التلاوة في دار الشيخ:

ما زلت أذكر أول مجالس التلاوة القرآنية وكنت صغيراً لم أبلغ سن الحلم، كان الشيخ يصلي الفجر في داره في وقته، ويؤم أسرته، وكنت أصلي معه وأقف إلى جانبه، فإذا أنهى صلاته جلس لتلاوة القرآن، وينادي أفراد الأسرة كلها لهذا المجلس، فكان يقرأ القرآن بصوت عال، ويقرأ في كتاب تفسير الجلالين، حيث يقرأ الآية، وينظر فيما قاله المفسر في تفسيرها، فإذا وجد شيئاً شرحه لأسرته، ثم تابع القراءة، فإذا أشكل عليه أمر توقف من جديد، وهكذا إلى أن تطلع الشمس.

كنت أحضر هذا المجلس كل يوم، وكنت صغير السن، وما أزال أذكر دقائق هذا المجلس المهيب الذي يلتزم الجميع فيه بآداب القراءة، وكانت معظم قراءاته للقرآن تتم بحضور أفراد أسرته لا يتكلم أحد في هذا المجلس، ويلبس النساء فيه ملابس الصلاة، فلا تكشف المرأة عن رأسها، ولا يلتفت أحد يمنة أو يسرة.

هذه هي أول مجالس التلاوة شهدتها بنفسي، تلتزم فيها آداب التلاوة من التذكر والتفكر واستحضار القلب، فإذا رأى أحداً من الجالسين قد أخذته سنة من النوم، كان ينظر إليه من غير أي كلام، وكأنه يعاتبه، ثم يعاود القراءة إلى أن ينتهي مجلس التلاوة القرآنية.

مجلس التلاوة القرآنية في الكلتاوية:

رأيت مجالس التلاوة القرآنية تعقد في مسجد الشيخ «الكلتاوية» لم أحضرها ولم أشترك فيها، وهي خاصة بإخوان الشيخ من الرجال، كان يشرف عليها حافظ القرآن الشيخ بشير حداد، وكان حافظاً مجيداً متقناً قل أن تجد من يحفظ القرآن مثله، وكان من المحبين الصادقين العابدين وكان يتولى الأشراف على المسجد منذ معرفته بالشيخ، وكانت أسرته كلها تشاركه في هذه المهمة، وكان أميناً صادقاً نزيهاً محباً للشيخ، وكان يؤم الناس في الصلاة ويخطب الجمعة. إلى أن تسلم المهمة من بعده ولده الشيخ منير.

كان الشيخ بشير يشرف على مجالس القراءة التي كانت تعقد بعد العصر، ويحضرها من شاء من الإخوان، في حلقة دائرية أمام المحراب في البناء الجديد للمسجد… كان يسمع ويصحح ويعلم كيفية الأداء ومبادىء التجويد ومخارج الحروف، ثم انتقل الشيخ بشير إلى العراق يعلم إخوان الشيخ في مدينة الفلوجة العراقية قراءة القرآن، وكانت هذه المدينة تضم معظم إخوان الشيخ في العراق، وتقام فيها مجالس الشيخ كما هي في الكلتاوية، وما زالت كذلك حتى اليوم.

وفرح إخوان الشيخ بالفلوجة بالشيخ بشير وأكرموه، وكان يحدثهم عن مجالس الشيخ الأولى في الكلتاوية وعن مجاهداته ومذاكراته.

مجالس العلم والتكوين الشرعي:

لم يتوقف اهتمام الشيخ بتكوين إخوانه على التربية الروحية وتصحيح العادات وتقويم السلوكيات وإحياء القلوب وإيقاظها من الغفلة، ذلك أمر كان يقوم به بنفسه في مجالسه ومذكراته اليومية، وإنما كان يريد لهم أن تكون ثقافتهم بأحكام الدين ومعرفتهم بالشريعة كافية لكي يعرفوا الحلال والحرام ويميزوا بين ما أمرت به الشريعة وما نهت عنه، لا على وجه التفصيل وإنما على وجه الإجمال، وهذا مما يعتبره من فروض العين لا من فروض الكفاية، فمعرفة أصول الدين من الفروض العينية، ولا يستقيم سلوك السالك إلا بمعرفتها والالتزام بها في طريق السير إلى الله.

ولم يكن مقبولاً أن يكون السالك ـ ولو كان مقلداً ـ جاهلاً بأحكام الطهارة والعبادة وأصول المعاملات اليومية، وأول ما كان يحض أصحابه عليه من غير إلزام ولا إجبار أن يحضروا مجالس العلم، وأن يتدارسوا أحكام القرآن وأن يحفظوا ما تيسر منه، والقرآن هو البداية، ولابد من على يد حافظ للقرآن يصحح القراءة ويعين على التلاوة الصحيحة.

وأول ما كان يدعوهم إليه الالتزام بآداب التلاوة، وتعظيم الله تعالى، واستشعار عظمة ما يتلوه من كلام الله، وتصور تنزله بواسطة الوحي على رسوله، ولذلك اشترطت الطهارة لكل من يلمس القرآن، لكي يستشعر القارىء عظمة ما يقرأ، ومن آداب التلاوة استحضار القلب أثناء القراءة فلا يشغله عن القراءة شيء، فالترتيل مطلوب والتدبر هو غاية القراءة، ولا يحصل التدبر إلا بالفهم لمعاني الألفاظ ودلالاتها، واستشعار أن العبد هو المقصود بخطاب القرآن، وأن القصص والأمثال وردت في القرآن لتقريب المعاني إلى الفهم وحسن التدبر من أفعال السابقين.

مجالس العلم الشرعي في الكلتاوية:

بدأت مجالس العلم الأولى في الكلتاوية القديمة قبل التوسعة والتجديد، وكان إخوان الشيخ يحضرون الدروس التكوينية لمعرفة أصول الدين التي لا تستقيم حياة السالك إلا بها، وكان يلقي هذه الدروس الشيخ أديب حسون الذي يحضر كل صباح بعد صلاة الفجر إـ الكلتاوية القديمة ويدرسهم ـ كتاب «تنوير القلوب» وهو كتاب ـمع بـ الأحكام والآداب، وعنوانه يدل عـ ذلك.

ما زلت أذكره وهو يلقي دروسه العلمية، ويشرح قواعد الدين، وما زال حتى اليوم يتابع دعوته بإخلاص في «جامع أسامة بن زيد»، القريب من الكلتاوية، وهو من علماء حلب المشهود لهم بالأثر الطيب في مجال التربية والدعوة.

وبعد إنشاء مدرسة النهضة أصبحت الكلتاوية صرحاً من صروح العلم، وبدأت مجالس العلم تتكاثر وحلقاته تزداد، وانضم عدد كبير إلى قافلة العلماء الأوائل من أمثال الشيخ علاء الدين علايا والشيخ محمد لطفي والشيخ منير حداد والشيخ محمد الصندل والشيخ نذير حامد والشيخ نزار لبنية والشيخ عبد البر عباس والشيخ حسان فرفوطي، ثم بدأت الأجيال الجديدة والشابة من خريجي الكلتاوية تغني هذه المجالس وتضاعف من النشاط العلمي، وهم اليوم العمود الفقري لمدرسة الشيخ التربوية، يواصلون رسالتهم العلمية بنشاط وفاعلية وإخلاص.

اعتماد منهج التآخي بين الإخوان:

كان الشيخ يتحدث في مذاكرته ودروسه عن الحب في الله والبغض في الله، والمراد بالحب في الله أن يكون الحب لذات المحبوب لا لأمر يريد المحب الوصول إليه من ذلك المحبوب، فمن أحب الله أحب كل من يحب محبوبه، وأبغض كل ما يسيء لذلك المحبوب، وهذا هو البغض في الله، فمن أحب في الله لابد إلا أن يبغض في الله، ومن أحب الله أحب كل من يوصله إلى الله، ومن أحب العلم، أحب كل من يوصله إلى محبوبه وهو العلم، فإذا أحب أستاذه فإنه يحبه لا لذاته وإنما لأنه يوصله إلى ما يحب وهو العلم، ومن أحب المال أحب كل من يوصله إلى المال.

والحب في الله يولد الأخوة في الله، فمن أحب الله أحب كل من يحب الله من أصحابه، ويبغض كل من لا يحب الله، والأخوة تحتاج إلى المجانسة لا إلى المجاورة، فالإنسان يؤاخي من يجانسه في الطبيعة والعاطفة والسلوك، ولا يؤاخي من يجاوره في المكان، أو من يكون قريباً له في النسب، لانعدام المجانسة.

وكان الشيخ يؤاخي بين إخوانه لكي يكون كل واحد مرآة لأخيه، يكاشفه بعيوبه وينصحه ويشجعه ويأخذ بيده ويؤنس وحشته ويعينه على إصلاح خلقه، والأخوة رابطة بين شخصين، وتقتضي الالتزام بما تقتضيه تلك الرابطة من التزامات وواجبات، والأخوة تولد الألفة والألفة ثمرة حسن الخلق، ومن ساءت أخلاقه فلا يألفه أحد، لسوء خلقه، وأهم ما تعلمه التربية الروحية الالتزام بحسن الخلق، لتحقيق التآلف بين المتجانسين في الطبائع.

ولا يمكن للتآخي أن يتحقق إلا إذا توفرت المحبة بين الطرفين، وأن يكون قائماً على أساس المحبة الذاتية، لصفة في المحبوب مطلوبة، وأهمها استحسانك لطبائعه وسجاياه، وعندئذ تتلاقى الأرواح وتتجاوب، «فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

ومما اذكره من الروابط الأخوية هو مؤاخاته بين المتجانسين من إخوانه، وهناك روابط إخاء كثيرة، كان ينسجها بين إخوانه، لكي يكون كل فرد عوناً لصاحبه وأخيه لا لتحقيق مطامع دنيوية ومطامع مادية، ولكن ليتعاونا على طريق الحق ويتعاهدا على الإخلاص لله، ويحفظ كل فرد منهما صاحبه في غيبته، فلا يتخاصمان في أمور الدنيا، ويتناصحان في الحق.

وكان يتحدث عن حقوق الأخوة والصحبة، وأهمها أن يؤثر كل منهما الآخر بالنفس والمال، وأن يمسك عن ذكر عيوبه ومساوئه، وألا يكشف أسراره التي اطلع عليها، وأن يذكر محاسنه ويتفقد أحواله ويقف إلى جانبه في الشدائد وأن يفعل كل ما يسره ويدخل الفرح إلى قلبه.

وإذا حدثه أحد بسوء عن أحد إخوانه كان يغضب، ويقول لأصحابه، انقلوا إلي ما يحببني بأصحابي، ولا تملأوا قلبي بما يكدره، ولو كان ما تقولونه هو الصدق، وأحبكم إلي: من يعيد إليّ أصحابي إذا اعرضوا وهم كأولادي، فالأب لا يسعده أن يسمع أي كلام يسيء لأولاده أو يبعده عنهم.

وبلغه مرة أن اثنين من إخوانه المقربين تشاجرا لأمر مادي بينهما، حزن الشيخ وتألم، ولمارآهما أعرض عنهما.

وكان الإخوان ينقسمون بطريقة عفوية إلى مجموعات متجانسة، وكان يخص كل مجموعة باهتمامه ورعايته، وفي مجلسه تزول تلك الحواجز ولم يكن يضايقه هذا إلا إذا وقع التصادم أو التنافر بين هذه المجموعات، وعندئذ كان يتدخل لإنهاء ذلك التشابك، ويعيد اللحمة بين إخوانه بدعوتهم إلى تصفية القلوب والتزام المحبة والإخاء.

لم يكن من اليسير تجاوز الطبائع البشرية وما يتولد عن التنافس من انقسامات واختلافات بين المجموعات، وبخاصة مجموعة الشيوخ ومجموعة الشباب ومجموعة العلماء ومجموعة التجار، وهذا أمر طبيعي ومألوف في التكوين النفسي للبشر، إلا أن ذلك كان يتم في أضيق الحدود وفي إطار الاحترام المتبادل، واحترام الشباب لمكانة الشيوخ واحترام التجار لمكانة العلماء، واحترام أبناء المدينة للضيوف الوافدين، ومراعاة قيم الفضيلة في السلوك الاجتماعي.

كنت أرقب كل ذلك باهتمام وأتعلم من مدرسة الشيخ ذلك الأفق العالي من التسامي عن الصغائر والترفُّع عن الاهتمام بما لا يليق من الأمور الصغيرة، وكان يمشي ولا يلتفت إلى الوراء أبداً، ويتجاهل ما لا يليق وكان في ذلك يعلم إخوانه كيف يكون الكبير كبيراً، لا بموقعه ولا بمنصبه ولا بماله ولا بسلطانه، وإنما يكون كبيراً بمواقفه وحكمته وترفعه عن الصغائر.

وموضوع الصحبة والأخوة كان يحظى بأهمية كبيرة في مذاكرته، ويردد الحديث الذي رواه أبو هريرة «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ويقول: الصحبة الصحبة.. ابتعدوا عن قرناء السوء.. ويركز على أدب الصحبة، وهي أن يعطي الصحبة حقها، وحق الصحبة هو الالتزام بشروطها وآدابها الشرعية، ويحذر من صحبة الأحمق الذي يفهم الأمور بطريقة خاطئة ولا يعترف بجهله ولا ينقاد للحق، وإذا سيطر عليه الغضب يفقد صوابه ويخسر كل شيء.

لم يكن الشيخ حريصاً على زيادة عدد إخوانه ولم يفكر في هذا قط في مجالسه، وإنما كان يريد تكوين نخبة مختارة في سلوكها لكي تكون قدوة لغيرها، وأن تكون متماسكة متآخية متناصرة على الحق كل فرد منها يمثل أمة في إيمانه بالله وفي يقينه بنصر الله ويدعو إلى الله بحاله لا بمقاله ولا بفصاحته.

واستطاع الشيخ أن يقيم بين إخوانه جسوراً من روابط المحبة الحقيقية والاحترام المتبادل، وكان يسعده أن يرى روح الأسرة الواحدة بين إخوانه، على اساس متين من محبة الله والتسابق إلى العمل الصالح والرأي الناصح وإلغاء الفوارق المادية والاجتماعية وإقامة أخوة إنسانية دعامتها الإيمان بالله وعمل الخير ولم يكن يحب ذلك التفاضل في المنزلة الاجتماعية، وإنما كان يحب التفاضل في التحلي بالأخلاق الفاضلة وتزكية النفوس وطهارة القلوب.

( الزيارات : 865 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *