كلمة الدكتور النبهان فى مناقشة حديث الدكتور ادريس خليل عن التوفيق بين الدين والعلم

  • العضو الزميل السيد محمد فاروق النبهان :

أشكر الزميل العزيز الدكتور إدريس خليل على هذا البحث القيم وهذه الرحلة الممتعة في قضايا كلنا نتأمل فيها في لحظات حوارنا مع أنفسنا.حول التوفيق بين الدين والعلم

وهي قضايا لا تدخل ضمن التكليف، فلسنا مكلفين بها ولا تناقض بين الدين والعلم .

لقد طرحها أمامنا الزميل العزيز بطريقة ممتعة وجميلة، ومعبّرة وهي تعبر عن تطلع الإنسان إلى الكمال كما يقول ابن مسكويه. في رحلة الإنسان، من النقص إلى الكمال. , وهذا يندرج ضمن هذه الرحلة الطويلة، رحلة الإنسان في بحثه عن تمامه وعن كماله.

أما رحلته نحو تمامه، فيبحث في العالم الخارجي، العالم الآخر، في صداقاته، هو يبحث عن التمام في صديقه وعندما يجد التمام، تنعقد الصداقة سريعاً. وعندما لا يجد تمامه في الاخر، تتوقف الصداقة.

أما في بحثه عن الكمال، فهو في حركة الإنسان الذاتية، في نشاطه اليومي يبحث عن كماله.

عندما يبحث عن الطعام حين يجوع، فهو يبحث عن كماله البدني وحينما يبحث عن الجنس، فهو يبحث عن سبب كماله الوجودي. وعندما يبحث عن أي نشاط من نشاطاته، فهو يبحث عن كماله، فإذا توقف الكمال توقفت حركته وهذا تطلع غريزي لدى الإنسان.

تأملت في هذه الرحلة، رحلة  مسكويه، وكتبت كتاباً بعنوان : “مفهوم النفس عندمسكويه”.  تحدث عن موضوع الكمال، والبحث عن الكمال. وحاولت أن أقارن بين آراء  مسكويه وآراء الغزالي في موضوع مفهوم النفس- سوف أتحدث في جلسة مقبلة عن آراء الغزالي في مفهوم النفس. ..تكلم مسكويه في ست مقالات في كتابه “تهذيب الأخلاق” عن  مفهوم النفس وفي المقالة الأخيرة، تحدث عن الصحة النفسية.

كل ما هو غيب لا يدخل ضمن التكليف ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ في سورة البقرة. …المطلوب الا يمان بالغيب ولسنا مكلفين بالخوض فيه.

ماهوالغيب ؟

الغيب هو الشيء الذي لا نراه، الشيء الذي لا يخضع للحواس، نؤمن به ولا نبحث فيه، لأن وسائل البحث عنه هي الحواس وكل شيء لا ندركه بحواس فهو غيب.

إذن، هذا العقل الإنساني عليه أن يبحث فيما تدركه الحواس، إذا دخل في غيب فلا يمكنه أن يصل إلى الحقيقة لأن هذه الحقيقة غيب لا يراها بعينه ولا يسمعها ولا يشمها ولا يلمسها، فكيف يمكنه أن يتحدث عنها ؟

وهذا ما دفع العلماء السابقين إلى عدم الخوض في هذه الغيبيات، وهذا ما نعرفه عند أحمد بن حنبل، عندما رفض القول بخلق القرآن. ..هذا امر لا يخضع للنقاش العقلى

عندما ناقش المأمون قضية الخلق، هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق ؟قال احمد بن حنبل:«لا يجوز الخوض في هذا. هذه ليست مهمة الإنسان ولن يصل إلى نتيجة».

ليس لأن هذا  القول خطأ، ولكن الخوض في هذا لا يملكه الإنسان.ولا يدخل ضمن اختصاصه

حقيقة الإنسان كيف كان فى البداية قردا أو نباتا أو شيئا آخر، لا يمكننا أن نصل إلى نتيجة، ولا يمكن حتى للعلم أن يصل إلى يقين.

العلماء يقدمون آراء حول نشاة الانسان ، وبعد آلاف السنين تتغير  اراؤهم إلى شيء آخر. هذا غيب. ليس من مهمة الإنسان.

الإنسان مزود بقدرات تكفيه لحياته اليومية. ولكن لا يملك قدرات خارج نطاق حواسه. فهو يبصر بالمقدار الذي يحتاجه … مسافة محددة… بعد ذلك لا يرى… هذا لا يعني أنه لا يوجد شيء، ولكنه لا يراه.

ويستمر في دائرة احتياجاته، ويسمع بمقدار معيّن، فهناك أشياء لا نسمعها ! بعض الحيوانات تسمع أكثر من الإنسان وتشم أكثر من الإنسان.

الإنسان له قدرات ذاتية يملكها ولا يتجاوزها.

الدين مهمته أن يخاطب هذا المجتمع وكل المجتمعات….يكتفى بالاسس التى يحتاجها الانسان لحياته … الدين مهمته ثلاث 1) استقامة العقيدة، ألا يكون هناك خلل في العقيدة وفي المفاهيم الأسطورية الخرافية

الهدف الثاني، ثقافة الحقوق وهو ألا يكون هناك طغيان من القوي على الضعيف. أن تعرف مالك وما عليك. وهذا هو مفهوم العدالة ومفهوم التفضّل. والثالث الدعوة الى الارتقاء السلوكى  …

كيف نوفق بين مفهوم العدالة ومفهوم التفضل ؟

نحن نقول التفضل درجة أخلاقية، والعدل درجة أخلاقية.

كيف نفرق بين التفضل والعدل ؟

التفضل فيه زيادة بينما العدل فيه مساواة.

 أين تكون الفضيلة ؟

مسكويه تحدث عن هذه النقطة بالذات.

قال : كيف نوفّق بين فكرة العدالة التي تقوم على فكرة التساوي في الحقوق بين الطرفين، وبين فكرة التفضل الذي هي زيادة عن العدالة

قال :«هي عدالة مع زيادة في الاحتياط» ترتقي إلى مستوى التفضل بمعنى أنت الأقوى تتنازل عن جزء من حقك لصالح الطرف الأصغر.

فأنت عندما تتعامل مع ولدك، لا تتعامل بعدل وإنما تتعامل بالتفضل، الإحسان، السماحة، العفو.

القصاص عدل وهناك درجة أعلى من القصاص وهو العفو.

العفو عمن أساء إليك. هذه درجة أعلى، هذه تفضل. فنحن نحتاج فعلا إلى ذلك اليقين.

الإمام الغزالي عندما كتب كتابه “المنقذ من الضلال” كانت له رحلة… رحلة الشك التي عاش فيها وتحدث عنها. وكتبت أنا مقالا – نشر في الأكاديمية – “رحلة اليقين عند الإمام الغزالي كان يقول :«كنت أبحث عن اليقين » لأن كل الحواس التي كان يعتمد عليها لم توصله إلىاليقين. فقال «ما أقيم الدليل عليه أملك الدليل العكسي عليه. فأين اليقين ؟ لا يقين». وهنا بدأ البحث عن اليقين إلى أن وصل إلى يقين كما يتصور، وهو سكون القلب.

هذه الحالة : السكون الداخلي،﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾. لما تكون في مرحلة الشك تشعر دائماً بنوع من القلق والانفعال الداخلي إلى أن تصل إلى مرحلة السكون القلبي.

وهو الذي يعطيك راحة قلبية كشيء رأيته بعينيك ولم يعد قابلا للشك.

كل القضايا العقلية قابلة للشك بدون استثناء، هناك قرائن تعطيك مؤشرات.

الإمام الغزالي ، تحدث عن الإيمان التقليدي. والإيمان العقلي والإيمان اليقيني. جاء بمثال بسيط جدا قال :«وأنا أجلس هنا يأتي من اثق به يقول لي ، وأنا أثق به ثقة مطلقة:”خلف هذا الجار توجد مدرسة” وأصدقه تقليداً لأنني أثق به. ..ولكن احتمالات الشك باقية. هذا إيمان تقليدي… بعد قليل سمعت أصوات أطفال يلعبون. قامت قرينة جديدة، قرينة عقلية، أكدت لي صحة ما قال لي. ولكن لم اصل  إلى اليقين. ،  ذهبت إلى المدرسة ورأيت المدرسة بنفسي. لم تعد قوة في الأرض تستطيع أن تقول لي : لا توجد هناك مدرسة، رأيتها بنفسي. هذا هو اليقين الذي يبحث عنه».

كل القضايا العلمية، كل ما قاله العلماء هو ظن ، ليس هناك يقين، ولن يصلوا إلى يقين. ممكن بعد مئات السنين ستحدث أشياء مغايرة كليا لما وصلوا إليه.

القرآن يخاطب كل الأجيال.لا يمكن أن يقدم قضية حتمية تفصيلية، بطريقة يخاطب بها جيلا لا يمكن أن يستوعب ما سمع.

 نحن اليوم أمام أشياء لو خاطبنا بها القرآن منذ نحو مائة سنة أو ألف سنة لا يمكن أن نقبلها. ..مثلا أن الإنسان يمكنه أن يطير في السماء، أو نسمع أصوات إنسان موجود في أمريكا ونحدثه! لا يمكن أن نقبل هذا. سوف نقول : هذا غير ممكن. وما يمكن أن يحدث بعد 100 أو 200 سنة ستكون أشياء أخرى..

إذن عملية البحث عن اليقين نحتاجها.

أنا لا أرى هذه العملية التوفيقية… لا أرى أنها موفقة ولا توصل إلى شيء. ولسنا مكلفين بها، لسنا مكلفين أن نبحث عن الحقيقة المطلقة.

فهذه العملية التوفيقية هي عملية ترقيعية أكثر منها توفيقية. ولا تخلو في معظم ما أطلعت عليه من عملية تكلفية. بمعنى شيء من التكلف يصل إليه بالصدفة، فيبني عليه حقيقة ليس لها أساس في الأساس. كالإعجاز العلمي أو الرقمي. هذا فيه شيء من التكلف، ولا يفيد شيئاً، ولا يُغني عن الحقيقة التي نحتاج إليها.

فإذن نتمنى أن نتجه في دراساتنا العلمية إلى يقين يفيدنا في حياتنا.

العلم من أجل الحياة.

أنا لا يهمني ما كان فيه الإنسان من قبل مليون سنة… الإنسان اليوم هو الأهم. وما سيكونه بعد مائة سنة أو ألف سنة أيضا لا يهمني.

يهمني اليوم القضايا الإنسانية التي نعيشها اليوم ..أما ماضينا قبل مليون سنة سواء كنا قروداً أو نباتات أو ماء فهذا أمر لا يهم الإنسان اليوم.

حتى التاريخ –كما يقول ابن خلدون – نقرأه لكي نستفيد منه، لا نقرأه لكي نستمتع فقط، وإنما لكي نتعلم الجديد من دروس السابقين حتى لا نكرر الأحداث مرة جديدة.

وأكرر تقديري للدكتور إدريس خليل على هذا البحث عن التوفيق بين الدين والعلم ..وهذه الجولة الموضوعية الهادفة، المعبرة عن عمق فكري وتحليل.

وقد أشار إلى قضايا وتساؤلات كلنا نشعر بها، ونشعر بأهميتها في حياتنا. التأملية. وشكرا لكم.

( الزيارات : 1٬827 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *