فى مجالس الدروس الحسنية

الدرس الحسني الثاني

مضى عام وحسبت أن الأمر قد انتهى , وكدت أن أنساه، وأصبح جزءاً من ذكريات الأمس الجميلة، واقترب شهر رمضان ، وفوجئت ببرقية من الرباط تدعوني لحضور الدروس الحسنية وإلقاء درس جديد أمام الملك …

لم أتردد هذه المرة، وأسرعت لقبول الدعوة، ولقد أصبح لي في المغرب أصدقاء وذكريات، وهناك ما يشدني إلى المغرب ، فأنا مشتاق إلى تجديد هذه الذكريات ، وفي المغرب استقبلت أحسن استقبال ولم أشعر بالغربة أبداً ، وفوجئت أن صديقي الوزير الاستاذ مكى التاصرى قد غادر الوزارة ، وجاء إلى الوزارة وزير جديد ,وقد عرفته  في زيارتى الاولى وكان وزيراً للتربية وهو السيد الداي ولد سيدى بابا ,وهو من كرام الشخصيات المغربية , واستقبلني في مكتبه أحسن استقبال , وقال لي :جلالة الملك يريد أن يسمع درسك الجديد، فما هو الدرس الذي تريد أن تتناوله هذا العام ، قلت له :سأتكلم عن “الفكر السياسي في الإسلام” .. نظر إلًي وابتسم ، وقال لي ملتسما :يعجبني حسن اختيارك لموضوعاتك، ولكن هذا الموضوع  دقيق وصعب  لانه يتعلق بنظام الحكم وأحكام الإمامة وضوابطها والبيعة وكيفية انعقادها، قلت له:  هذا ما أود أن أتحدث فيه,  وأهديته نسخة من كتابي الذي كنت قد طبعته قبل عام عن نظام الحكم في الإسلام ..

زرت صديقي القديم السيد محمد مكي الناصري الوزير السابق، وكان قد غادر الوزارة، وحدثني عن أسباب مغادرته للوزارة ، فقد أراد أن يحدث تغييراً في الوزارة وفي أسلوب عملها.

وكانت له خطة عمل طموحه لتجديد أساليب النشاط الإسلامي وقضايا الفكر ,وكان مقداماً وصاحب قرار ولم يتمكن من تحقيق ذلك , وزرت الحاج محمد باحنينى وكان كبير الوزراء وكان ودوداً ووفياً ,واستقبلني أحسن استقبال ، كما زرت عدداً ممن عرفتهم من قبل، السيد عبد الرحمن الدكالى و الدكنورعبد الكريم الخطيب و الاستاذ محمد الشرقاوي والاستاذ محمد يسف والاستاذ احمد بنسوده مدير الدبوان الملكى..

وفوجئت بوفاة الاستاذ علال الفاسى، وأحزنني أنني لن أراه وكنت قد تلقيت منه رسالة مشجعة ورقبقة قبل وفاته, وكنت أحترمه وأحبه وأنظر إليه بإعجاب نظراً لتاريخه الوطني ولفكره المتميز

فى مجلس الملك من جديد

لما حضرت مجلس الدروس  الحسنية للمرة الثانية تقدمت للسلام على الملك , رحب بي بحرارة واضحة وقال لي: سنسمع درسك غداً ..وقدمت له كتابي الجديد “نظام الحكم في الإسلام “وقلت له هذا هو موضوع الدرس..

لم أشعر قط بأي قلق أو رهبة أوتردد، بل شعرت بطمأنينة كبيرة وثقة بالنفس عالية واكتشفت أن الملك يحترم الرأي ولا يضيق به ، ويحترم العلم ويقدر العلماء ،  ولا يضع أي قيود على المتكلم ويثق به ويمنحه حرية اختيار موضوعه وحرية التعبير عن قناعته , وهذا امر يشعر المحاضر بالمسؤلية عما يقول …وهذا أمر أثار انتباهي وإعجابي، فليس من اليسير على الملك أن يسلم منبر الكلام أمامه لمن لم يعرفه من قبل , وقد تجري على لسانه أفكار وكلمات غير ملائمة وقد تكون مجرحة ..

و فى الموعد المحدد حضرت إلى مجلس الدروس في الساحة الداخلية  للقصر، في الهواء الطلق، كنت واثقاً من نفسي، وبدأ ذلك في ملامحي وسلوكي ، وكنت أدرك صعوبة الحديث في موضع الحكم والمفاهيم الإسلامية للبيعة والإمامة والمسؤوليات المرتبطة بالإمامة، والبيعة التعاقدية المعبرة عن احترام إرادة الأمة في الاختيار ..

وألقيت الدرس لمدة ساعة ، وكان علي أن أختار كلماتي بعناية , وأن أتجنب بعض الأفكار، وكنت ألقى دروسى بطريقة ارتجالية ، وهذا مما كان يساعدني على شرح أفكاري بطريقة ميسرة ، وشرح بعض المصطلحات بطريقة مبسطة ، ثم تحدثت عن أهمية توحيد القوانين العربية، وأن الطريقة الوحيدة لذلك هي اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر لهذه القوانين ، وهذا يكفل لهذه القوانين أن تكون في موطن احترام المواطن العربي ، فالقانون الذي يرتبط بعقيدة المواطن يحظى باحترامه، لأنه يؤمن بعدالته احكامه.. واستشهدت بقرارات عمداء كليات الحقوق في الجامعات العربية الذين أكدوا على أهمية العناية بالشريعة الإسلامية، واعتمادها مصدراً موحَداً للقوانين العربية ..

وختمت محاضرتي بتقديم الشكر لجلالة الملك لقراره بإنشاء المجمع الفقهي في المغرب، وشرحت الخطوات التي أتصورها لعمل المشروع والأهداف المرجوة منه …

وبعد المحاضرة تقدمت للسلام على الملك، ورحب بي بحرارة ومودة واضحة ، وأثنى على الدرس والأفكار التي طرحتها في الدرس ، وقال: موضوع الاستفادة من أحكام الشريعة في القوانين الوضعية هذا أمر يستحق الاهتمام ، ونادى على وزير العدل السيد عباس القيسي، وقال له : أطلب منك أن تدرس هذا الاقتراح وترى إمكانية الاستفادة منه ، وقد اجتمعت فعلاً مع الوزير وشرحت له فكرتي عن الموضوع واهمية ذلك..

أهم أفكار الدرس الثانى

أولاً: أهمية البعد الروحي في بناء الدولة الإسلامية وانعكاس ذلك على العلاقة بين المواطن والسلطة.

ثانياً: المعنى التعاقدي للبيعة كتعبير عن إرادة الأمة، وهو التزام متبادل بين الحاكم والأمة، يعاهدها على الالتزام بالضوابط الإسلامية في العقيدة والسلوك والحكم  والقضاء والعدالة  وحماية المصالح العامة والشورى فى الحكم , والأمة تعاهده على الطاعة والنصرة ، ولا يجوز لأحد أن يخل بالتزاماته وبما عاهد الله عليه ..

ثالثاً: الشورى تعني المشاركة  فى القرار ، بحيث يتحمل الجميع مسؤولية هذا القرار، والشورى ملزمة للجميع ولا خروج عن رأ ي الجماعة …

رابعاً: وجوب احترام إرادة الأمة في اختيار الحاكم, وأهل الاختيار مؤتمنون على اختيار الأفضل ويجب على أهل الحل والعقد أن يكونوا من أهل النزاهة والاستقامة…

خامساً: أهمية مراعاة الأهلية والجدارة والكفاءة في الإمام، والعلم شرط في الكفاءة، والعلم المشروط هو ما يحتاج إليه الحاكم لتسير شؤون الحكم ..

سادساً :الاعتماد على الأكفاء من أعوانه وأهل الاستقامة والنزاهة، واعتبار الكفاءة هي معيار الاختيار .

سابعاً: أهمية الثقة بالقضاء واستقلال القضاء والاحتكام إليه للتوصل للعدالة ، ولا يستقيم أمر الخلق إلا باحترام حقوقهم المشروعة…

ثامناً: أهمية توحيد القوانين العربية وذلك باعتمادها على الشريعة الإسلامية واعتبار الشريعة هي المصدر الأهم لهذه القوانين ، وهذا يؤدي إلى احترام المواطن للقانون الذي يؤمن بعدالة أحكامه.

الدرس الحسني الثالث:

في صيف عام 1975م تلقيت الدعوة الثالثة للمشاركة في الدروس الحسنية وكان المغرب ينتظر قرار المحكمة الدولية بشأن الصحراء المغربية ، ولما وصلت الرباط كان المغرب يعيش على أعصابه ، ولا حديث إلا عن الصحراء وموقف أسبانيا المتردد ، والمغرب حائر وعازم على استرداد صحرائه مهما كان الثمن…

كان الملك يرأس الدروس الحسنية، وهو هادئ منصت، ولا أحد يتوقع ماذا يمكن أن يفعل بشأن الصحراء.

وألقيت الدرس الثالث بعنوان:

(مفهوم الربا في ظلّ التطورات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة)

 وطرحت فيه رؤيتي لمفهوم الربا في ضوء الآية القرآنية: (وأحل الله البيع وحرم الربا) وختم الله الآية بقوله: (لا تَظلمون ولا تُظلمون) والغاية من تحريم الربا هو منع الظلم في هذه الصورة من المعاملات، وذلك لانتفاء كامل الإرادة لدى أحد الطرفين ، ولا إرادة لمستضعف مذعن، ولا يعتد بإرادته وهو في حكم المكره ، وجاء تحريم الربا لحماية الطرف الضعيف من قبضة الطرف القوي، وكل زيادة ارتبطت بظلم فهي محرمة وهي في حكم الربا، وحيثما نجد طرفاً مذعناً لإرادة الأقوى وشروطه فتجب حمايته بإبطال العقد، فالربح الفاحش ربح ظالم، والأجر الذي يقل عن أجر المثل هو أجرٌ ظالم لأن الإنسان لايرضى بأقل من أجره إلا عندما يكون محتاجاً ومستضعفاً ، وتجب حمايته، والمحتكر ظالم لأنه يستغل حاجة الآخرين لسلعته فيرفع أسعاره ويفرض على الناس شروطه المجحفة، وكل من أستغل آخر فقد ظلمه والظلم مذموم وممنوع , وركزت على أهمية العدالةفي الأجور لكي تكون عادلة ومساوية لقيمة العمل، والحد الأدنى للأجور هو حد الكفاية، ولا أجر يقل عن حاجة العامل، وهو تكلفة الأجير …

وشرحت آراء الأقدمين في مفهوم الربا وناقشتها بموضوعية, وتناولت آراء المذاهب في مفهوم الربا، وركزت على أهمية ربط مفهوم الربا في القرآن بالربا الجاهلي المراد بالتحريم وهو الربا المعهود فى الجاهلية والذى بؤكد سيطرة المال على المستضعفين ولا بد من تحرير هؤلاء من سلطة المال والقوة والحكم ..

وقد أثار هذا الموضوع حواراً ونقاشاً حول هذا المفهوم الشمولي الذي يحرم كل أنواع الظلم في كافة المعاملات والمبايعات والقروض..وهذا رأي شخصي قد لايشاركنى الاخرون فيه…

وقد كتبت كتاباً فيما بعد عن هذا الدرس، وشرحت الموضوع بشكل مفصل وواسع، وطبع هذا الكتاب في المغرب بنفس العنوان..

وخلال هذه الزيارات الثلاث إلى المغرب، ومشاركتي في الدروس الحسنية أصبحت أكثر ارتباطاً بالمغرب، وشعرت أن المغرب هو بلدي الثاني ، وتربطني به صلة المحبة والمودة.

 

( الزيارات : 1٬134 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *