كلمة تحية لاصدقائى المغاربة

اعترف في البداية  أن الشخصية المغربية كانت محببة إلى نفسي منذ طفولتي الأولى , بسبب أصدقائي المغاربة الأوائل الذين عرفتهم عن طريق صداقة الأسرة ، ، والشخصية المغربية دمثة في أخلاقها ، مهذبة في سلوكها ، ومن اليسير إيجاد روابط وثيقة معها ، وهي أقرب في تكوينها إلى الشخصية الشامية من حيث الطبيعة والعفوية والسجايا والسلوك ..

         ومعظم أصدقائي الأوائل في تلك المرحلة ينتمون إلى الأسرة الكتانية الشهيرة بمكانتها العلمية والدينية ، وهي أسرة ذات تاريخ عريق وتنتمي إلى الأدارسة الأشراف من أحفاد المولى إدريس الأول ، وهاجر فرع منها إلى بلاد الشام واستقر بمدينة دمشق ، ومن ابرز رجالها السيد مكي الكتاني العالم الشهير الذي حظي بمكانة كبيرة بين علماء دمشق ، وكان صديقاً لجدي الشيخ محمد النبهان ، وعرفته منذ طفولتي عندما كان يزور مدينة حلب ، ثم عرفت السيد المنتصر الكتاني الذي كان أستاذاً بكلية الشريعة بجامعة دمشق ، وكان أستاذي وصديقي ، وكنت أحبه واقدره ، واجد فيه خصالاً رفيعة من الشجاعة والكرم والنبل والأصالة .. ثم تعرفت على بعض شباب الأسرة الكتانية الذين حضروا من المغرب للدراسة في كليات الجامعة السورية ، ومنهم صديقي الدكتور حمزة الكتاني الذي كان طالباً بكلية العلوم وأشقاؤه عبد اللـه وعمر في كلية الآداب .

       تلك كانت صلتي الأولى بالمغرب والمغاربة ،وكانت بداية مشجعة ، ومن خلال أصدقائي الأوائل أحببت المغرب ، ذلك البلد البعيد المطل على المحيط الأطلسي ،ولا اعرف تاريخه وجغرافيته ونظامه السياسي وأوضاعه الاجتماعية .. ولم أكن اعرف عنه أكثر مما اعرف عن غيره من بلاد المغرب العربي ، كنت أعرف أن فرنسا قد فرضت عليه نظام الحماية ، وأنه تخلص من تلك الحماية بفضل جهاد وتضحيات رموز الحركة الوطنية ، ومن أبرزهم ملك المغرب محمد الخامس الرجل المحمود السيرة ، الذي اشتهر تاريخه بالوطنية والنزاهة والاستقامة ، وكان محبوباً لدى شعبه , بسبب تضحياته الجسيمة التي دفعت نظام الحماية الفرنسية لعزلـه ونفيه ,واختيار ملك آخر اختارته فرنسا لكي يكون مطية للقضاء على الحركة الوطنية ..

وعندما زار محمد الخامس بلاد الشام بعد الاستقلال استقبل بحفاوة وتكريم وفرحة , وكان يرتدي الملابس المغربية الطربوش الابيض والجلباب , كان مهيباً في شخصيته مريحاً في ملامحه ..وجاء إلى المشرق وهو يحمل سجلاً رائعاً لجهاده الوطني , كان ملكاً متميزاً ذا طلعة مهيبة ومريحة.

وبعد سنوات من الاستقلال الذي دفع المغرب ثمنه غالياً بفضل جهاد الحركة الوطنية وإخلاص رجالها بدأت الصحافة المشرقية تنقل أخبار الصراعات الداخلية بين رفاق الأمس من رجال الحركة الوطنية والانشقاقات المتوالية التي قسمت حزب الاستقلال والتي أدت إلى حركة الانفصال التي مهدت لبروز أحزاب سياسية اشتراكية يسارية رفعت شعارات غير معهودة بشأن مستقبل المغرب , وهذه الشخصيات التي انشقت عن حزب الاستقلال الذي كان يقوده الزعيم الوطني السيد علال الفاسي الذي كان من القيادات الوطنية المعروفة بالشجاعة والجرأة والنضال والكفاح , أنشأت حزباً جديداً ضم كل الشخصيات التي تناهض قيادة حزب الاستقلال التاريخية ..

بدأت الصراعات الداخلية قوية بين رفاق الأمس , وعندما أصبح الملك الحسن الثاني ملكاً بعد وفاة والده أراد أن يستعيد كامل سلطات الملك من الزعماء السياسيين ,واستفاد من هذه الانشقاقات لتدعيم مركزه كملك يتحكم في سياسة بلده بطريقة تتيح لـه أن يكون صاحب القرار النافذ , واستطاع الملك أن يحقق ما يريد , وأدى هذا إلى قيام تنظيمات مناوئة للنظام ..

كان الملك الحسن الثاني ذكياً وشجاعاً ويملك كل المؤهلات لقيادة بلده والتحكم في مساراته , وكان هو الاقوى شعبياً بسبب كفاءاته ومواهبه بالاضافة إلى مكانة الملك في نظر المغاربة سواء من الناحية الدينية او من الناحية التاريخية , والمغاربة يعرفون أن المغرب يحكمه ملك وتجب طاعة الملك , وليس هناك حاكم آخر ، فالملك هو الاقوى على الدوام ،وهو قادر على إلغاء أي قوة مناوئة لـه بسبب ثقة شعبه بالملك كرمز وطني يحظى بالاحترام.

عندما زرت المغرب لأول مرة عام 1973 كانت مؤامرة قصر الصخيرات ومؤامرة الجنرال أُوْفْقير لإسقاط طائرة الملك قبل عام ماتزال حية في  النفوس ،ولاحظت ذلك من خلال أحاديث المغاربة

الذين كانوا يتخوفون من تكرار هذه المؤامرات , إلا أن الملك الحسن الثاني كان في قمة الهدوء و الثقة بالنفس وكأنه لاشيء  يخيفه ,و كان يمارس نشاطه اليومي و يهتم بالثقافة و الفكر كما يهتم بالأشياء الصغيرة , و كأن كل خصومه لا وجود لهم ..

كان الناس يتحدثون عن مخاوفهم , وكان الملك واثقاً من نفسه و يرأس الدروس الحسنية كل  يوم , و يحاور العلماء و يتابع دروسهم , و يهتم بأمرهم , و كأن  المغرب في امن و طمأنينة, و كان يخطط لسنين طويلة من الاستقرار ,و لم أجد المغرب كما توقعته , و كما تُصوره و سائل الإعلام ,ومن يقرأ أخبار المغرب يظن أن الأمور فيه قلقة و مضطربة و الأمن مفقود , و رأيت مغرباً مستقراً هادئاً منضبطاً, و رأيت الملك هو صاحب السلطة المطلقة , و يمسك بزمام الأمور بطريقة ذكية و هادئة وحازمة,  ولم أجد أي مظاهر للعنف أو التطرف أو الحدة أو الانفعال أو الخوف , و ليست هناك مظاهر أمنية ملفتة للنظر ,وكل شيئ عادي و هادئ و عفوي ..

 والقصر الملكي في الرباط خلال شهر رمضان  لا  مكان فيه لغير العلم  والعلماء , و لا إنشغال للملك في رمضان بغير دروس العلماء وآرائهم وأفكارهم .. و العلماء يدخلون الى مجالس الملك بكل فرحة و طمأنينةويشعرون بالتكريم .. ولا حديث للمغربـ في أمسيات رمضان إلا عن الدروس الحسنية والعلم و الثقافة .

اُعجِبتُ بهذه الظاهرة , فلم نعهد بمثل هذا في بلاد المشرق , و في مجلس الدروس الحسنية ترى المغرب كلـه , وزراء و سفراء و قادة الجيش و علماء و رؤساء أحزاب و شخصيات سياسية مؤيدة و معارضة .. و الكل يجلس بأدب في مجلس الملك , ولا أحد ينبس بكلمة أو حركة .. ورأيت كبار شخصيات المغرب في تلك المجالس , وليس هناك كبير في مجلس الملك .. وكل فرد يجلس في مكانه الذي يحدد لـه من الجهة المختصة بالتشريفات الملكية .. في تلك المجالس اكتشفت عظمة التراث المغربي الحضاري , حيث تلتقي الأسرةالمغربية بكل أفرادها في مجالس الملك الرمز الوطني الكبير , وليس في مجالس الملك ذلك الصراع السياسي بين المؤيدين و المعارضين , وكل من يدعى لهذه المجالس ينال حقه من التقدير و يجلس في المكان المحدد لـه  وفق معايير عادلة..  بدأت علاقتي الأولى بالمغرب من خلال تلك المجالس وعرفت أصدقائي الأوائل في هذه المجالس  و هم عرفوني أيضاً , وكانت هذه المجالس هي الفضاء الفكري و الروحي الأجمل في حياتي , و هي المجالس الأكثر روعة في التقاليد المغربية , فهي ليست جديدة , و هذا سر بهائها وجمالها , إذ حرص ملوك المغرب على التمسك بها في رمضان , وكانت قاصرة على العلماء ورجال الحاشية الملكية , ثم بفضل وسائل الإعلام أصبحت ظاهرة رمضانية يتابعها كل المغاربة.واتسعت صداقاتي في المغرب وتشعبت, فمنذ زيارتي الأولى للمغرب شعرت أن لي أصدقاء كثر , وهم يزدادون كل يوم ,والمغاربة شعب طيب أصيل , تحبه من أول لقاء , وهو شعب يحسن التعامل مع الشعوب الأخرى , وعندما تمد يدك إليه تجد يده ممدودة إليك بالمحبة والمودة.. قد لا يبادرك في البداية ولكن سرعان ما يكون ودوداً إذا عرفك ورأى فيك الاستقامة والنزاهة, والمغاربة حسب ما رأيت يتميزون بالأدب واللباقة ويحبون ضيوفهم بشرط أن يحترموا الخصوصيات المغربية, وهذه صفة فطرية في الإنسان ..

والمغربي يحبك إذا أحببته , ويمد يده إليك إذا صافحته , ويتعلق بك إذا ساعدته , ويسر كل السرور إذا مدحت المغرب والمغاربة , ولا يقبل أن يتوجه إليه نقد من احد , والمغاربة مفرطون في نقد أنفسهم إلى درجة أنهم يظلمون أنفسهم  ,ويتميزون  بالكثير من الطبائع والخصال والقيم والتقاليد, ويحبون المغرب إلى درجة كبيرة ,ولا يحبون أن يسمعوا نقداً من أحد ..

عرفت خلال إقامتي في المغرب شرائح اجتماعية كبيرة , وزرت المدن المغربية كلها , وعرفت خصائص كل جهة .. واعترف أنني أحببت أصدقائي الذين عرفتهم , ولم أجد سوءاً من احد , وكنت ألقى الترحيب من الجميع , بالرغم من تفاوت الطبائع بين من عرفت من الأصدقاء..

مازلت أعتز بأصدقائي المغاربة , واذكرهم  بخير ,واحمل لهم حباً ووفاءاً , ورأيت مواقف نبل وأصالة من أصدقائي , جعلتني اذكر المغرب باستمرار , واجد صعوبة في نسيان ذكرياتي الجميلة ,وربما تكون هي الذكريات الأجمل في حياتي ..

ومن واجبي أن اذكر أصدقائي المغاربة , ليس كل من عرفت , وإنما بعض من عرفت , ممن ارتبطت صلتي به بموقف أو حدث , واختار بعض الأسماء المعروفة في الفترة التي عشت فيها في المغرب , سواء كانوا رجال فكر وثقافة وأدب , أو رجال سياسية ووطنية و وليست غايتي أن أترجم تاريخ حياتهم , وإنما اكتفي بالقدراليسير الذي يعرف بتلك الشخصية , واعتذر من أصدقائي الذين لم يرد ذكرهم , وبعضهم كان أقرب إلي إلا أنني اختار البعض ممن اشتهر اسمه أو عرفت شخصيته, بسبب إسهامه فى القضايا العامة..



  أنظر كتاب الأكاديمية عن كلمات استقبال الأعضاء ص 201

( الزيارات : 1٬703 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *