دار الحديث الحسنية لاول مرة

 

الزيارة الرابعة للمغرب

في صيف عام 1976م  اقترب شهر رمضان وتوقعت أن تصلني دعوة جديدة للمشاركة في الدروس الحسنية وجاءت الدعوة هذا العام مقترنة بإلحاح كبير، وكنت عازماً على الاعتذار بسبب بعض الانشغالات الخاصة إلا أن السفير السيد أحمد ابن المليح أكد لي أن الدعوة جاءت من أمر ملكي وأعددت نفسي للسفر، ولما وصلت الرباط بلغني أن الملك مرض وقد أجرى عملية جراحية ولن تكون هناك دروس في هذا العام، وقد وصل عدد قليل من المدعوين.

وفي اليوم الثاني من وصولي اتصل بى  الاستاذ عبد الرحمن الدكالي عند منتصف الليل وأخبرني أنه يريد زيارتي ، فاستقبلته، قال لي انني قادم من عند جلالة الملك، وهو يرحب بك في بلدك ويعرض عليك أن تكون مديراً لدار الحديث الحسنية وسوف تحظى من جلالته بكل التأييد والرعاية, وفوجئت بما سمعته، وحسبت بأنه مجرد كلمة تشجيعية تعبر عن الاهتمام وتبادر إلى ذهني أنه قد تكون كلمة عابرة وردت في حديث جلالة الملك، واستبعدت أن الأمر جاد، ولم أفكر فيه قبلاً ولم يخطر ببالي، فالأمر مستبعد من ناحيتي فقد كنت أستاذا في جامعة الكويت منذ سبع سنوات وكنت سعيداً في عملي ولا أفكر في مغادرة عملي وقلت له أن يرفع إلى الملك صادق شكري وامتناني وأنا أعتز بالثقة الملكية وبالرعاية السامية وأخبرته أن انتقالي للمغرب غير ممكن ولا أفكر فيه، لاعتبارات أخلاقية وشخصية، أما الاعتبارات الأخلاقية فلا يمكنني مغادرة الكويت بعد سبع سنوات من العمل في جامعتها , أما الجانب الشخصي فمن الصعب تعريض أطفالى لمشقة الانتقال من الكويت إلى المدارس المغربية التي تعتمد اللغة الفرنسية، بالإضافة إلى صعوبات أخرى ….وأكدت له صعوبة عملي في الإدارة المغربية، وأنا لست مغربياً ولا اعرف أحداً في هذه الادارة …

ولما دعاني طلب مني أن يبقى الأمر سرياً وألا أحدث أحداً به، وبعد خروجه أخذت أفكر في الأمر، وترجح لدي أن الأمر قد انتهى، إلا أنني جلست أفكر في الاحتمالات الممكنة هل يمكن للملك أن يعرض هذا، هل يمكن أن يكون فكرة طارئة وردت في حديث الملك …

أمضيت جزءاً من الليل وأنا أفكر في هذا الأمر وكان جوابي الوحيد هو الاعتذار، ولا يمكن لأحد أن يترك عمله المستقر إلى عمل آخر لا يعرف عنه شيئا، والصعوبات فيه حتمية ومؤكدة، ولا مبرر لذا، ولم اندم قط على اعتذاري …وفي اليوم التالي مساء زارني السيد الدكاني، وابلغني انه ابلغ جلالة الملك بحديثنا أمس، وان جلالته سيتولى بنفسه أمر الاتصال بالكويت وسيرسل رسالة إلى أمير الكويت في هذا الموضوع، أما الأمر الثاني فيمكن التغلب عليه وسيكون في رعاية جلالته، واخذ الأستاذ لدكالي يقنعني بقبول الأمر، وقلت له إذا تولى جلالة الملك الامر بنفسه فلم يبق لي خيار، وأوصاني ألا أفضي لأحد بهذا الأمر وأن جلالته سيقيم حفل عشاء في القصر للعلماء وسيعلن الأمر بنفسه، وفي اليوم التالي اتصلت بي التشريفات الملكية وأبلغوني بحفلة الإفطار التي سيقيمها جلالته في القصر الملكي ، وحضرت الحفل مع سائر المدعوين، وتقدمت للسلام على جلالته، ووقف السيد الداي ولد سيدى بابا وزير الأوقاف يقدم المدعوين لجلالة الملك، وكنت واحداً منهم، ولما قدمني الوزير إلى جلالته قال الملك :هل تريد أن تعرفني بالدكتور النبهان، إنه لا يحتاج إلى تعريف وكل المغرب يعرفه ويحبه ويقدره، وسوف يكون مديراً لدار الحديث الحسنية …

كانت كلمة الملك مفاجأة لجميع الحاضرين، وقد سمعها كل من كان يحيط بالملك، وأخذت الكلمةتتردد، ويتناقلها الحاضرون في الحفل، ودعانا الملك إلى قاعة الإفطار، وسرت إلى جانب الملك وكان الملك يحمل عصاً بيده ويشكو من ألم في رجله..

وفي الطريق إلى قاعة الإفطار قال لي الملك انني أضع عليك آمالاً كبيرة وأنا واثق من حسن تدبيرك وأنت تملك كل الإمكانات لنجاح مهمتك …

وفي اليوم التالي غادرت الرباط في طريقي إلى الكويت، ولم أحدث أحداً من أصدقائي بما جرى، وتوقعت أن الأمر قد لا يتم، وأعمال الملك وأعباؤه سوف تشغله عن هذا الأمر وبخاصة موضوع المسيرة الخضراء وما أعقبها من تعقيدات ولقاءات ومفاوضات كانت تشغل الملك وتقلقه، وكاد الأمر أن يغيب عن اهتمامي، وتوقعت أن يتوقف الأمر وأن يتم تأجيل النظر فيه، وكنت ما أزال أشعر بالتردد والقلق ، وكنت أتمنى أن يصرف النظر عنه وكان هذا مما يريحني ويخرجني من حالة التردد،

ومضى شهر كامل، ولم يتصل بي أحد في هذا الأمر ولم أخبر أحداً به , ولما أخبرت زوجتي لما حدث في الرباط بكت وطلبت مني أن أعتذر عن هذه المهمة وخافت من هذه الرحلة الطويلة من الخليج إلى المحيط الأطلسي ومن أبعد مدينة في المشرق العربي إلى أقصى مدينة في المغرب العربي , وكنا ننظر إلى المغرب وكأنه في قارة بعيدة ولم تكن وسائل الاتصال والخطوط الجوية ميسرة كما هو الشأن فيما بعد وكانت الكويت في تلك الفترة هي أهم دولة خليجية وأكثر تطوراً وازدهارا لأنها استقلت في وقت مبكر وحققت خطوات جريئة في مجال النهضة العمرانية والاقتصادية والثقافية وكانت تملك صحافة متطورةً فاعلة وتصدر مجموعات ثقافية هامة وأقامت تجربة ديمقراطية رائدة وكانت الحياة في الكويت مريحة وميسرة وكانت جامعاتها تضم أفضل الكفاءات العلمية العربية , وكان التنافس على أشده للعمل في جامعة الكويت ولا يمكن لأحد أن يفرط في عمله في الكويت.

وكل هذا كنت أفكر فيه وكان يجب أن أفكر ولا ينبغي التسرع في أي قرار,  وليس من اليسير على الإنسان أن يأخذ قراراً ثم يندم عليه وينبغي أن يفكر الإنسان كثيراً قبل أن يتخذ قراره وقد لا تنجح مهمته وقد يفاجئ الإنسان بما لا يتوقعه, وكل هذا يجب التفكير فيه ولا يمكن لأحد أن يتحمل مسؤولية مثل هذا القرار إلا صاحب العلاقة وسوف يجد نفسه في النهاية وحيداً يدفع ثمن قراره.

 

( الزيارات : 917 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *