شروط النقد العلمى عند الامام الغزالى

كلمات مضيئة..حرية النقد فى نظر الغزالى

مما لفت انتباهي فى كل لقاءاتى مع معظم المشتغلين بالفكر والفلسفة ان معظمهم يعتقد ان الامام الغزالى قد هدم المناهج العقلية فى الفكر الاسلامى وان الانحطاط الذى اصاب الفكر الاسلامى قد بدأ ما بعد عصر الغزالى فى القرن السادس الهجرى , وان ما بعد عصر الغزالى لم يعد كما كان قبله , وظل هذا التساؤل فى نفسي يتجدد باستمرار كلما سمعت به يتردد امامى من جديد , ولعل هذا هو الذى دفعنى للبحث فى مدى صحة ذلك , كنت احاول ان افهم منهجية الغزالى فيما كتبه , لو نسب مثل هذا القول الى غير الغزالى لكان بالامكان ان اصدقه بسهولة ولكن ان ينسب ذلك الى الغزالى فهذه دعوى وتحتاج الى برهان علمى مما كتبه , لم يكن الغزالى شخصية عادية من الناحية العلمية ومن الناحية المنهجية العقلانية , من مسلمات الغزالى فيما كتبه عن منهجه فى النقد ان اي عالم لا يحق له ان ينتقد اي علم من العلوم اوان يتصدى لاهل الاختصاص فيه الا ان يتعلم ذلك العلم  وان يكون من اهله والمختصين فيه اولا , ولا يحق له ان ينقده الا ان يتجاوز ما عليه اهله من العلم به  , فاذا تجاوزهم به معرفة وتمكن من فهم دقائق ذلك العلم عندئذ يمكنه ان ينقد ذلك العلم من منطلق معرفته به , وهذا منهج فى غاية الدقة والامانة والالتزام , فالنقد المتسرع دليل الجهل اذا صدر من غير اهل العلم والاختصاص , وهم القادرون على فهم ماخفي من دقائق ذلك العلم , وهذا ينطبق على كل العلوم , وكنت اذكر ان بعض طلابى وانا اشرف على اطروحاتهم العلمية فى الدكتوراه وكان بعضهم  اكبر منى سنا , واعلم منى بما يكتبون فى بحوثهم وبخاصة فى غير اختصاصى العلمى سواء فى علم الحديث  اوفى علم القراءات ا وفى الفقه المالكى او اعلامه فى المغرب والاندلس , وكنت اثق بما يكتبون واكتفى بالمراجعات المنهجية والملاحظات الهيكلية او الاستنتاجية , ومن العلم الا تخوض فى غير ماتعلم , ولا يمكن لعالم ان يعلم كل شيء , الباحث المتخصص اكثر علما بما تخصص فيه , دقائق العلم لا يعلمها الا من تفرغ لذلك العلم وتمكن منه , والنقد لا يحسنه الا من تفوق وتميز عن كل الاخرين , الامام الغزالى لم ينتقد علم الفلسفة كعلم , وانما انتقد منهجية الفلاسفة فى بحثهم عن اليقين , واكد فى كتابه تهافت الفلاسفة ان منهجية البحث عن اليقين لا توصل الى اليقين , وهم يقرون ان الفلسفة هي مجرد افتراضات احيانا تعتمد على الملاحظة والتجربة واحيانا تعتمد على الحواس الظاهرة , واكبر اخطائهم هي تلك الافتراضات الجدلية ولذلك سميت بالمناهج الجدلية التى طبعت الفلسفة , واكبر اخطائهم فى الالهيات وهي امور غيبية واخطؤوا عندما ارادوا الخوض فيها بعقولهم , لم يناقش الفلسفة فيما يتعلق بما توصل اليه العلم من اكتشاف القوانين الطبيعية والاصول المنطقية , وانماتحدث فقط عن اليقين , غلبة الظن لاتعنى اليقين , احتمال الخطا ينافى اليقين , فالامر اليقينى هو الذى لا يحتمل الخطا ابدا , تاملت فيما كتبه الغزالى عن التصوف ولا حظت ان تصوفه ليس تصوفا اشراقيا كالسهروى صاحب حكمة الاشراق وليس تصوفا كتصوف ابن عربى فى الفتوحات  فى القول بوحدة الوجود , وانما هو فهم عقلانى للتصوف ويتمثل فى اهمية التربية الروحية عن طريق المجاهدات للتحكم فى الغرائز الفطرية الشهوانية والغضبية , وغاية تلك المجاهدات  ان تسهم فى صفاء القلب وطهارته بحيث تكون خواطره خالية من الامراض النفسية كالحقد والحسد والكبر والطمع والقسوة والغفلة , وهذه الاوصاف لاتليق بالانسان , وهي اوصاف تحجبه عن الله تعالى , وكان يشترط لكل ما يفكر فيه  الانسان الا يصادم العقل ولا يتجاوز المعايير الشرعية , اما عالم المكاشفة فحذر من الخوض فيه واعتبر ذلك من المحظورات الشرعية التى لم ياذن الشرع بالحديث عنها لانها خارجة عن نظاق التكليف , والنقطة الاهم فى فكره انه اعتبر ان القلب وليس العقل هو الذى تنطبع فيه المعرفة الالهية فى حالة صفائه وطهارته , فاذا تحكمت الغرائز فى سلوك الانسان سواء كانت شهوات او انفعالات حجبت قلبه عن تلك المعرفة , وشبه القلب كصفحة الماء لا تبرز فيه صورة الاشياء الا اذاكانت صفحة الماء نظيفة وصافية , وافاض في البحث عن الحجب التى تحجب القلب عن تلك المعرفة , كان الغزالى صاحب منهج عقلانى في كل ماكتبه , لم يدع الى التقليد وكان يكره التقليد وكان باحثا عن الحقيقة , عندما تكلم عن مرحلة الشك فى حياته فلم يكن يريد سوى ذلك المعنى وهو الشك فى يقينية العقل وهو شك منهجي , وهذا الشك هو الذى دفعه للبحث عن ذلك اليقين الذى كان يريد ان يصل اليه , لم يهدم الغزالى الفلسفة وانما قال بان يقينية المعرفة العقلية ليست مسلمة , وهذا مااكد عليه معظم الفلاسفة المعاصرين , كان الغزالى حجة فى كل العلوم التى كتب فيها فى الفقه والاصول وعلم الكلام والتصوف , ولم يكن فيما كتب مقلدا لغيره , كان مبدعا فى كل ما كتب , وبخاصة فى العلوم العقلية , وحذر من الشطحات والاوهام التى تسيطر على كثير من اهل المجاهدات الروحية , ما زلنا نحتاج الى معرفة افكار الغزالى كما هي , اما الانحطاط الذى وصل اليه مجتمعنا وفكرنا فله اسبابه التى ادت اليه , واهمها سيطرة منهجية التقليد فى الافكار الى جانب الاضطرابات السياسية وتخلف المجتمعات الاسلامية , وتلك اسباب ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم..

( الزيارات : 629 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *