ظاهرة المذهبية ..وقضايا العولمة

المفكر الإسلامي د. محمد فاروق النبهان يجيب عن هذه الأسئلة…

لقاء صحفي أجراه الصحفى وحيد تاجا ..دمشق..عام 1999

كيف ننظر إلى مسألة المذهبية في الإسلام؟

ما هو المقصود بتجديد الفكر الديني.. وكيف ينظر المفكر الإسلامي إلى ظاهرة العولمة؟

هل يمكن الحديث عن الإسلام بلا مذاهب؟

ما هو دور المؤسسات العلمية في التقريب بين المذاهب؟

لقاء أجراه الصحفى وحيد تاجا – دمشق

هذه النقاط شكلت أهم المحاور في لقائنا مع المفكر الإسلامي محمد فاروق النبهان مدير دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا في المغرب والذي التقيناه على هامش مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي عقد في العاصمة السورية.

كيف تنظر إلى مسألة المذهبية في الإسلام؟

المذهبية في التاريخ الإسلامية ظاهرة طبيعية ونتيجة حتمية للتطورات السياسية والفكرية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وهي مؤشر على تعددية الرؤية الفكرية، وتعددية الاختيارات في ظل مجتمع تجمعه وحدة العقيدة ووحدة الثقافة، وتفرقه صراعات تاريخية ومناقشات حتمية بين شعوب مختلفة الألوان والانتماءات واللغات والطبائع. ولا يمكن افتراض الوحدة المذهبية في المجتمع الإسلامي فالتعددية حتمية بسبب اختلاف النظر العقلي، وهي وليدة تعددية حقيقية في المكونات الذاتية للمجتمعات الإسلامية، ولا يكمن الخطر في وجود التعددية، وإنما يكمن الخطر عندما تصبح تلك التعددية أداة للتنافس والتناحر وقد تؤدي إلى مواجهات خطيرة بين أطراف المعادلة الواحدة. فالمذهبيات بواقعها الحاضر يجب أن تؤدي دورها في الدفاع عن الإسلام وأن توجه طاقتها لخدمة الإسلام ومحاربة الذين يحاربون الإسلام ولا يجوز أن توجه سلاحها نحو المذهبيات الأخرى.

* سمعنا أطروحات تتحدث عن إسلام بلا مذاهب؟

(إسلام بلا مذاهب) ليس بالطرح الصحيح ولا يمكن أن يكون مقبولاً من الناحية الواقعية لأن المذهبية تعني وجود مناهج مختلفة، وهذه ستؤدي إلى وجود آراء ولا بد من تطوير تلك الآراء لكي تكون في النهاية مذهباً معيناً متكاملاً ينطلق لخدمة الفكر الإسلامي بحسب رأيه، و”إسلام بلا مذاهب” يمكن أن يكون إسلاماً بلا مذاهب متنافرة، فالذين يرفضون المذهبية يرفضون التنافر الذي يقع بين المذهبيات وكلنا نرفض هذا التنافر ونرفض هذا التصادم، فالعلة كامنة ليس في وجود المذهبيات وإنما في تصادمها وتعارضها وتنافرها، وهذا هو الخطر الحقيقي والمرض الذي يجب أن نقف في وجهه.

* ما هي برأيك الخطوات العملية للتقريب بين المذاهب؟

أولاً هذه المذهبيات يجب أن تنطلق من منطلق الثوابت الإسلامية، وأن تحترمها وعندما نتفق على هذه الثوابت الإسلامية فمن الطبيعي أن تلتزم بأدب الخلاف في مناظراتها وفي خلافاتها، وأن يحترم كل فريق الفريق الآخر ويحترم مشاعره، وأن نجرد كتبنا المذهبية من كل ما يسيء للمذاهب الأخرى، ونلتزم بمنهجية السلف الصالح المستمدة من القرآن والسنة لتوحيد الرؤية الفكرية وللاقتراب أكثر من الإسلام، والمذهبية المتكافلة، فالقرآن مصدر لتوحيد المذاهب الإسلامية وتقاربها والالتزام بمذهب السلف الصالح يقرب هذه المذهبيات إلى بعضها، ولا بد من أن يتولى حكماء المذاهب الدعوة للجم التيارات المتطرفة في كل مذهب، وأن يتصدى الحكماء للتيارات التي تحاول الإساءة للمذاهب الأخرى. فاللقاء بين العلماء ضرورة وكل مذهب عليه أن يحكم قبضته على أتباع مذهبه لكي يخفف من جوانب التطرف فيه وأن تجرد كتبنا من كل العبارات الجارحة التي تسيء للمذاهب الأخرى. ويجب أن نؤكد في كل مناسبة أن الغاية من التقريب بين المذاهب الإسلامية ليست إلغاء المذهب الآخر، ولا يجوز لأي مذهب أن ينكر حق المذهب الآخر في الدفاع عن ذاتيته وخصوصياته واستقلاله، ولكل مذهب رؤيته الخاصة في تفسير النصوص وفهمها، وهذه الذاتية تعطيه حق الوجود وشرعية الدفاع عن نفسه، ولكن لا تعطيه حق التدخل والوصاية على المذاهب الأخرى.

* ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات العلمية للتقريب بين المذاهب؟أعتقد أن المؤسسات العلمية الإسلامية مدعوة للقيام بمهمة التقريب النفسي بين المذاهب الإسلامية عن طريق وضع المناهج العلمية التي تساعد على إضعاف مشاعر التعصب لدى أتباع هذه المذاهب وإيجاد القنوات للتواصل العلمي والثقافي لتأكيد الوحدة الإسلامية، وتغذية مشاعر الثقة بين مختلف المذاهب.

* ما هي الأسس التي يجب أن تقوم عليها منهجية التقريب؟يمكن تحديد هذه الأسس بعدد من النقاط وهي:

1- قيام المؤسسات العلمية بوضع استراتيجية للتقريب بين المذاهب.

2- حصر المواقف الخلافية أولاً، ودراسة هذه المواقف في ضوء القرآن والسنة ثانياً.

3- الابتعاد كلياً عن إطلاق شعارات تعمق مشاعر الفرقة بين المذاهب.

4- دراسة المفهوم الشرعي للفظة الإمامة، وتعميق الدراسة حول هذا المفهوم لدى كل من السنة والشيعة.

5- تكوين رأي عام إسلامي ينظر للخلافات المذهبية في إطار التعددية الطبيعية الناتجة عن تفاوت العقول في الرؤية الاجتهادية واختلاف المكونات الثقافية والعوامل التاريخية التي أسهمت في ترسيخ المذهبيات الإسلامية.

لا بد من التأكيد على أن المذهبية في بدايتها نشأت في أحضان الاختلافات السياسية، ونمت وترعرعت في ظل هذه الاختلافات. وإذا أريد لدعوة التقريب أن تحقق غايتها المرجوة فإن من واجب هذه الدعوة أن تتحرر من كل وصاية سياسية وأن تعبر الحدود ممتطية جياد الوحدة الإسلامية التي يمتطيها علماء الأمة وحكماء الرأي.

* إذا انتقلنا إلى موضوع آخر بصفتك مدير (دار الحديث)، ما هي حدود الاجتهاد في الحديث الشريف برأيك؟

الاجتهاد واحد والنص واحد، ليس هناك اجتهاد في الحديث واجتهاد في القرآن، فالاجتهاد واحد، كلمة النص تطلق على القرآن وتطلق على الحديث الصحيح فمهمة المجتهد أن ينظر للنص وأن يستنبط منه الحكم ومن مهمة المجتهد طبعاً أن يبحث عن دلالات الألفاظ وأن يستخرج منها المعنى الذي يفهمه أو الذي يتوارد إليه أو الذي يترجح عنده، ومن الطبيعي كذلك أن تتعدد آراء المجتهدين في فهم النص لأن المجتهد عندما ينظر إلى النص فيفهم منه شيئاً ربما لا يفهمه الفقيه الآخر أو المجتهد الآخر فهنا تتعدد الآراء وتتعدد الاجتهادات. فالاجتهاد ضروري في عصرنا وهو أداة للتجديد وأداة لتأصيل الأحكام وأداة لربط الماضي بالحاضر، وهو يعبر عن قدرة أو ثقة الإسلام بالعقل البشري الذي أناط به الإسلام مهمة النظر إلى النصوص وفهمها واستنباطها، والدلالات اللغوية دلالات واسعة مرنة فقد يستوعب النص أكثر من معنى واحد وأكثر من دلالة واحدة وهنا تتعدد الآراء، بل نجد أحياناً أن هذه الآراء قد توقع الاختلاف بين العلماء في إطار المذهب الواحد، فهذا أمر طبيعي وظاهرة طبيعية، وتعدد الاجتهادات أمر طبيعي وضروري وفيه تيسير للأحكام، وفيه تعبير عن تعدد العقول في قدرتها على الفهم.

* كيف ترى حال الاجتهاد في الأمة العربية الإسلامية الآن؟

الاجتهاد الآن في وضع أفضل مما كان عليه قبل خمسين سنة، وهناك اجتهادات جزئية نراها من خلال البحوث العلمية لبعض العلماء الباحثين الذين يبدون آرائهم في كثير من القضايا الفرعية والقضايا المستحدثة أو النوازل أو كثير من القضايا التي تعرض من جديد أو تتغير الظروف فيها، فهناك اجتهادات فرعية كثيرة والعلماء يقومون بهذا الجهد، ويفضل أن تكون هذه الاجتهادات ذات صفة جماعية وليست فردية وأن تصدر عن المجامع الفقهية المتخصصة واللجان العلمية التي تناط بها مهمة البحث والدراسة لكي نضمن لهذه الاجتهادات بأن تكون سليمة وصحيحة. والاجتهاد الجماعي لابد من توفر شروط فيه وهو أن يلتزم البحث عن الحق وأن يعبر عن رأي الأكثرية، ورأي الأكثرية أو الجماعة هو أقرب للصواب من الاجتهاد الفردي الذي يعبر عن رأي صاحبه.

* ما المقصود بتجديد الفكر الإسلامي وكيف نفهم هذا التجديد؟

التجديد أمر طبيعي، وأنا لا أقصد هنا بالتجديد، كما يقصد البعض، وهو تجاوز النصوص، فالتجديد يعني التأصيل والعودة إلى الحكم والعودة إلى الأصل لاستنباط الحكم الملائم لذلك الأصل المعبر عن مقاصد الشريعة المرادة من ذلك النص وهذا التأصيل وهذا التجديد مطلوب.

* هل يمكن أن نحدد بعض سمات الحركة الإسلامية في المغرب؟

أعتقد أن الحركة الإسلامية في المغرب حركة تتمتع بصفات الرشد والهدوء والالتزام الإسلامي وهي حركة عاقلة متزنة لا نجد فيها ذلك التطرف المزعوم، وهي تلتزم بأدب الاختلاف وأدب المناظرة وتعبر عن تعددية سليمة في الرأي، وهي تسهم في توعية الشعب المغربي بقضايا دينية، فالمغرب بلد مسلم معتز بدينه ومعظم التقاليد المغربية مستمدة من الثقافة الإسلامية ومن القيم الإسلامية. ولا يوجد بالغرب تعددية مذهبية والشعب المغربي مسلم كله والدستور المغربي يقول المغرب دولة إسلامية لغتها العربية ويصفها بالدولة الإسلامية بحسب انتمائها، ومن الطبيعي أن الإسلام والثقافة الإسلامية هي التي توحد الشعب المغربي بجميع فئاته من أمازيغ (بربر) وعرب. الإسلام يوحدهم والثقافة الإسلامية هي الأداة التي توحد الشعب على ثقافة وهوية مغربية ملتزمة بالقيم الإسلامية.

* كيف تفهمون العلاقة مع الغرب وما هي سبل تحسين هذه العلاقة؟

أعتقد أن العلاقة مع الغرب يجب أن تقوم على أساس التكافؤ وعلى أساس الحوار البناء الذي يعبر عن إرادة كل من الطرفين في التقارب والفهم. وعلى الغرب أن يفهم الإسلام جيداً، وعلى المسلمين أن يقدموا الإسلام إلى الغرب بصورته الحقيقية، وأن يقدموا النموذج الإسلامي الصحيح بعيداً عن الانحرافات والخلافات الواقعة في المجتمعات الإسلامية، إننا لا نطلب من الغرب أن يكون صديقاً أو مدافعاً عن الإسلام، ولكننا نريد من الغرب أن يتعامل مع الإسلام ومع الجاليات الإسلامية على أساس المساواة والعدالة والتفهم لخصوصيات الشعوب الإسلامية، وأن يحترم مشاعر المسلمين ويحترم الثقافة الإسلامية، وأن يتعامل مع الإسلام كدين سماوي له خصوصياته وله قيمه وله ثقافته، والمسلمون في كل مكان يعتزون بانتمائهم الإسلامي، وعندما يحترم الغرب الهوية الثقافية للمسلم المقيم في الغرب فسوف يشعر هذا الإنسان المسلم بقدر كبير من الطمأنينة والاستقرار.

عندما يتنكر المجتمع الغربي الأوروبي للقيم الإسلامية فمن الطبيعي أن الجاليات والأقليات الإسلامية سوف تشعر بقدر كبير من مشاعر اليأس والتهميش. وهذا سيدفعها إلى التطرف وقد يدفعها إلى ممارسة أساليب العنف للدفاع عن حقوقها المشروعة وللدفاع عن ثقافتها التي تؤمن بها. فلا شك أن طريقة الغرب بالتعامل مع الإسلام تبدأ بخطوة من الغرب أي أن يتعامل مع الإسلام بروح العدالة وأن يحترم مشاعر المسلمين وخاصةً في مجال الإعلام الغربي الذي كثيراً ما يسيء إلى مشاعر المسلمين ويستفزهم في عقائدهم وفي تقاليدهم وفي ثقافتهم وهذا أسلوب لا يؤدي إلى أية غاية بل يضر أي تعاون بين الغرب والإسلام.

* كثر الحديث عن ظاهرة العولمة، فما هو مفهومكم لها من وجهة نظر إسلامية.

العولمة في مجالها الاقتصادي تعبير طبيعي عن رغبة في التكافل والتعاون في المجال الاقتصادي لتطوير الإنتاج وإيجاد فرص للتنافس على أساس الإنتاج وهذا لا خطر فيه، قد تكون فيه آثار سلبية على الدول النامية التي لا تملك القدرة على الدخول في مجال المنافسة في مجال الإنتاج نظراً لضعف مواردها أو لضعف إمكاناتها التقنية في مجال التكنولوجيا المعاصرة، وهذا سيدفعها إلى مزيد من الفقر، والفقر سوف يؤدي إلى اضطرابات في تلك المجتمعات، وعندما يحدث الاضطراب في مجتمع فإن هذا الاضطراب سينعكس بطريقة مباشرة على الأمن العالمي والسلام العالمي. فلا بد أن نضمن لهذه الشعوب الفقيرة النامية حقوقها في الحياة الكريمة ولو بالتعامل بنوع من التيسير والتفهم لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.

أما على الجانب الثقافي، فالعولمة إذا أريد بها فرض النموذج الغربي الثقافي على العالم فمن الطبيعي أن هذا الأمر سيؤدي إلى اختلاف كبير في مجال الهويات والثقافات المحلية والثقافات القومية والمتمكنة وذات القيم الثابتة سوف تكون قادرة على الدفاع عن ذاتها وخصوصياتها، فالعولمة لتؤدي إلى مزيد من الانغلاق للدفاع عن شخصيتها والدفاع عن خصوصياتها وسوف ترفض ذلك النموذج الغربي والثقافات الضحلة الضعيفة التي ليست لها قيم ولا تملك العمق في تصوراتها الفكرية ربما تضعف وتتراجع وربما تضيع هويتها الذاتية وتفقد قدرتها على الحياة، وأقول أقوى الثقافات وأكثرها قدرة على الصمود هي الثقافات الإسلامية في الشعوب الإسلامية لأنها ثقافة تحصين فالثقافة الإسلامية لها بعدها الإنساني ولها بعدها الشمولي فهي ثقافة ليست مختصة بجانب العبادات وإنما لها انعكاس على السلوك وعلى النظام الاقتصادي والاجتماعي في سلوكية الشعوب الإسلامية وهي ثقافة ذات بعد إنساني وهذا يمنحها القدرة على البقاء والصمود وأنا لا أخشى من العولمة من الثقافة الغربية على الثقافة الإسلامية وأقول إن العولمة سوف تقود الشعوب الإسلامية إلى مزيد من التمسك بثقافتها فالثقافة الإسلامية موحدة ومحصنة للشعوب الإسلامية وطالما أن الثقافة الإسلامية موجودة فلا خوف ولا خطر على الشعوب الإسلامية لأن الإسلام سوف يحصن هذه الشعوب من أي خطر يهدد هذه الثقافة ويهدد الهوية الإسلامية للشعوب الإسلامية.

( الزيارات : 1٬578 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *