حب المعر فة.. والرغبة في الكتابة

في وقت مبكر من حياتي اكتشفت ذلك الاستعداد الذاتي للمعرفة، كنت أحب أن أعرف كل شيء وأن أطلع على كل شيء، وأن أناقش كل فكرة أسمعها، كان البعض من أسرتي وأصدقائي يتصورون ذلك وكأنه رغبة في الاعتراض والمشاكسة والعناد، لم يكن الأمر كذلك، كنت أقدم على فعلي بطريقة عفوية وتلقائية ، لم أكن قادراً على التسليم بكل ما أسمعه من روايات وحكايات… بعض ما أسمعه كان يقنعني والبعض الآخر لا يقنعني، كنت أعبر عن ملاحظاتي مشككا فيما لا يقنع من الحكايات…

هذه الحاسة النقدية لاحظتها منذ الطفولة الأولى، واتهمت بسببها بالمشاكسة والعناد، ولم يعد الأمر مجرد عناد بعد ذلك إذ بدأ الأمر وكأنه اعتداد بالذات وقناعة عقلية، ولم أستطع قط أن ألغي عقلي أو أوقف دوره التمييزي، كان بالنسبة لي هو المعيار، فلم أكن أستسيغ ذلك الخطاب الذي يعتمد على المبالغة في رواية الأحداث، بعض الأحداث كنت أعيشها وأراها كما هي، وسرعان ما تروى بطريقة مغايرة لما كنت أراها به، ولم أكن اقبل ما يعارض المنهج العقلي، وكنت اعتبر ذلك معيارا للمعرفة…

كنت أعيش في بيئة صوفية مليئة بما يروى من حكايات الصالحين وكراماتهم، ولكنني لم أكن اقبل كل ما اسمع، وبخاصة عندما يرويه عوام الناس الذين يسعدهم سماع مثل هذه المبالغات المتكلفة، لم انفعل بما كنت اسمع،لا لأنني أنكر هذا العلم، ولكنني كنت أنكر المبالغة فيه، وما زلت حتى اليوم أنكر ما كنت أنكره من المبالغات المسيئة لفكرنا الإسلامي الذي يحتكم إلى العقل والشرع…

واتجهت إلى العلم وعكفت عليه، ووجدت فيه النافذة التي اطل منها على الواقع، لم أكن أحب العلم الذي لا يفيد، كنت أريد العلم لأجل الحياة، والعلم الذي يسهم في تقدم الحياة ونهضة المجتمع، وما لا يفيد فلا حاجة لنا به…

لم أكن أحب ذلك التوغل في الجزئيات، وأقف عند حدود معرفة الحقيقة، والعلم يقصد للفائدة المرجوة منه، ومثله كالطعام والشراب، وغاية كل ذلك صحة الإنسان…وما يسعدني أحبه وما لا يسعدني لا أحبه… هذا معياري الذي وضعته لنفسي…

في مرحلة تفرغي لتحصيل العلم كنت أتعلم من الكتاب أولا ومن الحياة ثانيا، ولم أتأثر بأي أستاذ لي، كنت استفيد من الجميع، واحترم الجميع، والتقيت بأساتذة هم رموز عالية ومتميزة في علمها وفكرها، ولكنني كنت اعتمد على ملاحظاتي، كانت الحياة هي المصدر الأهم لثقافتي واختياراتي، كنت ارقب ما يجري أمامي، وأحاكم الأمور بموضوعية، ما كنت تعلمته من قبل كان قابلا للحوار… وبدأت أحيانا أتقبل ما كنت ارفضه وارفض ما كنت اقبله… كنت ابحث عن الحقيقة كما أراها أنا من داخلي…

اكتشفت النسبية في الأمور، كل أمر له وجهان، هو محمود ومذموم، هذا يدفعنا لاحترام الآخر حتى في انزلاقاته، لو كنا معه قد نفعل ما يفعل، ولو كان معنا فقد يختار رأينا…فلماذا ذلك التصارع والتغالب…كل فرد يدافع عن ذاته ومصالحه، وهذا أمر طبيعي وسلوك حتمي… إلا أننا ينبغي أن نختار الطريق الصحيح للتعبير عن ذاتنا، وبالطريقة التي لا تلغي انتماءنا الإنساني…

لابد من القيم الإنسانية المشتركة التي تمنع من ذلك التجاذب الضيق إلى ذلك الفضاء الواسع الذي يتسع لجميع الآمال ولجميع الفرقاء المتغالبين، سواء على صعيد الثقافات والحضارات والأديان، وهذه القيم المشتركة هي أداتنا لمنع الحروب والمصادمات، ولتوفير ظروف الدفاع عن قيم الحياة وأهمها ذلك التكافل والتناصر الإنساني لتوفير الكرامة والحرية لكل الشعوب…

في مسيرتي العلمية كنت أريد التعبير عن رؤيتي الذاتية لقضايا الإنسان المعاصر، كنت أضيق بالقديم الذي لا يضيف شيئا، وابحث عن الجديد الذي نحتاجه، وعندما كنت أتناول القديم كنت اقترب من الواقع بقدر ما تسمح به حرية الرأي، ولا حدود لإيماني بالاجتهاد الفقهي والاجتهاد في كل القضايا الفكرية، إذ لا يمكن تجاهل الإنسان أبدا، هو البداية والنهاية، وهو الغاية والهدف، وما جاءت الشرائع الإلهية إلا لحماية حقوقه والدفاع عن مصالحه، ما قيمة تلك الثقافة التي لا تدافع عن الحرية الإنسانية…

والدين هو رسالة التصحيح والتجديد، وهو أداة التنبيه لأهمية الإنسان ولتحريره من العبودية وللدفاع عن مصالحه، وما يحقق المصالح فهو من الإسلام، وما يتجاهل المصالح فليس من الدين، وكل ما يؤدي إلى الظلم فلا يمكن اعتباره من الدين..

من هذا المنطلق كنت أكتب بحوثي العلمية، سواء كانت مؤلفات أو محاضرات أو مقالات أو لقاءات صحفية، وكتبت الكثير بعضه كنت احتفظ به والبعض الآخر ضاع بسبب الإهمال، وحاولت بعد ذلك أن احتفظ أو انشر بعض ما وجدته في ملفاتي القديمة..

( الزيارات : 1٬531 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *