خصائص المنهج المعرفي في الفكر الإسلامي

خصائص المنهج المعرفي في الفكر الإسلامي

 

مقدّم إلى الندوة التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية

بجامعة محمد الأول في مدينة جدة

 

تَمَيُّز المنهج المعرفي عند علماء الإسلام :

يتميز المنهج المعرفي عند علماء الإسلام بخصائص ذاتية، تُعطي لذلك المنهج أبعاده الدينية والعقلية والوجدانية، لكي تجعل من ذلك المنهج أداةً للمعرفة الحقيقية التي تصل إلى أعماق النفس الإنسانية المتكونة من عوامل متعددة، تسهم في تكوين ذاتية إنسانية ذات أبعاد تتجاوز حدود المنطق العقلي..

وإن رحلة يسيرة في بطون كتب الفكر الإسلامي تساعدنا على تلمُّس المنهج المعرفي المتميز الذي استخدمه علماء الإسلام، في دراستهم لجوانب المعرفة الإسلامية..

إن منهج الفقهاء في بحثهم عن الحكم الشرعي يختلف كل الاختلاف عن مذهب الفلاسفة المسلمين في بحثهم عن قضية الإيمان والعقيدة، ويختلف منهج أهل التصوف في بحثهم عن الحقيقة عن مناهج الفقهاء والفلاسفة، لأن أهل التصوف اختاروا لأنفسهم منهجاً يتيح لهم قدراً أكبر من اليقين في رؤيتهم لقضايا الفكر والعقيدة والإنسان..

ومن اليسير علينا أن نقف موقف التردُّد في اختيار منهج من تلك المناهج، إلا أن من الصعب علينا أن نتجاوز هذه المناهج، لأننا نجد فيها كمالاً في الرؤية يمكّننا من استخلاص منهج متكامل، يساعدنا على الاقتراب من الحقيقة، والحقيقة ليست واحدة، ومن الطبيعي أن تكون مناهج المعرفة مستوعبة لكل الاحتمالات الممكنة.

ولا بد قبل البدء في رحلة البحث عن المعرفة أن نحدد الإطار العام لتلك المعرفة، فالفضيلة ليست دقيقة في التعبير عن المعاني التي تجسد الفضيلة، والحكمة ليست واضحة الدلالة على أوصاف الحكمة، ومن العبث أن نتحدث عن الفضيلة أو الحكمة قبل أن نحدد بدقة مفاهيم كل من الفضيلة والحكمة، لكيلا يقع اضطراب في المفاهيم يؤدي إلى خلل في المعايير والأوزان.

فالفضيلة ليست مجرد زيادة، كما يدل على ذلك المعنى اللغوي، ولو كانت كل زيادة داخلة في إطار الفضيلة لكان معظم الرذائل معدوداً من الفضائل، فالتهوُّر زيادة في الشجاعة، والإسراف زيادة في الجود، وهذا يفرض علينا أن نعيد النظر في مفاهيمنا لكي تكون معبّرة عن الحقيقة.

والفضيلة كما يراها الغزالي في مقدمة كتابه الإحياء هي الزيادة المؤدية إلى الكمال، والكمال أمر نسبي، ولكل شيء كماله الخاص به، فإذا اقتربت الزيادة من ذلك الكمال كانت فضيلة إلى أن يبلغ الكمال منتهاه، عندئذٍ تتوقف الفضيلة مكتفيةً بكمالها الذاتي..

والفضائل ليست في درجة واحدة من حيث المكانة والقوة والوضوح، فمن الفضائل ما هو مطلوب لذاته، ومنها ما هو مطلوب لغيره، فما كان مطلوباً لذاته فإن الفضيلة فيه ذاتية، وما كان مطلوباً لغيره كانت الفضيلة فيه مرتبطة بتحقيق غايات أخرى..

فالعلم فضيلة، لأنه مطلوب لذاته، والمال فضيلة لأنه مطلوب لغيره، ولا فضيلة للمال إذا لم يُستخدَم الاستخدام الأمثل لخدمة الإنسان، بخلاف العلم فالأصل فيه أن يكون أداةً للمعرفة، وما كان كذلك فهو مطلوب لذاته، لأن الإنسان لا يكتمل وجوده الإنساني إلا بالمعرفة..

ولهذا كان العلم واجباً على الإنسان، لأنه أداة كماله، ويرتبط حجم ذلك الواجب بمدى حاجة الإنسان إلى ذلك الكمال، فالعلم الذي يرتبط بكمال ضروري للإنسان يعتبر واجباً عينياً، ويشمل كل أنواع العلوم والمعارف التي تسهم في تحرير الإنسان من الأساطير والخرافات، ولهذا كانت مبادئ العقيدة والتوحيد من العلوم الواجبة على كل مسلم، لأنها أداة كماله الإنساني، فإذا جهل معرفتها نقص ذلك الكمال، وانحدر الإنسان نحو هاوية الجهل.

أما العلوم التي لا يرتبط بها كمال الإنسان، فهي واجبة وجوباً كفائياً، لأن حاجة الإنسان إليها ليست ملحّة، وكل ما كان كذلك فيجب على الإنسان أن يعلمه العلم الذي يكفل له تلبية حاجاته..

ومن هذا المنطلق اختلف العلماء في الواجبات، من حيث الشمول والكفاية، كما اختلفوا في تعريفهم لما هو ضروري، فالبعض اعتبر أن علم التوحيد يعتبر فرض عين، لأنه العلم الذي يدرك به الإنسان الحقيقة المتعلقة بوجوده الإنساني، والبعض الآخر اعتبر علم الفقه من الواجبات العينية، لارتباط الحلال والحرام به..

ومعيار الكمال الإنساني معيار دقيق لمعرفة ما يجب على الإنسان أن يعرفه وأن يتعلمه، فالعلم الذي يعلم الإنسان قضاياه الضرورية من عقيدة وعبادة يعتبر جزءاً من كيان الإنسان، ولا تستقيم الحياة إلاّ به، ولهذا كان من الضروري أن يكون منهج المعرفة في الفكر الإسلامي متميزاً، يجسّد سمو النظرة الإسلامية إلى مفهوم المعرفة، بحيث تصبح المعرفة أداةً للكمال الإنساني..

ارتباط المعرفة بالإنسان:

والمعرفة الحقّة هي المعرفة التي تقرّب الإنسان من حقيقته الإنسانية وتعرفه بذاته وكيانه، وتفسّر له موقعه الحقيقي من الوجود وفي الوجود، وكلما اقتربت المعرفة من الإنسان كانت أكثر أهمية له، والمعرفة التي لا تسهم في نمو الإنسان ولا تنمي لديه الإدراك بما حوله، ولا تفيده في حياته لا يمكن اعتبارها مفيدة، وقد تكون معرفة ضارة..

ومن هذا المنطلق قسم الغزالي العلوم إلى قسمين: محمودة ومذمومة، والحكم على العلوم ينطلق من منطلق موضوعي لا يتجاوز علاقة العلم بالإنسان، فالعلم المحمود هو العلم النافع، والعلم المذموم هو العلم الضار، وهذا العلم قد يلحق الضرر بالإنسان نفسه وقد يلحق الضرر بغيره وقد يلحق الضرر بالمجتمع كله، وذلك عندما يصرف ذلك المجتمع عن قضاياه المفيدة إلى قضايا ليست مفيدة، وما انعدمت الفائدة فيه فالجهد فيه ضائع، والجهود الضائعة ضارة..

أداة المعرفة في الفكر الإسلامي:

المعرفة في الفكر الإسلامي تعتمد على أداة بشرية ارتبط بها التكليف الشرعي، وهي العقل، والعقل في نظر الإسلام هو موطن الاعتبار، لأنه المخاطَب بالتكليف.

ولا يمكن للتكليف أن يوجّه لغير العقلاء، لأن العقل هو أداة الفهم، ولو انعدمت الأداة لتوقّف الفهم، ولا يملك البدن الإنساني خصائص الفهم والإدارك إلا عن طريق العقل، ولهذا يتوقف التكليف في حالات انتفاء العقل أو حالات نقصه أو حالات وجود خلل فيه، ويرفع القلم كما قال النبي e عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل، وذلك لأن المُخاطَب هو العقل، فإذا لم يكن العقل مؤهلاً لسماع الخطاب فلا فائدة من التكليف..

والبلوغ هو مظنّة التكامُل العقلي، ولهذا ارتبط به التكليف، فإذا قام دليل مادي على انتفاء العقل أو وجود خلل في أدائه انعدمت الأهلية للتكليف كلياً أو جزئياً بما يتلاءم مع حجم الخلل والنقص في أهلية المكلَّف.

وتوسّع علماء أصول الفقه في دراستهم لمباحث التكليف والأهلية، واعتبروا أن العقل البشري هو الأداة الطبيعية للمعرفة، لأن المعرفة في المفهوم الإسلامي ليست مستمدة من العقل نفسه، فالعقل مخاطب وهو أداة للفهم، ويحتاج هذا العقل إلى خطاب لكي ينصرف إليه، ولكي يكون أداة المعرفة، فالعقل لا يستمد معرفته من ذاته، وإنما يستمدها من خطاب موجه إليه، ولو استمدت العقول البشرية معرفتها من ذاتها لكانت تلك المعرفة متناقضة متباعدة متنافرة، لأنها تجد مادتها في ذات صاحبها، والذات الإنسانية مطوقة برؤية تحكمها البيئة المحيطة بتلك الذات، ونظراً لتعدد البيئات وتباين أحوالها، فإن الاحتكام الكلي إلى العقل يؤدي إلى تبايُن أشكال المعرفة، وتناقض اتجاهاتها، هنا تبرز الحاجة إلى وجود نصوص ثابتة ترسم الإطار العام للمعرفة السليمة وتحدد ضوابط السلامة في الاتجاهات الاجتهادية، لكيلا تضل عن غايتها أو تلتبس عليها السبُل..

والعقل في الفكر الإسلامي هو مركز الإدارك، ولهذا ارتبط التكليف الشرعي به، وجاء الخطاب الشرعي موجَّهاً لذلك الإنسان الذي تكامَلَ عقله، ودخل بفضل ذلك التكامُل في إطار التكليف، ولا تكليف مع انتفاء العقل أو مع وجود خلل فيه، لأن التكليف مع انتفاء الإدراك يدخل ضمن العبث، والشريعة منزَّهة عن أي عبث.

عوامل المعرفة في الفكر الإسلامي:

تعتمد مناهج المعرفة في الفكر الإسلامي على عاملين:

العامل الأول: الخطاب الشرعي:

ويعتبر الخطاب الشرعي هو الأساس في المعرفة، ولا معرفة مع انعدام النص، لأن المعرفة العقلية المجردة لا تنفي الخطأ ولا تحسم الاختيارات الإنسانية المتأثرة بالميول والأهواء والمصالح، وانطلاق المعرفة من الخطاب الشرعي هو تسليم بالمنطلق الديني الذي يقوم على أساس النظرة الشمولية لمكانة الإنسان في الكون، كمخلوق يتصف بصفة العبودية لله تعالى، والله تعالى هو الحاكم والمشرّع والخالق، وهذه النظرة الدينية التي استطاع الإسلام أن يرتقي بها لكي تكون في أسمى درجات السمو والوضوح تظل هي النظرة الأسمى في نظر العقل البشري، ولم يستطع الفلاسفة والحكماء أن يقدموا تفسيراً للكون أفضل من هذا التفسير الذي جاءت به الأديان السماوية..

ومنطق الخطاب الشرعي في إدراك المعرفة يُلغي الصفات الذاتية للحسن والقبح، فالشرع هو مصدر المعرفة، وهو مصدر الحسن والقبح بالنسبة للأشياء، فالصدق حسن لأن الشرع أقرّ فيه صفة الحُسن، والكذب قبيح لأن الشرع أقرّ فيه صفة القبح، ولو ثبتت صفات القبح والحسن لذاتهما لانتفت صفة الاختيار بالنسبة للمشرع، والمشرع الحكيم مختار ومريد، وهذا لا ينفي ما ذهب إليه المعتزلة من قدرة العقل على التمييز، إلا أن ذلك التمييز يظل قاصراً عن إدراك الحقيقة.

ويحتاج الخطاب الشرعي لأمرين:

الأمر الأول: البحث في ثبوت ذلك الخطاب، ولا خلاف في ثبوت النص القرآني جملةً وتفصيلاً، لثبوت ذلك عن طريق التواتر الكتابي، والتواتُر في أدائه وحفظه وتلاوته، وهناك اختلاف في ثبوت بعض السنة، ولذلك انصرف علماء الحديث إلى وضع معايير دقيقة لتوثيق الحديث، ومعرفة درجة صحته، وكانت جهودهم في أقصى درجات التنظيم والدقة والأمانة والضبط.

الأمر الثاني: البحث في دلالة ذلك النص، وهذا يدخل ضمن التفسير، وكانت جهود المفسرين موفقة في إبراز الدلالات المحتملة للنصوص الشرعية، والتفسير لا يتوقف، لأن هناك عوامل متغيرة تسهم في تكوين رؤية المفسر، فالتفسير جهد عقلي تحكمه ضوابط موضوعية من حيث الدلالات اللغوية للألفاظ، وهناك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن تلك الضوابط، وتتعلق بشخصية المفسّر، وتلك الشخصية التي تسهم عوامل البيئة والاستعداد والتربية في تكوينها تعتبر عنصراً أساسياً وضرورياً في إعطاء التفسير أبعاده الاجتهادية، لكي يكون التفسير المنهج السليم للتجديد، ولا يمكننا إنكار أهمية التجديد في الفكر الإسلامي..

العامل الثاني: الإنسان:

ويعتبر الإنسان بما خصّه الله به من عقل وما ميّزه به من خصائص هو الأداة الضرورية لفهم الخطاب الشرعي، والإنسان هو أداة المعرفة، وهو الذي يُعطي للخطاب الشرعي أبعاده الإنسانية والاجتماعية، لكي يكون الخطاب الشرعي مجسداً للمقاصد الشرعية التي تجسد المصالح الاجتماعية..

إن المعرفة التي تتجاهل الإنسان لا يمكن اعتبارها معرفة كاملة، فالإنسان هو المُخاطَب وهو المقصود بالخطاب الشرعي، وجاء الخطاب الشرعي لكي ينظم حياة الإنسان بطريقة عادلة، ولكي يرتقي بسلوكه وغرائزه عن طريق التربية والتوجيه والتشريع..

ولو رجعنا إلى المقاصد الشرعية كما قررها علماء الأصول لوجدنا أن تلك المقاصد ضرورية وحاجية وتكميلية، فما ارتبط به من مصالح الناس بطريقة ملحّة كان ضرورياً، وما احتاجه الناس لرفع الحرج عنهم كان حاجياً، وما ألفته العقول الراجحة واقتضته العادات السليمة كان كمالياً، وهذا التفسير والتقسيم يؤكد لنا ارتباط الخطاب الشرعي بالإنسان، فالإنسان هو محور الخطاب، وهو -في نفس الوقت- أداة تفسيره وبيانه، وكلما اقتربت الأحكام من حياة الناس كانت أكثر تعبيراً عن المقاصد الشرعية..

إن مناهج المعرفة في الفكر الإسلامي متميزة بخصائص إنسانية، ومنضبطة بضوابط دقيقة، لكي تكون المعرفة معبّرة عن الكمال الإنساني، مدعمة قوى الخير في النفس، مطاردة سيطرة الغرائز على السلوك، فالإنسان محكوم بقوى متعددة، في النفس وفي العقل وفي القلب، ولا بد من أن تكون المعرفة الإنسانية في مستوى ما يتميز به الإنسان من خصائص، فإذا جسدت المعرفة قوى النفس الغريزية متجاهلة قوة العقل وقوة القلب انحدرت بمكانة الإنسان إلى مستوى الكائنات التي تتحكم فيها الغرائز..

وإن الاحتكام المطلق في بلوغ المعرفة إلى المنطق الرياضي الذي يعتمد على البراهين العقلية يحمل الكثير من المجازفات والأخطاء، وبخاصة في القضايا التي تمس قضايا الإنسان، فالإنسان يملك خصائص المعرفة بحسّه الذوقي وإدراكه البسيط، وذلك في حالة استقامة تكوينه التربوي، وسلامة اختياراته العقلية، ولا يمكن أن يطمئن ذلك الإنسان إلى سلامة تلك الإدراكات إلا عن طريق الاسترشاد بالخطاب الشرعي الذي يرسم للإنسان منهج الاستقامة، ويحدد له الاختيارات، لكيلا تعبث به قواه الغريزية أو العقلية..

وكل شيء يخضع للبراهين العقلية يخضع في نفس الوقت لاحتمالات التناقض، لأن المنطق الرياضي قد يكون صادقاً في تحديد المفاهيم الهندسية كالأشكال والرموز والأعداد والمثلثات والزوايا، إلا أن من الصعب أن يكون ذلك المنطق دقيقاً في معرفة قضايا الإنسان، فالإنسان مازال مجهولاً بالنسبة للمنطق الرياضي، وعلينا قبل ذلك أن نكتشف المعرفة المتعلقة بالإنسان من خلال الإنسان نفسه، كما جاء وصفه في القرآن الكريم، لأن الرؤية القرآنية للإنسان هي الرؤية التي تريد أن تدفع الإنسان إلى الكمال الإنساني، من خلال التكريم الإلهي لبني آدم، وذلك التكريم يتضمن الارتقاء بمستوى الخصائص البشرية لكي تكون مجسدة لمبدإ التميز الإنساني..

( الزيارات : 884 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *