ذاكرة الايام المجموعة الثامنة

ذاكرة الايام..احلام كانت من قبل .

 عندما كنا طلابا فى الجامعة كنا نحلم كثيرا بالافضل , كنا صادقين فيما كنا نقوله , لم نكن نبالغ او نجامل او ننافق , كنا نعتقد اننا على حق , كنا اكثر صدقا واقل تجربة , عندما اسمع اليوم كلمة من شاب اصدقه فيما يقول والتمس له العذر فيما يفعله ولو رأيت في كلامه تجاوزا فى احلامه , لقد كنا كذلك من قبل , عندما اتذكر ما كنا فيه التمس لكل شاب العذر واشفق عليه , انه يحلم كما كنا نحلم , كنت اخاطب نفسي واقول لعله يكون اكثر حظا من سابقيه , التجربة كانت هي المعلم الاهم والاصدق , الحياة تعلمك ان تكون اكثر فهما لواقعك واقل تفاؤلا , ما نراه ليس هو الحقيقة , ما نراه هو الواقع , ليست كل الشعارات صادقة , هناك ما اعتدنا ان نردده فى حياتنا , مشكلتنا اننا نحفظ كثيرا ونقلد اكثر , وقلما نتامل او نفكر , اننا نخاف من الحقيقة ولا نريد ان نتحمل المسؤولية , كنت الاحظ ان كثيرا من الناس لا يريد ان يتعلم , مازالت مدارسنا تعلمنا ان نحفظ وان نردد ما نحفظه , هناك شيء ما فى تربيتنا يحتاج الى اعادة النظر فيه , كنت ارى الكثير ممن اعتاد الظلام وانس به , عندما اتذكر كيف كنا فى بداية الرحلة نحلم وننظر الى المستقبل افهم الكثير مما عليه الشباب اليوم , معظم جيلنا لا يحب التغيير ويعتقد اننا على حق , هناك شيء ما فى تربيتنا يجب ان يتغير , هناك الكثير مما يجب ان يتغير فى مناهج تربيتنا , ليست كل القيم تعبر عن قيم اصيلة , التربية الدينية تعمق القيم الاخلاقية الراقية وتجعل الانسان اكثر رحمة واستقامة وانسانية , ما يتنافى مع القيم الاصيلة التى تعمق قيم الخير والفضيلة فى السلوك الاجتماعى فليس من الدين , لا يمكننا ان ننسب الى الدين ما ليس منه , الدين ايمان وخلق ورحمة ويدعوك الى احترام كل الاخرين , ليس من الدين ان تكون وصيا على الاخرين فى دينه او حياته او اختياراته , الكراهية والبغضاء ليست من الدين ولا تتفق مع اخلاقية الدين , مهمة الدين ان يجعلك افضل وارقى وارحم , هناك ثقافة هي وليدة الجهل والتخلف ويجب التصدى لها وتشمل كل المعتقدات والسلوكيات الاجتماعية التى لا تجد لها اصلا في الدين ولا تحقق هدفا من اهدافه التربوية .

…………………………………………………………………

ذاكرة الايام..تجربة حياة..

لا احد لا يستعيد ذكريات الماضى ,  عندما نتاملها نضحك حينا ونحزن حينا اخر , نتذكر كيف كنا , احيانا نتعلم من تلك الذكريات دروسا , انها المرآة الصادقة لما نحن فيه , كل واحد منا يتساءل فى داخله : هل يمكننا ان نفعل ماكنا نفعله من قبل , هل نحن اليوم افضل مما كنا فيه , نحتاج الى معيار نقدى لكي نضع انفسنا امام المساءلة الوجدانية , تلك صفحات حقيقية فى تاريخنا , هناك مواقف نعتز بها ونفخر , وهناك مواقف نخجل منها ونتمنى انها لم تكن , هناك اخطاء قد ارتكبناها ودفعنا ثمنها , ما احوجنا الى منهج نقدى نحاسب به انفسنا , الحياة هي المدرسة الاهم فى حياتنا, وهي الكتاب الذى كتبناه واليوم نعيد قراءته , سؤال يتردد باستمرار : لوعدنا الى البداية هل سنمشى فى نفس الطريق الذى سرنا فيه من قبل , احيانا نريد ان نجنب اولادنا تلك الاخطاء التى ارتكبناها , كنت شديد القسوة على نفسي في مساءلتى لنفسي عما فعلت من قبل , ليس كل مااخترناه لانفسنا كان صحيحا , مازلت اذكر ملامح رجال صادفتهم فى حياتى وازداد اعجابا بهم وحبا لهم , وهناك اخرون لم يكونوا كذلك ابدا , اذكر اننى التقيت قبل خمسين عاما برجل ليس صديقا ولا اعرفه من قبل والتقيته مرة واحدة وما زلت اذكره حتى اليوم واتمنى ان اراه لكي اشكره على موقف او خلق ما زلت اكبره , وهناك اخرون لم يكونوا كما توقعناهم ابدا , ولكن هذه هي الحياة , رأيت الدين والاخلاق فى اناس ليسوا ممن اشتهروا بالدين والاخلاق فى مجتمعهم ولكنهم كانوا كبارا فى مواقفهم وانسانيتهم , لم اكن اهتم بالمظاهر ابدا, كنت ابحث عن الانسان , هناك رجال ليسوا كما نظنهم فيه , كان معيارى هم الانسان بقيمه العالية وخصاله الرفيعة , ما اجمل مدرسة الحياة ونحن نعيش احداثها يوما بيوم , اننى اشعر اننى مدين لكثير ممن عرفتهم وما زلت اذكرهم باستمرار , كنت ارى الاخيار اكثر من الاشرار , وكنت ارى الصالحين اكثر من الفاسدين , الخير موجود فى الانسان , ما رأيت سببا لافساد النفوس كالظلم , وما رأيت وصفا اشد اذلالا لصاحبه من الجهل , وما رأيت نعمة اشد ضررا بصاحبها من الترف , اوصاف ثلاثة هي الاشد فتكا بالانسان , الظلم والجهل والترف , وما اجتمعت هذه الاوصاف فى شخص الا افسدت حياته وجعلته اكثر شقاءا , كانت لى معايير مختلفة كنت اعتمد عليها , الجهل لا يعنى عدم القراءة والكتابة وانما هو اعم واشمل , رايت الجهل فى كثير ممن تعلموا وتفوقوا فى علمهم وشهاداتهم , واسوا الناس هم قساة القلوب وهؤلاء لا يعرفون الرحمة وهم ابعد الناس عن الله تعالى ولو ادعوا خلاف ذلك , كنت احترم كل انسان يخجل من افعال النقصان ولو كان خصما لى , وكنت احب كبار النفوس وهؤلاء هم اصحاب الهمم العالية ,

 ما زلت اذكر الكثير مما شاهدته من الاحداث وما التقيت بهم من الاشخاص , لم اكن اسمح لنفسي ان اكون وصيا على ما يختارون لانفسهم , وهذا امر لا يعنينى لانه من اختصاص اهله , وكنت اعترف ان من حق الاخر ان ينظر لى وفق معاييره الخاصة وهذا حق له , فقد يحكم علي بنفس المعيار الذى انظر اليه فيه , جمال الحياة فى ذلك التنوع والتعدد وهذا هو كمال الحياة , عندما نفهم كل الاخرين فنحن نقترب منهم , وعندما نحبهم نكون اكثر رحمة بهم , كل الاخرين يملكون مانملك من حقوق, وهذه الحياة هي ملك لكل الخلق , وهؤلاء هم عباد الله ولو قصروا او اخطؤوا او ضلوا, والله هو الذى يحاسبهم وهو اعرف بهم وارحم , ليس من وظيفة العبد ان يتدخل فيما اختص الله به , تعالوا نحاسب انفسنا عما قصرنا فيه, وندع شؤون الاخرين لانفسهم فالله اعرف بهم وبما يسرون وبما يعلنون ..

…………………………………………………………………

ذاكرة الايام..لم نكن هكذا ابدا..

لم نكن هكذا ابدا ..

اكثر من نصف قرن من الذكريات والاحداث والانتصارات والنكسات واعترف اننا لم نكن هكذا ابدا ..

 كانت الانتصارات تسعدنا والنكسات تنهضنا والاحباطات سرعان ما تغادرنا وتبتدئ المسيرة بعدها الى الامام , مازلت اذكر الكثير مما كان يحزن ويؤلم ولكننا لم نكن هكذا ابدا ..كانت هناك نافذة امل نطل من خلالها على المستقبل .. كان هناك قدر من التفهم المتبادل , كنا نغضب كما يغضب افراد الاسرة ويتبادلون كلمات العتاب بعبارات لا تخلو من اللباقة الاجتماعية ونظرات المودة , فى المساء كان الكل يمازح الكل ويهتف باذنه كلمات المودة التى تعبر عن تلك الرابطة الانسانية والاسرية .. كنت اتابع باهتمام ماكان فى الماضى وكان يؤلمنا ونتمنى الا يكون , اليوم قد سقطت الاقنعة وضعفت الثقة , امر ما قد بدأ يؤتى ثمره فى ابداننا , شحوب وانفعالات وابواب تغلق وجدران تتصدع , كان العدو يجمعنا ويقرب بيننا واصبح العدو قريبا , الكل فى مواجهة الكل والكل يتربص بالكل , كان الاعلام يتكلم عن الانجازات والمكتسبات واصبح الاعلام اليوم يبحث عن الهفوات والسلبيات , لم نكن هكذا ابدا,

اصبحت كل عاصمة عربية ابعد عن العاصمة المجاورة من كل عواصم العالم , اين الثقة التى كانت من قبل واين الامال التى نفرح لها ونصفق , اصبحنا نبحث عن الحد الادنى من التوافق الظاهرى فيما لا يمكننا ان نختلف فيه , اصبحنا نتوقع الاسوأ , اصبح عداؤنا لبعضنا اشد من عدائنا لعدونا , اصبحنا نخاف من الاجتماعات لكيلا تنفجر الخلافات وتتسع , لم يعد هناك كبير يجمع ولا حكيم ينصح , الخطر اليوم اشد مماكان من قبل , كنا نحلم بالافضل واصبحنا نتوقع الاسوأ , كلنا مسؤولون عما يجرى , لا احد لا يتحمل المسؤولية , كل غاباتنا قد يبست اشجارها لا لان ارضنا مجدبة وقاحلة ولا لان انهارنا قد نضبت ولكن لان نفوسنا قد ساءت وضاقت , لسنا افضل من الاخرين اخلاقا ورقيا ولكننا لسنا اسوا منهم , ثقافتنا الاسلامية هي ارقى الثقافات فى دفاعها عن كرامة الانسان واخلاقية السلوك , ما يجرى اليوم فى مجتمعاتنا الاسلامية لا يقره الاسلام ,

اين قيم المحبة والتسامح والعفو والسلام ,

اين اثر العبادة فى فكرنا وسلوكنا ..

ثقافة الكراهية والحقد والعدوان ليست هي ثقافتنا , الكراهية والبغضاء ليست من ثقافتنا ولا تتفق مع تربيتنا الاسلامية , نريد من كل العقلاء والحكماء ان يرفعوا اصواتهم موقظين وناصحين , لن نيأس مهما اشتد ظلام ليلنا , لن نستسلم لما نحن فيه , اصبحنا غرباء فى ارضنا والكل يعبث , شعبنا سيظل هو المؤتمن على ارضه وهو الذى لن يغادر وطنه مهما كانت التحديات , جيلنا مؤتمن على وطنه , العقلاء مكلفون ومؤتمنون , سيعيد شعبنا بناء ما تهدم , مهما طالت الازمة فالفجر قادم لا محالة ..

…………………………………………………………………

ذاكرة الايام.. مجالس لا تنسى .

 على امتداد ستين سنة حضرت اهم مجالس العلم والتقيت اعلام هذا العصر فى مختلف بلاد الاسلام واجتمعت بعلماء ومفكرين هم النخبة المتميزة , وحضرت مجالس الحكام واصحاب المكانة والسلطة واعترف اننى فى كل ذلك كنت ابحث عن ذلك الدفء الروحي والسكون القلبى كالذى كنت اشعر به فى طفولتى الاولى فى مجالس السيد النبهان طيب الله ثراه فى مدينة حلب فلم اجد له مثيلا او قريبا , كنت احن الى تلك المجالس البسيطة التى لم تكن تثير اهتمام الباحثين عن المظاهر الدنيوية ومعايير التفاضل والتميز والتفاخر بالدنيا , في تلك القترة لم أكن اشعر بها ، الْيَوْمَ اشعر انني ما زلت احن الى تلك المجالس وكلما امتد العمر واتسعت معرفتى بمختلف العلوم التى كنت اتابعها باهتمام كنت اشعر ان كل ذلك لا اهمية له ولاطائلة ترجى منه وازداد به غفلة و جهلا واصبحت اتساءل اين نحن مما نسير فيه ونهتم به , واصبحت كمن خاض بحرا ولما ابتعد عن الشاطئ وتوغل فى البحر اضطربت رؤيته واصبح يتساءل هل انا فى هدى او ضلال , كنت اجد فى اولئك الناس البسطاء الذين كنت اراهم فى تلك المجالس من الدين والصدق والفهم والتقى مالا اجده لدى كبار العلماء ممن يتصدرون المجالس ومعظمهم من الرموز المضيئة فى مجتمعهم , وعندما كنت اقترب منهم اراهم كغيرهم من الناس لا يفضلون غيرهم بمزية او فضل , وهم باحثون عن الدنيا من سلطة او مال او جاه او مصلحة وهي التى تدعوهم فيستجيبون ولا يتورعون عن اي ثمن يقدمونه ولو كان فى ذلك مما لا يليق بهم من انواع السلوك , كنت اتساءل عن ذلك السر الذى يملكه اولئك الصالحون الذين احبوا الله واختاروه وزهدوا فى كل شيء يحجبهم عنه , ولا اعنى بالزهد ذلك التصور السلبي المقترن بالكسل والتواكل وانما اقصد الترفع عن الدنيا ولو كانوا يملكون اسبابها من سلطة او مال وذلك الزهد , كنت اجد لدى هؤلاء فهما لم اكن اجده لدى غيرهم , وادبا متميزا لا يصدر الا من اهل الادب , وكنت اسمع منهم كلاما عميقا وفهما اصيلا قد لا يحسنون التعبير عنه ولا يمكنه ان يصدر من اعلام العلماء , كنت اتساءل عن ذلك السر الذى يملكه هؤلاء ولا يدرون , واتساءل أيضا عن ذلك الصفاء الروحي الذى يجعلهم متميزين عن كل الاخرين , لقد كتبت اكثر من ثلاثين كتابا علميا واكثر من مائتى بحث علمي منشور وعندما اخلد لنفسي اتساءل متأملا واقول لنفسي هامسا : وما ذا بعد ..

اقول هناك شيء ما فى الحياة التى نعيشها ليس هو الابدان الفانية وانما هي الارواح التى تستمد نورها من النور الالهي الذى يجعل الانسان اكرم مكانة عند الله من كل الخلق , وذلك النور هو سر الهداية والرعاية , وتلك الارواح هي من الفيض الالهي الذى كانت به كل الكائنات وما اراده الله فى خلقه لا بد الا ان يكون, ولكننا لم نتوصل اليه ولا يمكن للعقول ان تدركه بالحواس الظاهرة , لقد تعلمت من مجالس السيد النبهان اكثر مما تعلمته من الكتب , وهو الذى استمد منه بعض مفاهيمى وأفكاري التى كنت اشعر انها اكثر رقيا وانسانية وعمقا مما كنت أراه في الكتب , ليس المهم ما نتظاهر به وما نتكلفه وانما المهم هو مانحن فيه حقيقة من غير تكلف , ما نتظاهر به ليس هو الحقيقة ابدا ..ذلك الجوهر الكبير فى اعماقنا هو الذى ندرك به ما يريده الله منا وندرك النور الذى يجعل حياتنا اكثر رحمة ومحبة وفهما لمعنى ان نكون موطنا للتكليف الالهي ..

…………………………………………………………………

ذاكرة الايام.. .كيف نفكر ونتعلم من الحياة ..

لم يكن يعنينى فيمن كنت التقى بهم من العلماء والمثقين والمفكرين  الذين تعلمت على ايديهم او ممن التقيت بهم فيما بعد من الزملاء فى مختلف التخصصات العلمية مقدار ما علموه وحفظوه واطلعوا عليه من الكتب ولا مقدار ما كتبوه ونشروه , ذلك امر لم يثر اهتمامى ولم يكن هو المعبار الذى احكم به على هؤلاء ,ما كان يثير اهتمامى هو اثر ذلك العلم فى افكارهم وحياتهم واسلوب حياتهم , وهو الثمرة المرجوة من ذلك العلم , والعلم كالغذاء والطعام بالنسبة للانسان , ليس المهم حجم ما ياكل وانما المهم هو اثر ما ياكله على صحته وملامحه , هناك من ياكل كثيرا ومع هذا فان ملامحه تعبر عن شحوب فى اللون وضعف فى البدن , كنت ابحث عن ذلك الاثر فى حياة الفرد او المجتمع , كنت اريد ان اعرف منهجية كل من القاه في فهم ما اطلع عليه , كنت اتساءل كيف توصل العالم والكاتب الى ما كتبه , لم اكن احب ان اقلد وكنت اكره ذلك , كنت اريد ان افهم بنفسي , كنت اتساءل لما ذا نخاف من التعبير واذا فكرنا فاننا نخفى ما فكرنا فيه وكاننا ارتكبنا اثما وبخاصة اذا كان ما فكرنا فيه يصطدم بواقعنا , كنت اريد ان تعبر افكارى عن قناعاتى , احيانا كان ذلك يولد لى مشكلة , وبعد ذلك فهمت ان كل انسان يدافع عما اعتاد عليه ولا يريد التغيير , لا احد يرى انه على خطا , الجاهل يعتقد انه على حق وكل الاخرين على باطل , احيانا كان يعترينى الشك فيما ترجح لى انه الحق, اما الجاهل فهو اشد ايمانا ويقينا بما هو عليه , , كنت التمس العذر لكل المخالفين لى , واقول لنفسي هامسا لعلهم على حق , افكارنا هي وليدة ما فى داخلنا , تجاربنا اليومية هي مصدر ما نفكر فيه , مصالحنا هي المحرك الاهم لكل سلوكنا وافكارنا , مهمة العلم ان يجعلنا اكثر قدرة على فهم الحياة والتحرر من الخوف والتغلب على الجهل واختيار الطريق الذى نراه انه الحق وما خالف الحق فلا يليق بالانسان ..

…………………………………………………………………

ذاكرة الايام…الا نعتبر ..

 مازالت ذكريات الطفولة عالقة فى الذاكرة , انها جزء مما نفكر فيه , بعض ما فى الذاكرة مفرح ومبشر وبعضه محزن ومؤسف , ما زلت حتى اليوم استعيده لكي اتعلم منه , كنت متاملا وناقدا واحيانا منكرا , ما فى الذاكرة نبنى عليه مواقفنا , لا شيء مما كنت اراه لا يخضع للتامل العاقل من غير تعصب او انفعال , كنت كثير الشرود وانا اتتبع ما اراه فى تلك الطفولة , بعض ما ننكره نعبر عن انكارنا له , ومعظمه نهمس بالانكار الصامت , لان حصون الجهل اقوى واشد رسوخا , ما دام الجهل محصنا فلا مجال لاختراق اسواره العالية , ما ننكره من الاعراف والتقاليد والمفاهيم كثير , والسكوت عنه لا يعنى اقراره , التعصب والجهل والتقليد ثوابت فى ثقافتنا المعاصرة وفى تربيتنا ومناهجنا , وهي امراض مستعصية , وهي سبب الخلل فى الابدان , مجتمعنا يعيش فى ازمة حقيقية , كلنا يسأل عن الطريق , وفى الظلام لا يعرف الطريق , المستفيدون من الجهل والتعصب والتخلف يقفون على الابواب يحرسون مصالحهم لتبرير الواقع كما هو , وهم اقوى نفوذا من كل الاخرين , فى الظلام كل الاشباح تتحرك , والصادقون قلة وقلما يتقدمون او يتكلمون , كل المسيرات انطلقت ومسيرة المتغالبين المتنافسين من الشعوب ما زالت لم تغادر موقعها , وقد لا تنطلق ابدا , المسيرة المخترقة لا تنطلق ابدا , وما يبنيه جيل سيهدمه جيل لاحق , كنا فى الطفولة نعانى من الجهل ونحلم بالافضل واليوم نعانى من الجهل المقدس باسم الدين والوطنية والمذهبية والولاءات , ما استعانت امة بعدو لها الا اذلها الله وجعل باسها شديدا , وما انتفت الرحمة فى اسرة او مجتمع او شعب الا سلط الله عليهم سفهاءهم , اين الدين والاخلاق فيما نحن فيه , لم نكن من قبل كما نحن اليوم , كان الجهل ولم يكن السفه , وكان الجهل ولم تكن القسوة والانانية , كان التناصر والتكافل يقرب ما تباعد من المصالح والعواطف واليوم فقدنا الامل فى كل شيء , واصبحت كوابس الغد تخيف اطفالنا من الغد, اصبحنا فى عصر نتوقع كل شيء من الكوارث والنكبات , فى عصر السفه كل شيء ممكن الا الامل , اصبحت رايات الغزاة فى ارضنا اكثر من رايات الوطن وهي الرايات التى تدق لها الطبول فى ساحات الوطن , هذه الصراعات المذهبية والقومية والعصبيات القبلية ليست امرا مبشرا ولم نكن نعهد مثلها من قبل , الا نتعلم من التاريخ دروسا وعبرا , ما زالت كتب التاريخ تتحدث عن دول الطوائف فى الاندلس

…………………………………………………………………

ذاكرة الايام..التعصب المذهبى

مما كان يثير انتباهي  هو ذلك التباعد النفسي بين اتباع المذاهب الفقهية , وذلك بتاثير التعصب والجهل معا , ولكل مذهب اتباعه من الفقهاء ومن المقلدين , كل فريق ينتصر للمذهب الذى توارث عن اسرته اتباعه , وقد لا يعرف عنه اي شيء من خصوصيات المذهب واصوله , كل مذهب يرى اتباعه ان المذهب الذى يقلده هو الدين وهو الشرع وهو الحق , وان المذهب الثانى هو الاخر البعيد , ما زلت اذكر فى طفولتى كيف كان الطلاب ينقسمون فى درس الفقه الى فريقين , وكان اتباع المذهب الشافعي يرون فى المذهب الحنفي التفريط والتبرير , وقلة من الشافعية كانوا يقلدون الحنفية فى رأي من الاراء وكانه كان يرتكب منكرا , كان الشافعي عندما تلمسه زوجته ولو لمسة خفيفة بالخطا يغضب منها ويعاتبها لان لمس الزوجة ينقض الوضوء وعليه ان يتوضأ , ومن قل ورعه كان يقلد الحنفية ويصلى , ما زلت اذكر كيف كنا ننظر لزملائنا وهم يدرسون فى قاعة اخرى وفى كتاب اخر , وهم ككل اخر , كان العوام يرون فى الفقه الحنفى انه فقه الدولة لان المفتى والقاضى يجب ان يكون حنفي المذهب , لم نكن فى بلاد الشام نعرف الكثير عن الفقه المالكي الذى اختص المغاربة به , اما المذهب الحنبلى فكان يوصف الرجل المتعصب فى ارائه وافكاره بالصفة الحنبلية , ويقال هذا حنبلى , كنت اتساءل عن سر هذا التعصب والتباعد , والفقه واحد وان تعددت مناهج الفقهاء , ليس هناك فقه هو اقرب الى الحق والكل باحث عن الحق ومؤتمن على ما يراه هو الحق , تعدد المناهج الاجتهادية امر طبيعى وحتمي , وهو دليل ثراء وغنى , هناك مدرستان فقهيتان الاولى اعتمدت على الرواية وعمل اهل المدينة , وهي مدرسة الامام مالك , واعتمدت هذه المدرسة على كتاب الموطأ وهو اول تدوين للفقه وأول مدونة فى الحديث , وسميت بمدرسة الحديث , وهناك مدرسة اخرى ظهرت فى العراق , سميت بمدرسة الراى , وتوسعت فى الاقيسة الاصولية والحاق الفروع بالاصول عن طريق القياس والرأي , وهي مدرسة حوارية واقعية تبحث عن المقاصد , وضمت اهم اعلام الفقه فى العراق الذين كانوا يحضرون مجالس ابى حنبفة , وهم ابويوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى , واعتمدت على منهج عبد الله بن مسعود وفقهه ومروياته , وكانت الرواية فى العراق قليلة وكثر فيها الوضع فى الحديث لاسباب كثيرة اهمها هو ذلك الانقسام السياسي والصراعات واستحدام الرواية كمطية لتبرير المواقف والاحكام , كانت مدرسة الرأي متأثرة بعصرها ومجتمعها, وكان المجتمع يواجه مشاكل مستجدة وتحتاج الى التوسع فى استحداث الاحكام بما يحقق المقاصد ويراعي المصالح , وكاد الامر ان ينفلت فى ظل نمو الحركة الاجتهادية والتوسع فى الاحكام عن طريق القياس , ولما امتحن الشافعي واتهم بموالاة اهل البيت نقل الى العراق متهما وكان من تلاميذ الامام مالك ومتأثرا بمنهجه الفقهي , وفى العراق التقى باتباع ابى حنيفه واهمهم محمد بن الحسن الشيبانى وسمع منه منهج علماء الرأي , وكان منهج الاجتهاد الفقهي خاليا من القواعد الاصولية الضابطة لمنهجية الاستدلال الصحيح , وقام الشافعى باهم عمل علمي احدث به قفزة ابداعية محكمة وموفقه فى مجال الدراسات الفقهية , لقد وضع كتابا هو الاول من نوعه لضبط منهج الاستنباط الصحيح , وهذا الكتاب هو الرسالة الذى يعتبر الكتاب المؤسس لعلم اصول الفقه , وجعل الاصول هي المنطلق لاستحداث الفروع الفقهية , ومن لم يلتزم بالاصول الضابطة فلا يمكن الثقة باجتهاداته لكيلا يقع التناقض فيها , وقد انفرد الشافعي باراء ومفاهيم واجتهادات بناء على اصوله , ولا ينسب الفقه الشافعى الى اي من المدرستين السابقتين , لقد اعتمد على الرواية وهي الحديث , واكد ان الحديث هو بيان لما فى القرأن ولا يمكن الاستغناء عنه , وان ما انفردت به السنة فلا بد الا ان يعتمد على اصل فى القران مما يؤكد بيانية السنة وفى نفس الوقت توسع فى الرأي ,هذه المذاهب الثلاثة جاءت متتابعة فى فترة زمنية لا تتجاوز خمسين عاما فى النصف الثانى من القرن الثانى , هذه المذاهب الثلاثة هي المؤسسة لعلم الفقه , وبعد ذلك بدا عصر التدوين الفقهي الذى ازدهر خلال القرون التالية وطهرت المذهبية وتوسعت واصبح اتباع كل مذهب يتخصصون فى دراسة فقه المذهب الذى تفرغوا للتخصص فيه , ثلاثة امور ازدهار التدوين الفقهي وظهور الموسوعات الفقهية وانتشار المذهبية الفقهية , وكان هنا ك علماء كبار وائمة لا يقلون مكانة عن هؤلاء الائمة الا ان فقههم لم يوجه اليه الاهتمام ولم يتفرغ تلامذة هؤلاء لخدمته وجمعه وتاصيله, الفقه الاسلامى ما كان وما يمكنه ان يكون ومسيرة الفقه لا يمكنها ان تتوقف , وهي مواكبة لعصرها , متجددة بجهد علماء كل عصر وبجهد القضاء الذي يمد الفقه باحكام جديدة ومستمدة من الواقع , عندما ينفصل الفقه عن قضايا مجتمعه ينعزل ويتوقف , ويصبح تراثا , ولكل عصر قضاياه التى تعبر عن حاجاته , مالا يتجدد يشيخ وينقرض , الفقه جهد عقلى وهو ثمرة جهد العقول فى البحث عن العدالة فى الاحكام والنظم الاجتماعية , التقليد ظاهرة سلبية وهي منافية للتكليف , لا احد يجتهد فيما لا علم له به , الاجتهاد لاهل الاختصاص , ولا يعتد برأي من ليس من اهل الاختصاص , النص واحد ويتجدد بقوة التفسير وسداد التاويل لكي تتحقق المقاصد وتحترم المصالح , التقوى والورع لا يكفيان لحسن الفهم , التقوى مطلوبة فى كل شيء ولا تغنى عن جودة العلم وسداد الفهم , وماليس من اهل الاختصاص فلا يستشار في غير ما يعلم , احكام العبادات مصدرها النص والسنة ولا تجاوز لهما بما يخالفهما , ومالا دليل عليه فلا يحتج به , وما انفرد به اهل الصلاح والتقى من الاذكار والادعية فينسب لصاحبه يحمد به او ينكر ولا ينسب الى الدين الا ما ورد الدليل به , السنة واحدة وهي الطريقة التى ثبتت نسبتها الى النبي صلى الله عليه وسلم , ولا طريقة اخرى , وكل الطرق تنسب لا صحابها , ان تضمنت صلاحا فهي محمودة وان تضمنت فسادا اوضلالا فكل مكلف مؤتمن ومسؤول , لا عصمة لغير الانبياء ولا قداسة للتاريخ او للتراث او للاعلام التاريخية , جيلنا مكلف ومخاطب ومؤتمن , والعقول مخاطبة وعليها ان تختار , ان احسنت فلها اجرها وان اساءت فامرها الى الله , كلنا مخاطبون وتعطيل العقول عما هي قادرة عليه امر مناف للتكليف , فى قضايا الايمان والعقيدة فلا مجال للتقليد لان اختيار الحق مطلوب ومحمود واتباع الاهواء يقود الى الضلال وهو مذموم ..

…………………………………………………………………

 

( الزيارات : 704 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *