دور المؤسسات العلمية الإسلامية في التقريب بين المذاهب

دور المؤسسات العلمية الإسلامية

في التقريب بين المذاهب

مقدم

إلى الندوة الدولية حول “الاستراتيجية المشتركة للتقريب بين المذاهب الإسلامية”

التي تنظمها مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية بالاشتراك مع منظمة الإيسيسكو

بدمشق في الفترة من 10/4/1999 إلى 12/4/1999م

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تعتبر المعاهد العلمية في المجتمع مؤسسات قيادية تؤدي وظيفتها في تكوين التيارات الفكرية، وتوجيه الرأي العام نحو أهداف سليمة، تسهم في رقي المجتمع وسمو رؤيته الحضارية، وتبعده عن السلوكيات الضارة به، في حاضره ومستقبله.

ويجب أن تُعطى لهذه المؤسسات العلمية الفرصة لتصحيح المسارات الخاطئة وتقويم التصورات المنحرفة، وتطويق المظاهر السلبية سواء في مجال التصورات والأفكار أو في مجال القيم والسلوكيات، لئلا تطغى الأهواء الشخصية والتراكمات النفسية على اختيارات المجتمع والعبث بمصالحه وأمنه واستقراره.

ومن أبرز ما يجب أن تهتم به هذه المؤسسات أن تخضع الآراء والأفكار لمعايير نقدية، في محاولة لتصحيح المسارات، وتأصيل الأفكار، وإتاحة الفرصة للفكر والمفكرين لإعادة النظر في القضايا التاريخية وإعادة الاعتبار للحوار الجاد والمناظرات العلمية لكي تسهم في ترسيخ مكانة الفكر في المجتمع، واحترام حرية الرأي، وإفساح المجال لقبول التعددية الفكرية الناتجة عن الاجتهاد الصحيح الذي تدعمه النصوص، وتقود إليه الرغبة الجادة في الوصول إلى الحق والصواب..

ويعتبر منهج السلف في مناقشة القضايا الخلافية متميزاً ورائداً في إبراز المعاني التالية:

أولاً- الانطلاق من مبدإ البحث عن الحق: وهو الغاية المُثلى لكل جهد فكري أو موقف اجتهادي، ولا يجوز تخطّي هذه الغاية لئلا تصبح الأهواء أداةً لتمزيق الكلمة ونصرة المواقف الشخصية.

ثانياً- احترام الثوابت في مجال العقيدة، سواء في مجال التصورات الاعتقادية أو المواقف الفكرية، والثوابت واضحة في القرآن الكريم والسُنّة الشريفة.. ومنهج السلف الصالح في التفسير والتأويل هو المنهج الذي يحتكم إليه عند الاختلاف ويُقتدى به في مجال الفهم والبيان.

ثالثاً- التزام أدب الخلاف كمنهجية إسلامية معتمدة، تعبّر عن احترام الإسلام للعقل الإنساني ولدوره في إغناء الفكر وإنضاج الممارسة العقلية.

رابعاً- اعتماد أسلوب المناظرة العلمية كوسيلة للبحث عن الحق والصواب، والمناظرات العلمية إذا خلَت من الأهواء والنزعات الأنانية هي الأسلوب الأمثل للتقارُب بين الآراء والأفكار..

والمذهبية في التاريخ الإسلامي ظاهرة طبيعية ونتيجة حتمية للتطورات السياسية والفكرية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وهي مؤشر على تعددية الرؤية الفكرية، وتعددية الاختيارات في ظل مجتمع تجمعه وحدة العقيدة ووحدة الثقافة، وتفرقه صراعات تاريخية ومنافسات حتمية بين شعوب مختلفة الألوان والانتماءات واللغات والطبائع..

ولا يمكن افتراض الوحدة المذهبية في المجتمع الإسلامي، فالتعددية حتمية بسبب اختلاف النظر العقلي، وهي وليدة تعددية حقيقية في المكونات الذاتية للمجتمعات الإسلامية، ولا يكمن الخطر في وجود التعددية، وإنما يكمن الخطر عندما تصبح تلك التعددية أداة للتنافس والتناصر، وقد تؤدي إلى مواجهات خطيرة بين أطراف المعادلة الواحدة، بحيث يسعى كل فريق للتصدّي بكل وسيلة للفريق الآخر، والترصُّد له في كل موقف وموقع، والسماح للأهواء والخلافات أن تحكم قبضتها على العواطف والمواقف.

ومن حق كل جيل أن يكون وصياً على عصره، وأن يختار لنفسه من المواقف ما يعبّر عن قدرة هذا الجيل على اختيار الطريق الذي يضمن له النجاح  والتميُّز، والجيل الذي لا يُحكِم قبضته على عصره سرعان ما يكون عبئاً على الأجيال السابقة، ومن أهم معالم سيطرة الأجيال على عصرها أن تقوم بدورٍ بارز في إضفاء طابعها الخاص على مواقفها، بحيث يبرز التميُّز في مجال العطاءات الحضارية، والمنجزات العلمية، وتوفير ظروف التقدُّم والازدهار والاستقرار، وإعادة النظر في المواقف السلبية الضارة وتصحيح المسارات وتعبيد الطرُق المؤدية إلى تقوية الأُمّة وتوحيد كلمتها والدفاع عن مصالحها، في ظل منهجية سليمة للعمل البَنّاء الذي يُسهِم في تقدُّم المجتمع..

والمؤسسات العلمية هي أداة المجتمع للتقويم السليم وتأصيل الأفكار، والتخطيط والإعداد لمستقبل أفضل، ويجب أن يضع المجتمع ثقته في مؤسساته العلمية وفي رموز الفكر في المجتمع، وعلى هؤلاء أن يُسهِموا في إضاءة الواقع المُظلِم، وفي تنوير المجتمع بقضاياه، وفي تعميق رؤيته الحضارية، وفي رسم الطريق الذي يحقق للمجتمع الأمن والاستقرار، وعندما يفقد المجتمع ثقته بمؤسساته العلمية إما بسبب عجز هذه المؤسسات عن تحمُّل مسؤولياتها أو بسبب عدم ثقة المجتمع بحكمتها وبصيرتها فسرعان ما يتصدى رموز الجهل ودعاة التطرف وأصحاب الأهواء لقيادة الأمة والسيطرة على الرأي العام، لكي يحكموا سيطرتهم على صوت العقل، وعندئذ تعلو صيحات التطرف وترتفع رايات الجهل، وينقض المجتمع على مقومات الاستقرار فيه، فيعبث بها، ويستسلم لنزوات الطامحين والطامعين، ورموز الفتنة ودعاة الفوضى..

وتتمثل مهمة المؤسسات العلمية الإسلامية في تحقيق الخطوات التالية:

أولاً- تأصيل مبدأ الخلاف المذهبي من خلال التأكيد على شرعية حق العلماء في الإدلاء بآرائهم واستنباطاتهم في مجال التفسير والتفريع، واستعمال حقهم في قياس الفروع على الأصول، وبخاصة فيما يتعلق بدلالات الألفاظ على معانيها الشرعية، وتوضيح المعاني الاصطلاحية التي تحتاج إلى بيان..

ثانياً- التركيز على أهمية الالتزام بالثوابت الإسلامية التي لا تقبل الخلاف، ولا تحتمل التجاوز، وأهمها أن يقع الاحتكام إلى القرآن والسنة في كل خلاف، وأن تكون العقيدة واضحة وصحيحة، ولا تقبل الزيغ والانحراف، وأن يتفق الجميع على الالتزام بمنهج السلف الصالح في مجال العقيدة والتفسير والسلوك، والعقيدة الصحيحة من الثوابت التي لا تقبل الخلاف وبخاصةً فيما يعتبر من مبادئ الإسلام المستمدة من الأدلة النقلية..

ثالثاً- التوسع في مباحث الأدلة، وبخاصةً في حالات التعارُض بينها، ولا يتصور التعارض بين الأدلة، فإن تأكد التعارض فهذا دليل على وجود خطأ في الفهم أو جهل بمعرفة طبيعة الحكم الشرعي، لأن الشريعة لا يتصور فيها التناقض والتعارض، وعندما تعرف طبيعة الأحكام وزمانها والأسباب الداعية إليها يزول التعارض، وتبرز مقاصد الشريعة التي تتجلى في حماية المصالح الاجتماعية.

رابعاً- تجاوز الخلافات التاريخية التي أدت إلى نشوء المذاهب والفرق، وتلك مرحلة قد مضت، وكانت مرحلة قاتمة في تاريخنا الإسلامي، وخلفت آثارها السلبية في فكرنا الإسلامي، ومن واجب هذا الجيل أن يطوي هذا السجل من الذكريات والمآسي، فالتحديات التي يواجهها جيلنا المعاصر كبيرة وخطيرة، ومآسي هذا الجيل لا تقل عن مآسي الأجيال السابقة، وعلينا أن ننظر إلى واقعنا ومستقبلنا، وأن نعكف على دراسة التحديات المعاصرة التي تستهدف الإسلام كعقيدة والمسلمين كأمة..

خامساً- النظر إلى لفظة دار إسلام كأساس للتقارب بين الشعوب الإسلامية، ومنطلق للتعاون بين هذه الدول، على أساس احترام كل شعب لخصوصيات الشعوب الأخرى، واعتراف كل دولة بخصوصيات الدول الأخرى، وإقامة منهجية متكافئة وعادلة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، على أساس انتمائها لدار الإسلام وتكافلها للدفاع عن مصالح الشعوب الإسلامية.

ويجب أن نؤكد في كل مناسبة أن الغاية من التقريب بين المذاهب الإسلامية ليست إلغاء المذهب الآخر، ولا يجوز لأي مذهب أن ينكر حق المذهب الآخر في الدفاع عن ذاتيته وخصوصياته واستقلاله، ولكل مذهب رؤيته الخاصة في تفسير النصوص وفهمها، هذه الذاتية تعطيه حق الوجود وشرعية الدفاع عن نفسه، ولكن لا تعطيه حق التدخل والوصاية على المذاهب الأخرى.

وأعتقد أن المؤسسات العلمية الإسلامية مدعوة للقيام بمهمة التقريب النفسي بين المذاهب الإسلامية عن طريق وضع المناهج العلمية التي تساعد على إضعاف مشاعر التعصب لدى أتباع هذه المذاهب، وإيجاد قنوات للتواصل العلمي والثقافي لتأكيد الوحدة الإسلامية، وتغذية مشاعر الثقة بين مختلف المذاهب.

ويجب أن نؤكد على أن الوحدة الإسلامية هي شعار كل مسلم، وفي كل أرض إسلامية.. وفي أعماق كل مسلم عاطفة صادقة تشده إلى هذا الشعار، إلا أن عوامل خارجية وأخطاء مرتجلة قد تؤدي إلى تعميق الفجوة بين المذاهب في بعض الأحيان بتأثير مواقف سياسية ضيقة، وخلافات على المصالح والحدود، وتطلعات إلى السلطة والنفوذ، وعندما يتصدى رموز الفكر من حكماء الإسلام وعلماء الأمة لمثل هذه النزاعات الضيقة والمواقف الخاطئة فإن من المؤكد أن المجتمع الإسلامي سوف يثق بتوجيههم وينقاد لهم، ويفتح قلبه لكلمة الحق التي تدعوه إلى وحدة المسلمين كمنطلق ضروري لحماية المصالح الإسلامية والدفاع عن عقيدة الإسلام.

والتقريب بين المذاهب الإسلامية واجب ديني وواجب أخلاقي، ولا يمكن لأمة الإسلام أن تكون ممزقة ومفككة بسبب اختلافها المذهبي، يسعى بعضها لإضعاف البعض الآخر والترصُّد له، وهذه ظاهرة سلبية يجب أن تقاوم بمنهجية علمية للتقريب، تلتزم فيها الموضوعية والنزاهة والحكمة والصدق، والشعور بمراقبة الله تعالى ورعايته للمخلصين من دعاة التقريب من علماء الإسلام الذين يدفعهم إخلاصهم لتوحيد كلمة المسلمين لكي يتمكنوا من مقاومة التحديات التي تعترض طريقهم.

ويجب أن تقوم منهجية التقريب على الأسس التالية:

أولاً- قيام المؤسسات العلمية بوضع استراتيجية للتقريب بين المذاهب، تراعى فيها خصوصيات كل مذهب، وتدرس فيها الثوابت المشتركة التي وقع الاتفاق عليها، في مجال العقيدة أولاً وفي مجال الأحكام الفقهية ثانياً، والثوابت كثيرة وأوجه الاتفاق غالبة..

ثانياً- حصر المواقف الخلافية أولاً، ودراسة هذه المواقف في ضوء القرآن والسنة ثانياً، ومن المؤكد أن دراسة العلماء لهذه المسائل الخلافية سوف يؤدي بحد ذاته إلى أن يفهم كل مذهب آراء المذهب الآخر وأدلته ومواقفه، وهذا الحوار سوف يؤدي حتماً إلى تقارُب في الرؤية وفهم متبادل قائم على أساس علمي..

ثالثاً- الابتعاد كلياً عن إطلاق شعارات تعمق مشاعر الفرقة بين المذاهب، والإنكار على كل من يسهم في إثارة القضايا الخلافية كمطية للتقرب من العامة.

رابعاً- دراسة المفهوم الشرعي للفظة الإمامة وتعميق الدراسة حول هذا المفهوم لدى كل من السنة والشيعة، في ضوء المعايير الشرعية التي استنتجها العلماء الذين تخصصوا في دراسة الأحكام السلطانية ومباحث الإمامة، وبالرغم من صعوبة الاتفاق على رأي موحد لمفهوم الإمام وبخاصة فيما يتعلق بعصمة الأئمة وما يترتب على ذلك من آثار في مجال الأحكام الفقهية فإن من اليسير أن يقع التقارب في الأفكار لحصر الآثار في الفروع الفقهية التي لا يترتب على اختلاف الرأي فيها ما يدعو للفرقة والتباعد والتنافر..

خامساً- تكوين رأي عام إسلامي ينظر للخلافات المذهبية في إطار التعددية الطبيعية الناتجة عن تفاوت العقول في الرؤية الاجتهادية واختلاف المكونات الثقافية والعوامل التاريخية التي أسهمت في ترسيخ المذهبيات الإسلامية.

ولا أعتقد أن أي مذهب من المذاهب يرفض الاحتكام إلى القرآن والسنة وما اجتمعت عليه الأمة من مبادئ العقيدة وأصول الأحكام، فإذا وقع الاتفاق على هذه الأسس فإن من اليسير أن يقع التقارب بين المذاهب المختلفة، بفضل الالتزام بهذه القاعدة التي تعتبر القاعدة الأساسية للتقريب بين المذاهب.

وأخيراً.. أود أن أؤكد على أن المذهبية في بدايتها نشأت في أحضان الاختلافات السياسية، ونمت وترعرعت في ظل هذه الاختلافات، وإذا أريد لدعوة التقريب أن تحقق غايتها المرجوة فإن من واجب هذه الدعوة أن تتحرر من كل وصاية سياسية، وأن تعبر الحدود ممتطية جياد الوحدة الإسلامية، التي يمتطيها علماء الأمة وحكماء الرأي الذين ارتضتهم أمتهم ليكونوا رموز الإصلاح ودعاة الخير من أهل الفضل المعتزين بخلق الفضيلة والاستقامة والنزاهة..

( الزيارات : 992 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *