طريق العلم… وتساؤلات الآخر

طريق العلم… وتساؤلات الآخر

أحببت العلم بكل عواطفي، وشغلت نفسي به، رأيت فيه الصباح الذي يبشر بالحياة، فالعلم خير كله، لأنه أداة المعرفة، ولم أفرق بين علم وعلم، ولم أميز بين علوم شرعية أو قانونية أو أدبية، فالمعرفة واحدة، وكلها تفتح آفاق الرؤية أمام العقول، وتعلقت بالعلوم التأملية والاستدلالية التي تعتمد البراهين والأدلة والمرتبطة بالأحكام الواقعية، وليس في مجال العلوم الكلامية، ذلك منهج جدلي لا يفيد في مجال العقيدة، ولا يؤدي إلى مزيد إيمان، لأن أصحابه لا يريدون به ترسيخ العقائد وإنما يريدون به تأكيد براعتهم في الجدل لكسب المكانة في عيون الخلق والتفوق على الآخرين.

في كل خطوة من خطواتي العلمية التي استمرت لمدة طويلة كنت أشعر بذلك الآخر الذي يسير معي ويرافقني، ويراقبني ويحاورني في كل خطوة، كان ذلك الآخر هو ذلك الموروث القديم الكامن في كياني، إنه الصديق الذي كان يلازمني ولا ينفك عني، كان معي في كل خطوة، أهرب منه فينتصب أمامي فجأة، أخاصمه حيناً فلا يخاصمني، أراه في كل زاوية أمشي فيها، في دروبي وطرقاتي، في صحوي ونومي، في لحظات الصفاء وفي لحظات الكدر، أحياناً أضيق به فلا يفارقني، في لحظات ضعفي ألجأ إليه راضياً وبإرادتي واختياري فيريحني بكلماته الحانية ويمسح دموعي في لحظات حزني وألمي، وفي لحظات قوتي يقف في دروبي يراقبني ويهمس في أذني، لا أدري لماذا أحببته بالرغم من كل قسوته علي، ولا أدري لماذا أحبني، من المؤكد أنه أحبني أكثر مما أحببته، كان وفياً لي، لم يتخل عني قط عندما أحتاج إليه، وربما كنت في أعماقي أحبه كما يحبني، عندما يكون بجانبي كنت أشعر بالسكون والطمأنينة ويمنحني القوة الذاتية في مواجهة الواقع، كان يحاورني بهدوء ويريحني.

وذلك الآخر لا أعرف من هو، هل هو شيء مني أم هو خارج عني، هل هو أنا أم غيره، هل ما أراه هو صورتي كما أراها في المرآة، هل هو ذلك الموروث من القيم والمفاهيم، هل هو ضميري الذي رافقني منذ طفولتي ولم يغادرني.

في كل خطوة كان ذلك الآخر في حياتي وفي كياني، لم يتوقف الحوار بيني وبينه قط، كان حواراً دائماً ومتصلاً، وكان دائماً هو الأقوى في حججه وأدلته، كان يغيب أحياناً فاحسب أنه ذهب ولن يعود، فاشتاق إليه وآنس به، وفجأة ينتصب أمامي بملامحه المعهودة لم يكن متجهماً أو عابساً، كان دائم التفاؤل والابتسام، لم يضيّق عليّ الخناق في حياتي وإنما كان يوقظني إذا غفوت، ويشد من عزيمتي إذا ضعفت، وأروع ما فيه أن له فلسفة خاصة به، ولغة متفردة ذات دلالات غير معهودة، كنت أفهمها جيداً عنه، كان يفسر لي الأمور بطريقة غير مألوفة ولا مفهومة، ومع ذلك كنت أفهم لغته وكانت تريحني وتمدني بالقدرة على مواجهة الأزمات العارضة ولو كانت قاسية، وكنت في أشد المواقف صعوبة أجده إلى جانبي مسانداً ومعاضداً بابتسامته المعهودة فيمنحني القدرة على التفاؤل… لغته متفردة في تفسير الأحداث والوقائع، وكأن كل شيء معدّ بدقة وإحكام، فكل ما يصادفني من خير أو شر فهو وليد حكمة، والعقبات والأزمات هي ابتلاءات مكتوبة غايتها الترقي من حال إلى حال، والذنوب أفعال مستقبحة لكي تعيد أصحابها إلى ربهم بالذل والانكسار، والأبواب إذا أقفلت فما أقفلت إلا لحكمة مرجوة، ولكي تفتح على رحاب أوسع مكاناً وأكثر جمالاً، والشعور بالغربة والوحشة بعد النكسات هو عناية لكي تشعر بالأنس بالله، والفرحة بالعطاء غفلة واستدراج إلا إذا رأيت النعمة من المنعم رعاية لك، والتعلق بالأشياء طريق للشقاء وهو دليل الغفلة، والدنيا لمن أعرض عنها بقلبه، ولا يمكن الزهد في شيء إلا إذا وقع التعلق بما هو أدوم وأبقى، والدنيا مذلة لمحبّيها ما لم يعرضوا عنها بقلوبهم لا بأبدانهم.

كانت هذه اللغة غير مفهومة لدى الآخرين، وكنت أرتاح لهذه المعاني، وأجد فيها ذاتي، وكان صاحبي الذي يلازمني يمدني بهذه التلميحات، في لحظات معينة كنت أرفضها وسرعان ما أركن إليها، لأجل نفسي لا لأجل الآخر، وكنت كلما اكتسبت جديداً في مجال العلم والمعرفة ترسخت هذه المعاني في كياني وتأكدت في أعماقي…

شكوت إلى الشيخ يوماً من أمر ذلك الطيف الذي يلازمني في كل أسفاري ورحلاتي واهتماماتي فابتسم طويلاً وكأنه يعرف أمره، لم يسألني عنه، ولم يستفسر عن أحواله، أجابني بكلمة قصيرة، ذلك هو حبك لي، تلك هي الرابطة بيني وبينك حيثما كنت.

أسعدني هذا الجواب… شعرت كأن المسافة بيني وبين الشيخ قصيرة، بل ليست هناك مسافة، لا زمان ولا مكان، «فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

الزمان والمكان وهم وحجاب، فإذا انتفت الحجب فلا زمان ولا مكان، فما استودع في الطفولة في القلوب والعقول قلما يزول، كحبات الزروع والزهور التي ترمى في الأرض، لا تموت، عندما يحين موعد نمائها تتحرك داخل التربة، تدافع التراب، وتخترق كل الحجب التي تغطيها، وتبحث عن الحياة.

لم يكن ذلك الآخر بالنسبة لي وهماً أو خيالاً أو حلماً، كان حقيقة، كان الحوار دائماً بيني وبين ذلك الآخر في أعماقي، كل فعل من أفعالي.. كل خطوة من خطواتي يسبقها حوار داخلي، فما يظهر في العلن هو ثمرة لذلك المكنون في الباطن، محاكمة مستمرة لا تتوقف، كل أنواع السلوكيات والمواقف يسبقها حوار داخلي مع الذات، والذات الخفية بمقوماتها وبالمخبوء فيها وبالمستودع في خزائنها هي الآخر بالنسبة للذات الظاهرة التي لا تملك حرية الاختيار فيما تختاره من سلوكها، هي مدفوعة إلى ذلك بقوة داخلية فإن كان الآخر حسناً وجميلاً ونظيفاً كان الظاهر مرآة له، وإن كان مملوءاً بالعفونات الفاسدة والمتخيلات السيئة كان الظاهر كذلك..

عندما أخذت مكاني في مقاعد التدريس في الجامعة وأخذت أنصت لأعلام الفكر وهم يتحدثون عن القضايا العلمية في علوم الشريعة وعلوم القانون والعلوم الإنسانية، كنت أحاور نفسي في لحظات التأمل عن معنى العلم، وعن دور العلم في مقاومة الجهل. كنت أكره الجهل وأجده المرض الذي لا ينفع معه أي علاج، فلا شيء كالجهل ينحدر بمستوى الإنسان ولابد من التصدي للجهل بكل الأسلحة الممكنة.

ولكن ما هو المراد بالجهل؟ وما هو العلم الذي يقاوم الجهل؟

العلم هو معرفة الشيء على ما هو عليه في حقيقته، وهم أعم وأشمل من مفهوم العلم المقرر في المناهج الدراسية، ولابد في العلم من ظهور ثمرته وهي المعرفة بالأشياء، فإذا أظهر العلم ثمرته فهذا هو هدفه المرجو منه، وإذا لم يؤد هذه الثمرة فلا رجاء في هذا العلم.

تذكرت كلمة الشيخ وهو يقول لي: أول ثمرات العلم أن يثمر في ذات الإنسان، وأن يزهر في كيانه معاني الخير والفضيلة، فإذا لم يثمر في ذات الإنسان فلا خير في هذا العلم، وغاية العلم العمل فإذا لم يثمر العلم العمل فهو جهد ضائع…

ودفعني الفضول إلى التأمل والتتبع أبحث عن الثمرة المرجوة في ذات العالم والمتعلم فلم أجد الثمرة، كانت الأشجار جرداء صفراء، أغصانها عالية وأوراقها شاحبة، وجدت مؤسسات للعلم ولم أجد قدسيات العلم، وجدت الاهتمام بفروع الأحكام ولم أجد اهتماماً بحقائق الأحكام وما تهدف إليه من الارتقاء بمستوى سلوكية الإنسان، رأيت الجامعات والمعاهد كأنها مؤسسات لتكوين الكفاءات المهنية في مختلف العلوم الشرعية واللغوية والعلوم الإنسانية والمهن العلمية، ولم أجد الجامعات التي تعني بتكوين إنسانية الإنسان وتلقينه بالمعرفة التي تعمق في كيانه حب الكمال والتعلق بالفضائل الإنسانية.

كان الآخر في كياني يرقب ذلك ويوجه اهتمامي إلى ذلك البعد المهجور والمنسي والمتجاوز، كان الكل في سباق متواصل، وكل فرد يبحث عن ليلاه في ذلك الفضاء الواسع، ولم يكن أمامي أي خيار، لابد من مواكبة المسيرة في سيرها، أو الانسحاب منها، لم يكن الانسحاب ممكناً، ولابد من الاندماج في هذا المجتمع، فهذا هو الممكن، ولابد من التماس العذر للناس فيما هم فيه.

وخضت ذلك البحر المحيط أتأمل ملامحه العجيبة، وارى أمواجه المتصارعة، واجد أسماكه القوية تلاحق الأسماك الصغيرة الضعيفة وتبتلعها بشراهة، الأقوياء يحكمون، والضعفاء يقاومون فيلقون حتفهم في أحشاء الكبار، وسرعان ما يتعلمون كيف يستسلمون، لا لكي يدفعوا الموت عنهم ولكن لكي لا يساقوا إلى الموت قهراً وذلاً.

ليس عجباً أن تتجه الجامعات إلى تكوين الكفاءات العلمية في مجالات الحياة المختلفة وإنما العجيب أن ينصب الاهتمام على تكوين المهارات والكفاءات وليس على تكوين الإنسان، فالإنسان هو أداة التقدم والتخلف، فالطبيب الإنسان هو المؤهل لحماية الأرواح والدفاع عن الحياة، والمهندس الإنسان هو الذي يتقن عمله ويعمل بصدق وإخلاص، وعالم الشريعة المتخلق بأدب الإسلام هو الذي يعطي القدوة لطلابه ولمجتمعه، فتكون كلمته صادقة ومؤثرة، ولا شيء يسيء للإسلام كما يسيء إليه علماء الدين عندما يتنافسون على الدنيا ويتزاحمون على أبواب الحكام طلباً للجاه والمنصب والرياسة فيدفعون ثمن ذلك من كرامة العلم ويفرطون فيما أؤتمنوا عليه من كلمة الحق.

والعلم ليس نقيض الجهل بمفهومه المرتبط بالأمية، وإنما هو نقيض كل ما يفعله الجاهلون مما لا يليق بكرامة الإنسان من الطمع والحقد والحسد والكبر والنهم فالجاهل يفرط بكرامته في سبيل ما يطمع فيه، ولا يفعل العالم ذلك ولا يليق به أن يفعل ذلك، لأن ذلك من أفعال الجاهلين.

( الزيارات : 1٬582 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *