صحوة الذكريات..نداء العودة

:

لقد اتضحت رؤيتي بالنسبة للمرحلة المقبلة، وهي أشق الاختيارات السابقة، كان المغرب هو الاختيار الأول والأيسر، وهو لا يحتاج إلى مغالبة نفس أو صعوبة قرار، إنه استمرار لواقع، ولا يحتاج إلى أي جهد، فالنفس تأنس بحياة المغرب وما زال المغرب في قلبي، وهو صاحب الخط الأوفر من المحبة والذكريات الجميلة ، وكل ما في المغرب يشدني إليه، وكانت علاقتي بدار الحديث الحسنية هي ثمرة علاقتي بالمغرب وبالشعب المغربي ، وذكرياتي في المغرب هي الأقوى وما زالت حية، ولا يمكنني أن أغادر المغرب بيسر وسهولة، وكنت أعرف أنني لن أتمكن من مغادرة المغرب بإرادتي، وكنت أجد من أصدقائي المغاربة وفاء ومودة، وكان هذا مما يسعدني، وعكفت على العمل العلمي ومراجعة بعض كتاباتي، وكنت أحتاج لهذا الوقت لكي أتفرغ لبعض ما كنت أهتم به من الكتابات العلمية، وكان المغرب بالنسبة لي ميسراً للبحث وكنت أملك الوقت وأدوات البحث، وأصبح الاختيار بالنسبة لي واضحاً وحاسماً ونهائياً، وهو الاختيار الصحيح الذي لم أندم عليه ولن أندم عليه فيما بعد.

ولكن … بالرغم من كل ماذكرت من عوامل تشدني إلى المغرب فقد كان المغرب في نفسي مزاحماً من منافس يملك من العاطفة ما يملكه المغرب وهو صاحب ذكريات أقوى وأرسخ، وكل الذكريات يمكن أن يمحوها الزمان ما عدا ذكريات الطفولة في الدروب العتيقة، وكل الأصدقاء يمكن أن تطوي الأيام صفحاتهم في سجلات الذاكرة ما عدا صداقات الأقارب والأرحام والجيران وزملاء المدرسة فإن هؤلاء لايطوى الزمان ملامحهم لأنك تراهم باستمرار في ملامح أبنائهم وأحفادهم، وهؤلاء يعرفون عن طفولتك أكثر مما تعرفه عن نفسك، وحلب هي المنافس الأكبر، هي عاصمة الأمس البعيد في حياتي، وهي صندوق الذكريات الدافئة ، وكل ما فيها يذكرك بماضيك، وأنت في هذه المدينة لست زائراً عابراً ولست ضيفاً مكرماً، وأنت تملك في بلدك جذوراً في أعماق هذه الأرض، وكل الذكريات تضعف مع الأيام ما عدا ذكريات الوطن فإنَّها تقوى وتشتد ويزيد حنينك إليها، إنها دعوة الوطن لأبنائه ودعوة الأم لمن حملتهم في بطنها وأرضعتهم من لبنها..

زرت مدينتي حلب.. تجددت الذكريات وقويت واستيقظ التاريخ في كياني، وسمعت همساً دافئاً في أعماقي يناديني ….إنَّه نداء العودة ..

لم أستطع أن أغالبه.. إنه الأقوى في كياني..إنَّه الأكثر دفئاً وصدقاً…كنت أزور حلب وعندما كنت أدخل إليها أفرح وعندما أغادرها أحزن، وبدأ التدافع والتغالب في داخلي أولاً وفي أسرتي ثانياً، ودعوت الله تعالى أن يختار لي وأن يشرح صدري لما فيه الخير ، كنت أخشى أن أندم إذا عدت إلى حلب ، وكنت أشعر أنَّ أولادي الذين تربوا في المغرب وعاشوا فيه وأنسوا بمجتمعه واعتادوا على الحياة المغربية سوف يجدون صعوبة كبيرة في العودة ، إنهم لن يجدوا ما أجده في نفسي من عواطف دافئة ولم يسمعوا ماكنت أسمعه في كياني من همسات ، واستمرت حالة التردد خمس سنوات كنت أقضي في المغرب فصل الشتاء والربيع، وأقضي في حلب فصل الصيف والخريف، ولم يكن هذا الاختيار مريحاً , وشعرت بعدم الاستقرار وبخاصة بالنسبة للأولاد الذين يجب عليهم الاستقرار ,وما دمت متردداً فلا يمكن أن يشعروا بالاستقرار والطمأنينة لأنهم يريدون أن يبنوا مستقبلهم وهذا حق من حقوقهم ..

كان النداء في أعماقي قوياً وراسخاً وملحاً , وكنت أدفعه فيعاود اقتحامه لكياني ويهمس  في وجداني بثقة … أنه الخيار الوحيد الذي لا يمكنني تجاهله ولم تكن حلب بالنسبة لي مجرد وطن وأرض وذكريات , وإنما هي رابطة روحية صوفية الملامح عميقة الجذور لم أنسها يوماً ,ولم تغب عن حياتي وكان لها تأثير كبير في فكري وثقافتي , وهي إحداهم مكونات شخصيتي وملامحي , والكلتاوية في حلب رمز روحي كبير, وهي مقر الشيخ النبهان صاحب المدرسة الصوفية المجددة للفكر الصوفي, وهو جدي وأستاذي وشيخي وقد تعلمت منه الكثير من خصوصياتي , وكان له تأثير كبير في شخصيتي وأؤكد أنني لولا هذه التربية الروحية لكانت لي اختيارات فكرية أخرى , وتعلمت من هذه المدرسة الأدب وأهمية الطهارة القلبية والاهتمام بثمرات العبادة وعلو الهمة والنزاهة ومحاسبة النفس ومراقبة الله وحب العمل الصالح والأدب مع الله والتسليم لما يختاره الله لي والاطمئنان إلى رعاية الله, وذلك العامل هو الأكبر والأكثر تأثيراً في اختيارات هذه المرحلة ,ولكن لم أكن قادراً على الاختيار وربما كان الاختيار قائماً ولكنني لم أكن قادراً عليه …

العودة إلى حلب

دعوت الله من أعماق قلبي أن يختار لي وأن يعنني على ما يختاره لي , وحضرت في الكلتاوية إلى جانب ضريح الشيخ النبهان ليلة النصف من شعبان , وقرأت الدعاء المأثور في هذه المناسبة مع الأخ الشيخ محمود حوت وهو من علماء الكلتاوية المشهود له بالعلم والتقى والاستقامة , ودعوت الله أن يختار لي وأن يتولى أمري وأن يعينني على ما يختاره لي , وسلمت أمري لله تعالى وبدأت أعد نفسي للعودة إلى المغرب في بداية شهر رمضان في أواخر عام 2005 م . واقترب موعد السفر وبدأت مشاعر القلق تظهر على ملامحي وذهبت إلى الكلتاوية مودعاً علماء الكلتاوية وأحبابها وطلابها وكنت ألتقي بهم باستمرار , وأتحدث إليهم في كل لقاء بعد صلاة الجمعة , وفجأة شعرت بألم في ظهري وحسبته يسيراً وحاولت التغلب عليه بالعلاجات المألوفة ولم يستحب الألم لأي رجاء ,  ولم يقبل أي التماس وزاد الألم حتى تمكن مني , وأقعدني في البيت واستقبلته بمودة  , ولم أضق به أبداً وكان رفيقاً بي ورحيماً , وأدركت أنه يحمل لي رسالة وعلي أن أقرأها بعناية وأن أرضى بها ,وشعرت بطمأنينة قلبية عجيبة، و ذهل الأطباء من شعوري  هذا، وأدركت انه الخيار الأخير ..

لم أعد للمغرب بعد ذلك ومضى عليّ الآن خمس سنوات، وما زلت في ذلك، والتمست أسرتي العذر لى في العودة إلى حلب، وعادوا جميعاً بالرغم من صعوبة ذلك عليهم ، ولعل هذا ما أراده الله ..لم أندم قط على قرار العودة النهائية ، لقد عدت بغير اختياري، وما كان لي أن أعود بغير هذا، وحمدت الله على ما اختاره لي ، وقد عوٍّدني الله تعالى أن يشرح صدري لما يختاره لي وأن يحببني في كل ما قدره لي ، لقد غبت عن حلب وكنت  في الثامنة عشرة من عمري في رحلة علمية  إلى دمشق والقاهرة لمدة ثمانى سنوات، ثم في رحلة تعليمية إلى الرياض والكويت لمدة عشر سنوات، ثم في رحلة علمية ثالثة لا خيار لي فيها ولا دور لي في الإعداد لها ، لمدة ثمان وعشرين سنة، وعدت إلى حلب في الخامسة والستين من عمري، وكنت أشعر دائماً برعاية الله لي، وتذكرت كلمة الجد الشيخ محمد النبهان، وقد سألته عن المستقبل :وأهمية الإعداد له :قال لي بلهجة مؤثرة :يا ولدي ..المستقبل  بيد الله ..والله تعالى هو المدبر لشؤون مملكته وخلقه، فسلم أمرك لله وإذا كنت صالحاً فالله يتولى الصالحين، وسارت سفينتي في بحر تتلاطم الأمواج فيه، وكانت رحلتي ميسرة الأسباب ,وتوقفت سفينتي في موانئ متباعدة، ثم عادت بي الى الموطن  الاول الأحب إلى نفسي  …

( الزيارات : 924 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *