دروس الصحبة

دروس الصحبة

البداية:

عرفت الشيخ رحمه الله في طفولتي الأولى… لا أدري متى تم ذلك، كما لا أدري متى عرفت أبي وأمي وإخوتي.. كانوا جزءاً من حياتي الأولى، وهم يبتسمون… وانمحت تلك الذكريات ولم يبق إلا القليل.

أذكر ذلك الشيخ الوقور.. بملامحه المهيبة يدخل بيتنا، يقف الجميع له احتراماً وإجلالاً، كنت أحبه وأهابه، أحبه لأنه يحبني ويلاطفني ويبتسم لي وأهابه لأن الكل يهابه…

أناديه بدلع «جدو» كان يبتسم لي… يجلسني في حضنه أو يمسك بيدي، أو يطعمني قطعة حلوى، انمحت تلك الصور من ذاكرتي، لم يبق منها إلا القليل.

صورة واحدة بقيت… لا أدري لماذا بقيت ولم تمحِ، وهي الصورة الأقسى في حياتي عندما رأيت نظراته الحزينة تحدق بي، أداعبه فلا يستجيب لي، وأضحك له فلا يضحك لي.. رأيت دموع أبي ودموع نساء الأسرة… وهي تتساقط على الخدود بغزارة….

حزنت ولا أعرف لماذا أحزن… ؟ وبكيت ولا أعرف لماذا أبكي ؟ كان الكل ينظر إلي.. أخافتني نظراتهم الحزينة وأدهشتني دموعهم السخية…. كانت أمي غائبة عن ذلك اللقاء العائلي.. وما كان لها أن تغيب، لو رأيتها بعد ذلك اليوم لعاتبتها، سأقول لها: لماذا تركتني وحيداً في ذلك المساء، وما اعتادت أن تفعل ذلك.

وانتظرتها طويلاً ولم تعد… ونمت حزيناً.. ولما استيقظت لم أجدها تعد لي طعام الإفطار كما اعتادت أن تفعل… رأيت الرجل المهيب يأخذ بيدي يمسح دموعي ويلا عبني…

شكوت له أمي التي لم تَعُدْ من زيارة أهلها.. وعدتني أن تعود فلم تفعل.. طلبت منه أن يأخذني إليها لأنني أحبها..

منذ ذلك اليوم بدأت علاقة جديدة مع جدي الرجل المهيب الذي أصبح قريباً مني وصديقاً ورفيقاً، فلم أعد أخافه أو أهابه. كنت ألعب معه، وأذهب معه إلى السوق، وأجلس في حضنه.

كنت في الخامسة من عمري، وكان جدي في الخامسة والأربعين، وبدأت الصداقة بين الجد والحفيد منذ تلك الأمسية الحزينة التي انطفأت فيها شعلة الحياة في أسرتنا الصغيرة، ورحلت أمي ولم تعد… لقد اختطفها الموت في تلك الليلة الحزينة….

لم أحزن على أمي… ولم أكن أدري معنى الموت.. ولما عرفت معنى الموت وما يعنيه غياب الأم حزنت الحزن الذي يزداد ألمه كلما امتدت أيامه.

ذات مساء امتلأ فناء الدار الواسع بأطفال الأسرة يلعبون ويضحكون ويتدافعون، ووقفت بعيداً عنهم أتأمل ملامحهم لا أضحك كما يضحكون، ينادونني أن أشاركهم ألعابهم فلا أجيبهم، رأيت «جدي» خلف زجاج النافذة يتأملني، أشار إلي أن أذهب إليه. كنت شارداً حزيناً، جاء إلي وأمسك بيدي، وقال لي: لم لا تلعب مع الأطفال…

قلت له: أريد أمي أن تمسك بيدي، كما تمسك الأمهات بأيدي أطفالهن… وانهمرت الدموع من عيني كما انهمرت من عينيه.

قال لي: ألا تريد أن أكون كأمك أمسك بيديك عندما تلعب وتكون صديقي وصاحبي، وقادني برفق وحنان إلى غرفته، وأخذ يحدثني كما يحدث الصديق صديقه، وبدأ يصحبني معه في كل زياراته وأسفاره وأحضر معه كل مجالسه…

كبرت بسرعة.. لم ألعب مع الأطفال في الشوارع، ولم أصادق زملائي في المدرسة، لم ألعب كرة القدم في النوادي الرياضية. كان أصدقائي هم أصدقاء الجد، أحضر مجالسهم، وأسمع أحاديثهم، وأرى نفسي كبير السن مثلهم… كان هذا يرضي كبريائي، ويسعدني ويشعرني بالمكانة والمنزلة الرفيعة.

كان يسعدني أن أرى نفسي كبير المنزلة في الأسرة، كنت صديق الجد صاحب الكلمة النافذة، والشخصية المهابة، وكنت أتوسط لأصحاب الحاجات، فيستجيب الجد لوساطتي، فما أريده يكون بفضل محبة الجد ورعايته لأمري…

 

الجد والحفيد:

 

لم أُغضب «جدي» في أمر من الأمور، ولم يغضبني قط، ما يريده مني أفعله طائعاً مختاراً، وما لا يريده لا أفعله مختاراً إرضاءً له، فكان بالنسبة لي هو الجد الذي أُحبُه، وكنت بالنسبة له الحفيد الذي يحبه.

كان هناك شيء أكبر من العلاقة العاطفية المألوفة بين الجد والحفيد، شيء ما لا أعرف حقيقته، يشدني إليه ويشده إلي، أشعر أنه قريب مني، كنت سعيداً بهذه العلاقة والصداقة… في السابعة من عمري أدخلني الكتاب القرآني لكي أتعلم القرآن ومبادىء القراءة والكتابة عند حافظ كتاب الله الشيخ بشير الحداد، في حي باب الحديد، كان الشيخ يعتني بي عناية فائقة، وهو من إخوان الجد، كان يعلمني قراءة القرآن والكتابة والخط، ولم يدخلني جدي الروضة أو المدرسة الحكومية، ولم اعترض على اختياره، كنت على يقين أن اختياره هو أفضل من اختياري، وهو سيختار لي الأفضل، إذ لم يكن يحب المدرسة الحكومية بل يريد أن أدرس في الكتاب القرآني لحفظ القرآن، ثم نقلني إلى كتاب قرآني آخر للشيخ الصالح العلامة أديب حسون، وهناك ختمت القرآن وتعلمت مبادىء القراءة والكتابة.. بالإضافة إلى الاهتمام بالأخلاق والتربية الحسنة…

ولما أنهيت حفظ القرآن في الكتاب القرآني انتقلت إلى مدرسة الخالدية في حي العدسات قرب سوق السويقة، وهذه المدرسة خاصة، ومديرها رجل متدين، ويختار لها الأساتذة ممن اشتهروا بالتدين والأخلاق، والتحقت فيها بالصف الثاني الابتدائي، وبسبب تكويني في الكتاب القرآني كنت متفوقاً في القراءة والكتابة، وأمضيت السنة الثانية والثالثة…وانتقلت مباشرة إلى معهد العلوم الشرعية المعروفة بمدرسة الشعبانية، كانت هذه المدرسة تضم كبار علماء مدينة حلب، كان الشيخ سعيداً بالتحاقي بها، كان معظم أساتذتها من أصدقائه، وتعلمت فيها علوم الدين واللغة، ودرست التفسير والحديث والفقه والأصول وعلم النحو والصرف وعلوم اللغة والآداب والعروض والتاريخ والجغرافيا.

وفي الوقت الذي كنت أتابع دراستي في هذا المعهد الشرعي كان الشيخ قد أعد لي مدرسة خاصة في الكلتاوية لمدة ثلاثة أشهر في الصيف، وكان هناك برنامج يومي متواصل أتابع فيه دراستي الخاصة على يد أساتذة مختصين، في مختلف العلوم، كانوا يعكفون على تدريسي مواد النحو والفقه والحساب والأصول والخط واللغة..

كان الشيخ يتابع كل ذلك، ويشجعني عليه، ويستفسر الأساتذة عن دراستي ومتابعتي، كنت سعيداً بهذه الدراسة أكثر من سعادتي بدراسة المعهد، فهذه الدراسة خاصة بي، وتتيح لي الفرصة أن أتحكم في برامج الدراسة، فما أريده يكون، وما لا أريده لا يكون، وهذه الدراسة تشعرني بذاتي..

وفي الوقت ذاته كان الشيخ يشجعني على حفظ القرآن الكريم وحفظ بعض الأحاديث النبوية، كما يشجعني على حفظ المتون وألفية ابن مالك والحكم العطائية، ويخصص لي حوافز تشجيعية، وعند المساء اسمعه ما حفظته في ذلك اليوم. ويسلمني المكافأة المالية المخصصة.

كنت أحفظ الكثير بسرعة، ولكنني كنت أنسى بسرعة أيضاً، كنت أقلب كتب الشيخ في مكتبته الخاصة، التي كانت تضم أمهات كتب التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة، وكان يفرح عندما كان يراني أقلب في الكتب واستخرج ما أريد قراءته، فيساعدني على الاختيار، ويشرح لي خصائص كل كتاب…

 

المرشد والمربي:

 

منذ طفولتي علمني قدسية العلم ومكانة العلماء، وحبّب إليّ الكتب والقراءة، وعندما كنت أسأله سؤالاً في العلم كان يجلسني إلى جانبه ويشرح لي الجواب بطريقة ميسرة ومحببة.

وبفضل تشجيعه المستمر لي حبب إلي العلم وكرهني في الجهل، وحذرني من علماء السوء الذين يتاجرون بعلمهم للتقرب من أصحاب السلطة والنفوذ، أو الذين يتملقون العامة بالتقرب إليهم بما يرضيهم، وكان يحدثني عن ثمرات العلم وأهم ثمراته العمل به، فمن لم يعمل بما علم فلا فائدة من علمه، وعلمه حجّة عليه، ويقول لي تعلم كل شيء، فالعلم بالشيء خير من الجهل به، ولكن لا تستخدم العلم فيما هو ضار أو غير مفيد.

كان من عادة الشيخ أن يسألني: ماذا درست هذا اليوم، فأجيبه بما درست، فيناقشني، ويسألني، فإذا قلت له: درست «الفقه، قال لي: ما حقيقة الفقه… ومن هم الفقهاء، وكيف يمكن للإنسان أن يكون فقيهاً..؟

ومما كان يحذرني منه الجدل، والجدل هو محاولة التغلب على الآخر «بقصد الانتصار للذات»، وهو صفة مذمومة، ودليل على غفلة القلوب، فالقلب الطاهر يميل للحق ويكره الجدل، فمن مالت نفسه إلى التغلب ولو بالباطل فهذا من صفات النفس التي تحب الظهور والمكانة في نظر الناس، والجدل يميت القلب لأنه ينمي قوى النفس الغريزية…

كان يقول لي: لابد للعلم من خُلُق، فمن تعلم ولم يتخلق فلا فائدة من علمه، وعلمه حجة عليه، فقد يعذر الجاهل بسبب جهله ولا يعذر العالم، لأنه علم الحق وخالف الحق، فهو مسؤول عن هذه المخالفة، والعلم له نور يضيء، فإذا لم ينشر العلم ضوءه فلا فائدة منه، ويبقى الظلام مخيماً على القلوب، والظلام يحجب النور، وبخاصة إذا كانت القلوب ملوثة.

والاستكبار عن الحق من صفات المنافقين، فالمنافق يعلم الحق إلا أنه لا ينصاع له ولا يستجيب لدعوته، ومن خصائص العلم أنه يعلم صاحبه الالتزام بالحق والخضوع له، وهذا هو العالم الذي يشرق العلم في قلبه نوراً، ولابد للعلم من ثمرة وأهم ثمرات العلم أن يتخلق العالم بالأخلاق المحمودة وأن يترك الأخلاق المذمومة، لأنها قبيحة، والعلم يمكنه من رؤية القبح فيها لكي يتحاشاه.

وكان يحذر من علماء السوء، وهم الذين يتعلمون العلم للتكسب به، وليس للعمل به فمن تعلم العلم لكي يكون أداة لمعيشته أذل علمه والعلم ليس أداة للتعيش به، فلا يقبل من العالم أن يكون ذليلاً ولا متملقاً ولا منافقاً، فالعالم رمز للنزاهة والاستقامة والترفع عن الصغائر.

كنت أسمع كل ذلك في كل خطوة، وقلّما كان يمرّ علي يوم لا أسمع فيه كلمة ناصحة مفيدة، ربما لم أكن أستوعب كل ذلك وأحياناً لا أفهم ما تعنيه تلك الكلمات من دلالات، إلا أن من المؤكد أنها كانت تختزن في الذاكرة، كحبات زرع ترمى في الأرض، أو كقطرات مطر تتجمع في أعماق الأرض، أصبحت هذه الكلمات التي أسمعها كل يوم جزءاً من تفكيري وجزءاً من ثقافتي حيث تمثل الرصيد الذي أحتفظ به في ذاكرتي.

وهناك مئات الكلمات هي مصطلحات لمعان معينة، خرجتْ من معناها الأصلي وأصبحتْ لها دلالات معينة، وهذه المصطلحات هي الأرسخ في ذاكرتي، لأنني سمعتها في طفولتي حيث كانت الذاكرة قادرة على الحفظ، وأصبحت فيما بعد أستخدم هذا الرصيد من الكلمات بمعناها الأول الذي ترسخ في ذهني، فكانت هذه المصطلحات تأتيني عفواً وبطريقة تلقائية، وكنتُ أجد صعوبة فيما بعد لربط هذه الكلمات بمعناها اللغوي الأصلي، ولكل علم مصطلحاته الدالة على المعاني المرادة في ذلك العلم، وعندما تترسخ هذه المصطلحات في الذاكرة تتحكم في اللغة المتداولة….

وبفضل تلك الفترة من حياتي أصبحت المصطلحات المستعملة في الفكر الصوفي جزءاً من ثقافتي العامة، وكنت أفهمها جيداً وبطريقة عفوية، وأستخدمها في مظانها، وربما أثرت في أسلوب كتابتي ولو في مجالات الفكر الإسلامي الحديث….

في تلك الفترة لم تكن القدرة على التأمل كافية للتمييز وذلك لعاملين:

أولاً:لعامل السن حيث يكون الطفل في مرحلة القابلية للأخذ والاقتباس فما تتلقاه النفوس تأنس به ويترسخ فيها من غير جهد.

وثانياً:بسبب الثقة المطلقة بمصدر التوجيه، فقد كان الشيخ بالنسبة لي ليس مجرد الجدّ العزيز الذي تربطني به صلة القرابة، وإنما كان بالنسبة لي هو المربي والمرشد والناصح والموجه، فما أسمعه منه فهو حق لا يحتمل التردد.

وهناك سبب آخر هو لهجة الصدق في المرشد والناصح، وهي لهجة مؤثِّرة، فالكلمة تنتقل بسرعة من المعلم إلى المتعلم وتحدث الأثر المطلوب، لوجود الصدق فيها، والصدق هو العامل الأهم في التأثير، والصدق والإخلاص ركنان مهمان في التربية والتوجيه والإرشاد وسر الإخلاص هو روح الكلمة الناصحة، ولا روح للكلمة التي فقدت معنى الصدق والإخلاص فيها.

والمتعلم في مرحلة التعليم يمر بمرحلة الاستفادة وهي حالة القابلية لاكتساب الجديد من الأفكار والقيم، ومرحلة الاستفادة تتمثل في تحزين المعلومات وتجميعها لكي تكون في الذهن ثم يجري بعد ذلك التأمل في تلك المعلومات، واختيار ما يلائم الإنسان منها. وأهم مرحلة من مراحل الاستفادة هي الطفولة حيث تكون قابليات الأخذ كبيرة، وبخاصة إذا أحب المتعلم معلمه ووثق به، وعندئذ تكون نفس المتعلم مهيأة لقبول كل التوجيهات، والمحبة ضرورية بين المعلم والمتعلم، وإذا أحب المتعلم معلمه وتعلق به كانت النفس مهيأة لقبول كل شيء، وفي ظل الحب يكون كل شيء جميلاً وحسناً ومستحسناً.

( الزيارات : 2٬473 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *