دولة ابن خلدون ودولة اليوم

ذاكرة الايام..الفرق بين دولة ابن خلدون ودولة اليوم..
فى بداية حياتى الجامعية كان هناك سؤال يتردد فى ذهنى عن موقف الاسلام من الملكيات الفردية والاموال والحقوق , وكانت كتاباتى الاولى ومحاضراتى العامة عن الاقتصاد الاسلامى وكانت محاضرتى الاولى فى جامعة الامام محمد بن سعود فى الرياض عام 1966 فى الموسم الثقافى عن مكانة الاقتصاد الاسلامى بين النظم الاقتصادية المعاصرة , وقد قدم المحاضرة الصديق الدكتور عبد الله التركي الذى اصبح فيما بعد مديرا للجامعة ثم وزيرا للشؤون الاسلامية , وكان من اعز الاصدقاء فى تلك الفترة , ثم اخذت اتساءل عن مفهوم الدولة والمسؤوليات الاقتصادية للدولة , وعكفت على دراسة مفهوم الدولة والدستور ووظائف الدولة والخلافة والوزارة والامارة وكتبت عن ولاية المظالم وولا ية الحسبة , وصدر كتابى الثانى عن نظام الحكم فى الاسلام الذى طبعته جامعة الكويت , لم يقنعنى ما كتبته وما زال التساؤل قائما , كنت اشعر اننى اكتب عن التاريخ وكيف كانت الدولة فى تاريخ المسلمين واعتمدت على ماكتبه عدد من العلماء, واهمهم الامام الماوردى فى الاحكام السلطانية , ليس هذا ما كنت ابحث عنه وار يد ان اكتب فيه , وكنت اتساءل عن شرعية الدولة وكيف يجب ان تكون , لم اجد فيما اطلعت عليه ما يفسر لى موقف الاسلام من الحكم , هناك موضوعات مهمة وهي البيعة واهل الحل والعقد وكيف يتم اختيار الامام , كان العلماء يصفون الواقع كما كان وعندما يتحدثون عن البيعة يقولون هي عهد على الطاعة وكان الخليفة يجبر اهل الحل والعقد على ان يبايعوه رغما عنهم , ومن رفض اليبعة اكره عليها فمن رفض كان مصيره السجن او القتل , فلا احد يمكنه ان يعترض او يناقش , وكانت هناك ثورات وامتحن الكثير من العلماء بسبب مواقفهم , وكلفت احد طلابى ان يكتب اطروحته فى الدكتوراه عن البيعة كما وقعت فى التاريخ الاسلامى وبعد فترة جاءنى معتذرا وطلب منى ان اعفيه من الخوض فى هذا الموضوع الشائك والمعقد , وعندما عكفت على دراسة مقدمة ابن خلدون بعد عشر سنوات رأيت ابن خلدون يشرح كيف كانت تقوم الدولة وكيف كانت تسقط , وركز اهتمامه على موضوع العصبية القبلية التى كانت العمود الفقرى للدولة وكان يرى ان قيام الدول يعتمد على التغلب والقوة , والتغلب يعتمد على قوة القبيلة وقدرتها على المدافعة اولا والمغالبة ثانيا , وتكلم عن البداوة والحضارة , والبداوة اقدر من الحضارة واكثر صمودا لطبيعة حياة اهل البداوة القاسية واستعدادهم للتضحية للدفاع عن انفسهم اولا فاذا انتصروا اقاموا دولتهم التى تنسب اليهم وتمتد دولة ابن خلدون اربعة اجيال , الجيل الاول وهم بناة الدولة من اصحاب العزائم , وعندما ينتصرون ينفرد احدهم بالمجد والحكم ويبعد المنتصر اهل عصبيته الذين صنعوا له مجده ولا يريد ان ينافسوه فى مجده , وقد يفتك بهم الى ان يبعدهم عن طريقه ليضمن سلطته وبيعته والرضوخ له , ويصطنع من اعوانه من لا ينافسه فى سلطته ومن يرضى به ويقدم له الولاء والطاعة من غير تردد , فاذا تمكن من ابعاد منافسيه انفرد بالمجد فلا احد ينافسه او يقف فى طريقه , وهذه طبيعة الحكم من اقدم الازمان , ومن اليسير علي المنتصر ان يصنع لنفسه حاشية مطيعة راضخة تشعره بالمجد , ومعظم الكبار من اعوانه فى ايام البؤس لا يرضون ان يتملقوه فيبعدهم عن طريقه لئلا يمنوا عليه بما فعلوه لاجله , فاذا تمكن من الحكم وترسخت سلطته ابعد امراء الجند من مجالسه واستدعى الشعراء واصحاب الادب والقلم لكي يمدحوه شعرا ويكتبوا عنه نثرا ويمجدون انتصاراته على اعدائه وينسبون له من اوصاف الكرم و السخاء والشجاعة والحكمة والسمو ما يسعده ويرفع من شأنه فى قومه , ولذلك كانت المبالغات فى مدح الحكام فى كل ما يفعلون , وهكذا ينقل التاريخ امجاد الملوك الاقدين كما هو فى كتب اتاريخ , ثم ياتى الجيل الثانى من ابناء هؤلاء وهم ما يزالون يحملون خصائص سابقيهم قوة وعزيمة , ويتمكن الملك فيهم ويترسخ ولا احد يمكنه ان يتصدى لهم لقوة دولتهم وهيبتهم , وما زالت الدولة قوية ومهابة ومتماسكة , ثم ياتى من بعدهم الجيل الثالث وهو جيل الاحفاد وقد اعتادوا عوائد الترف والانفاق فيختلفون فيما يبنهم على المغانم والمكاسب فيأخذون ما شاؤوا من الاموال العامة ويغتصبون الحقوق ويبنون القصور ويتفاخرون بما يفعلون ويفعلون كل شيء ولا يخجلون , اليست الدولة دولتهم المال مالهم وقد اخذوه بالقوة وغنموه بالقوة والغلبة , وفى عصر هؤلاء يشتد الانفاق ويكثر ويكون الترف واضحامن غير مبالاة وتضعف الدولة ويذهب المال كله الى بناء القصور والتفنن فى بنائها ويكثر السفه فى هذا الجيل ويضيق حماتهم من امراء الجند بما يفعلون ويرون انهم احق بالمال منهم لانهم هم الذين يدافعون عن الدولة فيتمردون ويثورون , وتزدهر الصنائع والحرف فى هذه الحقبة نظرا لحياة الترف وكثرة الانفاق على العمران وما يشبع اهواءهم وشهواتهم , وعندما ياتى الجيل الرابع وهو جيل شيخوخة الدولة يكون كل شيء قد بلغ نهايته , ويكون اهل الدولة فى غفلة من امرهم يتنافسون على المغانم ويفقدون القدرة على الدفاع عن الدولة امام عصبية تقف بالمرصاد لهم تتربص بهم وتنتظر غفوتهم , وتنقض عليهم فى ليلة مظلمة وهم غارقون فيما انصرفوا اليه من الفساد والتنافس ويكون بأسهم فيما بينهم شديدا , وتكون المواجهة الاخيرة بين عصبية مفككة متنافسة مترنحة افسدها ترفها وكانت متكئة على الارائك وبين عصبية مقتحمة بعزم وارادة متماسكة متكافلة , ومن الطبيعى والحتمى ان يكون النصر لمن هو اقوى واكثر صمودا وتضحية , هذا هو منطق التاريخ , تنتهى دولة العصبية وتاتى عصبية جديدة اكثر قبولا وصدقا وقوة , وتبتدئ رحلة جديدة من التغيير والتجديد ..
تاملت فيما كتبه ابن خلدون فى مقدمته وسجلت كل ذلك فى كتابى الذى كتبته عن ابن خلدون , لم يكن ابن خلدون منجما ولا ناقدا لما كان فى عصره مما كان يسجله فى عزلته بعد رحلة مع طموحاته التى اثقلت كاهله وكان ينتقل فيها من القصور الى السجون فى ظل حقبة من الصراعات على السلطة فى الغرب الاسلامى فى اواخر عصر المرينين وانما كان عالم اجتماع كتب عما رأه من تاريخ الدول من منطلق موضوعى , لا انحياز فيه لاحد ,ولا انفعال ولا سخرية مما كان يراه امامه من احداث ..كان فى عزلته الاختيارية فى قلعة منعزلة ..
تاملت فى كل ذلك طويلا وانا اكتب كتابى عن الدولة والحكم عند ابن خلدون واستمعت جدا بما قرأته فى المقدمة وقارنت بين عصر ابن خلدون وعصرنا اليوم , لم تعد الدولة كما كانت فى عهد ابن خلدون , دولة اليوم هي دولة المؤسسات التى ينظم امرها دستور ينظم امرها ويشارك الشعب فى وضع ذلك الدستور ويقع احترامه من الحاكم ويلتزم به المواطن ويرجع اليه , دولة ابن خلدون هي دولة القوة والغلبة , ودولة اليوم هي دولة مختلفة كل الاختلاف , لا بد فيها من دستور والتزام به , لم يعد المواطن يقبل بما كان المواطن يقبل به , لا بد من التفويض الارادى والمراقبة القانونية واستقلال القضاء ومجالس منتخبة , لا بد من دولة القانون والعدالة , العدالة لا تتجزأ فاما ان تكون او لا تكون ولا احد خارج المساءلة عما يفعل , مفهوم الدولة قد تغير واصبح المواطن اكثر فهما لما يملكه من حقوق فى ارضه وفى وطنه , التجاوز هو التجاوز , ليست هناك عدالة ناقصة او نصف عدالة , الاصلاح اصبح مطلبا مشروعا , المواطن لا يعنيه من يحكمه وانما يعنيه ان تحترم حقوقه وتصان كرامته , لا احد فوق القانون , فى ظل التواصل الاخلامى اصبحت الحقوق المشروعة اكثر وضوحا ولا احد يمكن ان يفرط فيما هو حق له , الحكم امانة ومسؤولية , كل خطوة الى الامام فيجب ان تشجع وكل خطوة الى الوراء فيجب التصدى لها , الكل مسؤول عما يفعل امام الله وامام من هو مؤتمن عليه من الافراد والشعوب والمجتمعات .. اليوم ليس هو الامس فاما ان نعيش عصرنا بما هو فيه واما ان نكون فى غفلة تقودنا الى ليل مظلم من الفوضى , التغيير سيكون لا محالة فاما ان نقوده بانفسنا او يفرض علينا من شعوبنا , وعلينا ان ننصت لشعبنا وان نكون معه , المهم ان نمشى الى الامام والى الافضل وان نتقى الله فى عملنا والا نظلم مستضعفا وان نختار الطريق الذى لانندم عليه , فان اصبنا واردنا الخير فالله لا يضيع اجر من احسن عملا
( الزيارات : 1٬070 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *