كلمة وداع للملك الحسن الثانى

وفي يوم الجمعة 23 يوليو 1999 أذاعت التلفزة المغربية بلاغاً نقلته وكالات الأنباء العالمية أن الملك الحسن الثاني قد نقل إلى مستشفى ابن سينا في الرباط إثر وقوع التهاب حاد في رئته ، وبعد قليل بدأت التلفزة تذيع تلاوة للقرآن الكريم، ثم ما لبثت أن أعلنت نبأ وفاة الملك الحسن الثاني في الساعة الرابعة والنصف بعد زوال هذا اليوم إثر تعرضه لضيق تنفس تلته نوبة قلبية حادة أعقبها انهيار حاد في وظيفة القلب..

كان صاحبنا يتابع الأخبار باهتمام ، وأدرك منذ البداية أنها النهاية .. لم يصدق ما ذكرته التلفزة الفرنسية عندما أعلنت الوفاة .. ثم ما لبث أن أعلن الخبر ، وظهر ولي العهد سيد محمد وهو ينعي والده ..

لقد مات الحسن الثاني .. انتقل إلى رحاب ربه ..

انهمرت الدموع بغزارة .. كان صادقاً في حزنه ، كان يحبه بصدق .. كان يحب فيه شخصيته ونبلـه وإنسانيته .

ذهب ولن يعود .. لن يراه بعد اليوم .. كان هناك صمت رهيب يخيم على كل مكان .. شعور بالوحدة .. خرج إلى شوارع الرباط في الليل ، كانت هادئة صامتة حزينة .. كانت الكآبة في كل مكان ..

أمسك القلم وأخذ يخط أولى كلماته في وداع ذلك الرجل العظيم ..

في رحاب اللـه .. يا ملك القلوب ([1])

ما كنت أحسب أنني سأقف هذا الموقف لأخط بقلمي كلمات رثاء بحقك أيها الملك العظيم .. فهل حقاً رحلت إلى الرفيق الأعلى وتركت دنيانا ..

وقد رحلت أيها الملك العظيم على حين غفلة ، وما كنا نحسب أن الموت قريب من الحياة .. ما كنا نظن أن لحظة واحدة يمكن أن تغيبك عن شعبك ومحبيك الذين صدمهم نبأ وفاتك المفاجئة ، وكأنك أردت أن تغيب فجأة من غير مقدمات في رحلة سريعة تلبية لنداء ربك لكي تكون في رحاب اللـه ..

سنذكرك أيها الراحل العظيم في صباح كل يوم عندما تشرق الشمس فلا نجد وجهك يداعب الوجوه التي أحبتك وتعلقت بك ، فكنت القائد الذي منح شعبه الشعور بالأمان والاستقرار في خضم العواصف التي تعصف في كل يوم بعالمنا العربي والإسلامي ، وكنت الربان الذي يقود سفينة بمهارة فائقة وثقة بالغة ، لا تخيفك الأعاصير ولا تضعف من عزيمتك الأخطار ، فكان المغرب في عهدك واحة استقرار وأمان وعاصمة الحكمة السياسية وموطناً للتلاقي والمصالحات .

سيفتقدك أيها الراحل العظيم الشعب الفلسطيني الذي أحببته فأحبك ، ونصحته بصدق فكنت الناصح الأمين ، ودافعت عنه في كل المؤتمرات الدولية والمحافل السياسية .. والقدس الشريف سيناديك أيها الراحل العظيم فمن للقدس يا ناصر القدس بعد أن أصبحت يتيمة كيتم الأطفال الذين فقدوا آباءهم قبل أن يبلغوا سن الرشد ..

لقد كنت أيها الراحل العظيم المدرسة التي تعلمنا منها الكثير مما لم نتعلمه في منابر التدريس .. تعلمنا منك الوطنية الحقة المتمثلة في الاعتزام الصادق والتلقائي بقيم الأصالة والاعتزاز بالموروث الحضاري والثقافي ، فكان المغرب بالنسبة لك هو الحب الكبير الذي وهبته حياتك لإبراز خصائصه وعبقريته وتجسيد أصالته وقيمه .

تعلمنا منك أيها الراحل العظيم أن نعتز بإسلامنا وأن نتمسك بثقافتنا وأن نقدم النموذج الإسلامي الذي يلامس الفطرة ويعبر عن حقيقة الإسلام ، وكانت الدروس الحسنية هي التظاهرة الإسلامية الحية التي تعلقت بها قلوب المسلمين في كل مكان ،لأنها تعبر عن اعتزازك بكتاب اللـه وسنة رسولـه وثقتك بعلماء الأمة ورموز الفكر والثقافة فما أعظم أن يشعر المجتمع باعتزاز الملوك والقادة بعقيدة الأمة وثقافتها الدينية وقيمها الأخلاقية ..

لقد كنت أيها الراحل عظيماً في رئاستك لمجالس الفكر والثقافة لم تشغلك همومك السياسية ولا ارتباطاتك الرسمية عن مجال الخير والبركة والذكر والدعاء ..

تعلمنا منك – أيها الراحل العظيم – أن تكون صدورنا رحبة بمن يخالفنا في الرأي وأن نفسح لـه المجال للتعبير عن ذاتيته لأنه رفيق لنا في رحلة الحياة ، يملك ما نملك من فضاءات الرؤية والتفكير ، وطالبت بإنشاء خلايا للتأمل والنظر في القضايا الإنسانية لكي يؤكد جيلنا تكاتفه وتضامنه في سبيل إقرار قيم الحوار الحضاري على مستوى الأديان السماوية والثقافات ، وأنشأت أكاديمية راقية تضم قيادات فكرية مختلفة على مستوى حضارة هذا العصر للنظر والتفكير والحوار ، لكي تكون المنبر المعبر عن تطلع هذا الجيل لوضع أساس فكري لثقافة عصره ، بعيدة عن التعصب القومي والنظرة الإقليمية المحدودة ..

أيها الراحل العظيم ، لقد كنت تمثل الكرامة العربية والشموخ العربي في اعتزازك بدينك وثقافتك ولغتك وانتماءاتك وسياستك ، وكنت شديد الغضب عندما يحاول أحد أن يتدخل في شؤون بلدك أو يفرض هيمنته على أي قرار من قراراتك أو يسيء لمشاعر شعبك .. لقد كنت تحسن التصدي لا رغبة منك بالعناد ، ولكن تأكيداً لمعنى السيادة وحماية لهيبة الدولة ، وإقراراً بحق المغرب في الدفاع عن حقوقه ومصالحه ، وبفضل هذه الخصوصية التي يحبها شعبك في مواقفك اكتسبت احترام العالم لشخصيتك وقراراتك واختياراتك ، وكنت المفاوض الناجح الذي يحسن الدفاع عن مصالح شعبه ، فلا يتنازل ولا يساوم ولا يتعجل في قطف الثمار قبل مواعيدها .

أيها الراحل العظيم ، دموعنا تجري بسخاء لوداعك وسوف تظل تجري كلما تذكرنا موقفاً من مواقفك .. سيفتقدك شعبك كلما ألمت به نوائب الأيام ..

لقد أديت أيها الراحل العظيم رسالتك وأنجزت ما وعدت من إصلاحات ومخططات ، وسوف يرى شعبك في نجلك البار وخلفك الذي ربيته أحسن تربية وأعددته أحسن إعداد لكي يحمل الأمانة ملامح عبقريتك وخصوصيات منهجك فهو وليد تلك المدرسة الحسنية الرائدة والمتميزة بمواقفها وخصائصها وقيمها..

ومن أعماق قلبي ارفع إلى مقام أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أصدق عبارات المواساة والعزاء في الراحل العظيم طيب اللـه ثراه وأسكنه فسيح جناته وأثابه الثواب الأوفى لجهاده في سبيل نهضة شعبه ..

هذه بعض فقرات من الكلمة التي نشرتها جريدة العلم المغربية يوم تشييع الفقيد ، ثم نشرت في العدد السادس عشر من مجلة دار الحديث الحسنية ..



([1]  ) نشرت جريدة العلم التي تصدر بالرباط الكلمة كاملة في الصفحة الأولى يوم تشييع الفقيد .. ثم نشرت الكلمة كاملة في العدد السادس عشر من مجلة دار الحديث الحسنية .

( الزيارات : 1٬149 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *