رسائل النصيحة …ماذا تعني..

رسائل النصيحة …ماذا تعني..

“رسائل النصيحة” لبنة صغيرة في هذا المشروع الإصلاحي، ونحن نحتاج إلى لبنات كثيرة ، ومن المؤكد أن منهج الإصلاح لن يكون واحداً، ولا يمكن لأيِّ جهة أن تنفرد به أو تعتبر نفسها وصية على المجتمع ، وكل مجتمع يختار لنفسه ما يصلحه.. ومسيرة الإصلاح يجب أن تعتمد على دعائم أساسية : أولاً: الالتزام بالإسلام والتمسك بثوابته في العقيدة والشريعة والأخلاق. ثانياً: الثقة بالعقل والاحتكام إليه. ثالثاً: الثقة بالعلم والنهوض بمستوى مؤسساته لتكوين الشخصية بكل مقوماتها الفكرية.. والإصلاح يحتاج لجهد جماعي يقوم به رموز الإصلاح والمؤمنون بأهميّة نهوض مجتمعهم من رجال الفكر، ومن بيدهم سلطة التوجيه والتكوين والتربية ، وكل فرد مؤتمن على مجتمعه، ومن حقه أن يسهم في مسيرة الإصلاح، ولو بجهد متواضع ، ولا خيار لهذه الأمة إذا أرادت الحياة ومواكبة مسيرة الإنسانية نحو الأفضل إلا أن تعيد النظر في واقعها ، فتأخذ بما تراه صالحاً ومفيداً، وتترك ما تراه سيئاً وضاراً من العادات والقيم والتقاليد والنظم الاجتماعية، والتطلع نحو الأفضل والأحسن هو منهج العقلاء، ولا ينبغي أن نضيق بالجهد الذي يتطلبه التصحيح، ولابدّ من التغلب على أمراضنا الاجتماعية وكلّ المظاهر السلبية في مجتمعنا، ولا يجوز أن نبرر تخلفنا بادعاء التمسك بالإسلاموالتخلف لا ينتج إلا ما يعبر عن ، فالتخلف ليس من الإسلام وإنما من التصور السيئ والفهم الخاطئ للمفاهيم والقيم الإسلامية ، التخلف، وأهمّها دفاع المجتمع المتخلف عن قيم التخلف، وكأنها جزء من تراثه، والتراث منه ما هو صالح ومنه ما هو فاسد ، وعلى كلّ مجتمع أن يحسن في اختيار ما ينفعه من تراثه ويستغني عن كلِّ ما هو سيء، وهذا منهج المجتمعات الواعية المتطلعة إلى الإصلاح والنهوض، ولا يتصور أن يدافع الإسلام عن أية قيم أو عادات أو تقاليد فاسدة، وعلماء الإسلام ودعاته مطالبون بتصحيح المفاهيم وتقديم الإسلام الصحيح المستمد من”القرآن والحديث”، وليس الإسلام التاريخي المستمد من واقع المجتمعات الإسلامية في عصور التخلف . وأهمُّ ما يجب الأخذ به في مجال الإصلاح عدم إعطاء القداسة للتاريخ ، وإخضاع كلّ موروث عن السابقين لمنهج النقد والتقويم، ويستثنى من ذلك ما ورد عن طريق الوحي وكل ما يتصل بالنبوة، أما التراث المرتبط بجهد السابقين من الأفكار والآراء والاجتهادات العقلية فيمكن إخضاعه لمعايير نقدية موضوعية، ويؤخذ بما هو مفيد من ذلك التراث، وكل جيل مؤتمن على عصره، وهو مكلف ومخاطب بالنص، ومؤتمن على فهم الخطاب، ولا عذر له في التقليد مع القدرة على الفهم، فالتقليد لا يصح إلا لمن عجز عن النظر العقلي، وفي القضايا الاجتهادية لا يُحتج برأي سابق مع وجود إمكانية الاجتهاد من علماء معاصرين، وبخاصة في النوازل والقضايا المستحدثة، التي تحتاج إلى مراعاة الظروف الزمانية والمكانية.. وأهمّ ما كنت أحرص عليه هو التصدي لقضايانا المعاصرة من خلال أنفسنا ومن خلال رؤيتنا الشخصية، ونحن أقدر على فهم قضايانا ومشاكلنا، ونستأنس برأي أسلافنا فيما يفيدنا ، ونحن أصحاب القرار، ولا ينقصنا شيء ، وولايتنا على قضايانا كاملة ، فلماذا نفترض أن ولايتنا على أنفسنا قاصرة ؟ ومن حقنا أن نخطئ ونصيب، وهذا شأن كل من يبحث عن الحق، والإسلام جاء لنا كما جاء لغيرنا، وخاطبنا القرآن كما خاطب غيرنا، وعلينا أن ننصت للقرآن كما أنصت غيرنا من السابقين وكما يجب أن ينصت له اللاحقون، ومن كان مؤهلاً لفهم القرآن أخذ بما يفهم منه، ومن لا يملك أدوات الفهم يستعين بمن يفهم ويسأل أهل العلم الذين يملكون القدرة على استنباط الحكم المراد من النص، ومثل هؤلاء يجوز لهم التقليد، والتقليد: حقٌّ لمن لا يملك القدرة على الفهم ، وكلّ من عجز عن الفهم جاز له التقليد فيما جهل، ولا يقلد الإنسان غيره فيما يعلم، فهذا من ضعف الثقة بالنفس، وهذا ليس من الأدب، وإلغاء دور العقول فيما تقدر عليه ليس من الفضائل، وليست هناك طاعة مطلقة للبشر، وإنما هناك طاعة مقيدة بمظنة الطاعة للحق، وليست الطاعة للأشخاص، وليست هناك طاعة مطلقة إلا لله ولرسوله “صلى الله عليه وسلم”، أما الطاعة للبشر سواء كانوا حكّاماً أو مربّين أو مرشدين فهي طاعة مقرونة باعتقاد الحق فيما يأمرون به، فإذا تأكد الإنسان أنَّ الطاعة تؤدي إلى ظلم وانحراف فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا طاعة لظالمٍ فيما يظلم،فالطاعة للحق هي الطاعة لأمر الله ، فالله هو رمز الحق، وما يأمر به فهو الحق، وطاعة الاحترام لمن يستحق الاحترام من النّاس واجبة وفضيلة فيما ُيرضي الله، وطاعة العبودية محرمة ومذمومة ولا يفعلها مؤمن ويأنفها الأحرار، ويقبِّل الأبناء يد آبائهم احتراماً ووفاءً، وما يخل بالكرامة الإنسانية من انواع السلوك مكروه ومذموم. وحاولت في رسائل النصيحة أن أعبر عن سعة رؤية الفكر لكلّ قضايا الإنسان المعاصر، في علاقته مع نفسه ومع الآخرين حيث كانوا، على مستوى أسرته ومجتمعه أو على مستوى العالم الذي ينتمي إليه، ولم أتحدث عن حياة الآخرين وخصوصياتهم فتلك أمور تخصهم وحدُهم، وإنما تحدثت عن علاقتنا مع الآخرين وهذا أمر يخصنا، وهذا ما دفعني لتوجيه رسائلي لكل الآخرين من شعوب وأديان وطوائف وجيران… ومنهجنا في ذلك هو الدفاع عن الحق والعدالة، وأداتنا في ذلك هي الاحتكام للعقل أولاً والالتزام بمنهج الله وشريعته كما جاءت عن طريق الوحي، وما جاء عن طريق الوحي فيُسلم به ويُبحث عن مراده، وما جاء عن طريق العقول البشرية فالنَّاس متساوون فيه ولا يتفاضلون إلا بمقدار ما يملكون من أدوات الفهم وسلامة الرأي وما يلتزمون يه من مراعاة المصالح الاجتماعية المشروعة… والرحلة إلى الله هي الرحلة إلى الأكمل والأفضل ، وما يصلح أمر الإنسان وأمر مجتمعه، والإنسان يرحل إلى الله بما يحمل معه من زاد العمل الصالح، ولا يرحل خالياً من عمل الخير، ومن لم يفعل الصالحات فلا خير فيه، ولا زاد معه، وأقول للمعتزلين في الصوامع أنيروا مجتمعكم بخدمتكم لمجتمعكم وعملكم الصالح ، فالنور محمودٌ لأنه يضيء الدروب المظلمة ويخرج الناس من الضلالة إلى الهدى، ولا أهميّة للنور في الصحراء الخالية، والشجرة تطلب لثمرتها وليس لجمال أغصانها … وما كتبته في رسائل النصيحة هي مجرد تأملات في قضايا معاصرة، وكنت أتصور نفسي كزائر لكل طائفة ممن ذكرت، وكنت أفترض نفسي واحداً منهم وأعيش معهم في أزماتهم وطموحاتهم ومطالبهم ومخاوفهم، ثم أوجه لهم كلامي كما لو أنني أخاطبهم عن قرب في مجلس مودة ومصارحة، فلست منحازاً لهم ولست متجاهلاً ما يعانون، وفي الوقت ذاته كنت أحرص على النصيحة والمصارحة كما أراها، فإن قبلوا بها فهذا خيارهم، وإن رفضوها فالأمر يعنيهم وهذا حقهم، إلا أنني قمت بواجبي وخاطبتهم بما يمليه علي واجبي وضميري، وأحياناً كنت أشرح قضيتهم وأدافع عنهم متفهماً مشاكلهم، وكانت جولتي واسعة، وكنت أطرق كلّ الأبواب وأزور كلّ الأحياء، وأدخل القصور وأخاطب الحكام والوزراء، وأزور القضاة والموظفين والإداريين والمؤتمنين على المصالح العامة، ثم أبحث عن المفكرين والمثقفين والشعراء والعلماء والخطباء، وأزور البيوت وأجتمع بالآباء والأمهات والأبناء، والزوجات والمطلقات والعوانس، ثم أذهب إلى أحياء الفقراء والبؤساء والعمال والفلاحين، وأذهب للمساجد وأرى فيها المصلين والصائمين والعُبّاد والدعاة والصالحين والمجاهدين والمتفرغين لطاعة الله من الصوفية، ثم أسافر إلى بلاد بعيدة وأخاطب فيها كل الشعوب في أمريكا وأوروبا وأفريقيا، والأقليّات الطائفية والقومية والإسلامية وغير الإسلامية في بلادنا والبلاد الأخرى، ثم أخاطب المؤسسات التعليمية والجامعات والمساجد والإنسان حيث كان والأجيال القديمة , والقلب والنفس والعقل، وكانت جولتي واسعة، ولا أدّعي أن خطابي لهؤلاء كان خالياً من الأخطاء، وأنني على حق فيما ذهبت إليه، فالخطأ من طبيعة البشر، ولكن ما أرجوه أن أكون صادقاً فيما قلت، ومخلصاً فيما ذهبت، وكنت أرجو الخير والإصلاح، فإن أصبت هدفي فهذا من توفيق الله، وإن أخطأت فيما ذهبت إليه، فأرجو الله أن يغفر لي خطاياي، وأن يلهمني السداد والرشد، ومن قرأ هذه الرسائل فمن حقه أن يأخذ بما شاء وأن يرفض ما شاء وأن ينقد ما شاء، وهذا حق لكل إنسان ، فهذه قناعتي ورؤيتي لقضايا عصري ، ومن حق أي آخر أن تكون له رؤيا مغايرة… وهذا جهدٌ متواضعٌ سجلته في أوقات متعددة ، ولم ألتزم بوحدة الموضوعات وتقارب المخاطبين ، لأنني كنت أسجل كلَّ رسالة في الوقت الذي كان ينصرف اهتمامي إليها ، ويشغلني أمرها ، ثم أعكف على رسالةٍ لمخاطب أطل على عالمي من خلال حدث ما شغلني أمره ..أدعو الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعل عملنا خالصاً لله تعالى، وما أريد إلا الإصلاح لمجتمعي ، والنّصح لكل الآخرين، وأردت النصح ولم أرد النّقد، وأردت الخير وما أردت سواه… محمد فاروق النبهان

( الزيارات : 1٬057 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *