لا بديل عن العدالة

 

 

 

 

 

 

 

 

ذاكرة الايام..لا بديل عن العدالة واحترام الانسان.

منذ خمسينيات القرن الماضى  انتشرت كلمة الاشتراكية كمنهج اجتماعى واقتصادى فى مواجهة ماكان سائدا فى تلك الفترة من مخلفات الماضى من الاقطاع وتحكم راس المال وتمركزه بيد طبقة خاصة وقليلة من اصحاب النفوذ والسلطان من بقايا ماكان موجودا من قبل من الاقطاعيات الزراعية والاحتكارات التجارية والامتيا زات فى المرافق العامة , وأدى هذا الى تمركز الاموال بيد مؤسسات تتحكم فى السياسة فى الوقت الذى كانت الطبقات الاجتماعية الاخرى تئن من وطاة الفقر والحرمان والملكيات الكبيرة ومظاهر الترف الاجتماعي , كانت الطبقات الفقيرة محرومة من كل الحقوق الانسانية ومن كل مظاهر التكافل الاجتماعى والعدالة الاجتماعيىة , لم يكن بامكان هذه الطبقات الفقيرة ان تعبر عن حرمانها والامها , كانت فكرة الاحسان الفردى هي النافذة الوحيدة التى كانت تمد هذه الطبقة بالقليل من اسباب الحياة , فى مجتمع اسلامى لا يمكن ان يرفع اهله شعار الشيوعية ولا ان يختاروا منهجها للاصلاح , وظلت الشيوعية غريبة عن مجتمعات الاسلام , هناك فئة صغيرة اختارت هذا الشعار وظلت فكرة محدودة غير محببة او مقبولة , لان الشيوعية كانت اكثر من مجرد دعوة للاصلاح الاجتماعي , كانت منهجا متكاملا ارتبط بالشيوعية العالمية كمنهج للتغيير الثورى عن طريق طرح فكرة الحقد الطبقى  وتحريض الطبقات الفقيرة على التمرد والثورة , وارتبط هذ المنهج بفكر ماركس وكتاباته عن  حتمية الانتقال من النظام الاقطاعى الى النظام الذى يتحكم فيه العمال والمزارعون بالسلطة والحكم والمال , كانت التجربة الشيوعية تتوغل فى المجتمعات الاوربية بقوة مما جعل هذه المجتمعات تدخل اصلاحات حقيقية فى انظمتها الاجتماعية والاقتصادية , وانعكس ذلك على افكار المفكرين والمثقين فى تلك المجتمعات  , وظهر اثر ذلك في مفهوم الحق لدى فقهاء القانون , لم يعد الحق فرديا كما كان , كان البعد الاجتماعي خافتا وخجولا  فى مفهوم الحق وسرعان ما اتسع اثره  وظهرت نظريات ذات بعد اجتماعي تعترف بالدور الاجتماعي للحق والملكيات والحقوق تخفف من فرديته وتجعله اكثر انسانية  , وظهرت لاول مرة نظرية التعسف فى استعمال الحق كقيد قانونى يجعل صاحب الحق  اقل سلطة واكثر ارتباطا بالمجتمع , واتسعت دائرة القوانين الاجتماعية المتعلقة بحقو ق العمال واجورهم والضمانات الاجتماعية التى تجعلهم اكثر شعورا بالامن النفسي والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية , وارتبطت فكرة التعسف فى استعمال الحق بما كتبه العميد ديجيه عن اهمية احترام صاحب الحق لمصالح مجتمعه والا يستخدم حقه فيما يسيء لذلك المجتمع ولا يمكنه ادعاء الحق فيما كان ضارا بالاخرين  , كنت اتابع باهتمام ذلك التطور الكبير فى تاريخ الفكر الانسانى من الفردية التى كانت اكثر انانية الى جماعية اكثر عدلا وانسانية , استطاعت المجتمعات الاوربية ان تواجه الشيوعية باصلاحات حقيقية فى انظمتها السياسية والاجتماعية واصبح العامل اكثر امنا مما كان عليه لا يخشى تعسف صاحب المال ولا تجاوزه عليه بانانية بغيضة مكروهة مذمومة واصبحت الاجور محمية بالقانون  وشروط العمل اكثر عدالة وكفاية لم تعد القوانين الاجتماعية كما كانت من قبل , وبالرغم من كل ذلك ما زالت الثروات الكبيرة تتحكم وتوجه وتستغل السلطة وتمارس ضغوطها لحماية مصالحها ,   , لم تكن اشتراكية الشيوعية هي الاولى تاريخيا ولم تكن سابقة , وانما هي وليدة تاريخ طويل من تطور الفكر الانسانى باحثا عن العدالة منكرا تلك الانانيات الفردية , كان القرن  السابع عشر والتامن عشر حافلا بالافكار التى تتطلع الى واقع اجتماعي اكثر عدالة والى فهم لمفهوم الحق اكثر تعبيرا عن العدالة والقيم الانسانية واحتراما لا رادة الجماعة ومصالح الطبقات المحرومة , كنت منذ طفولتى ارقب ذلك الانسان المستضعف الذى اكرمه الله بالحياة وكفل له اسبابها ولكنه بسبب ضعفه ظلم واضطهد وحرم من كل حق من حقوقه , مازالت عشرات المواقف فى الطفولة كنت ارقبها وكانت تؤلمنى , ماذنب ذلك المستضعف يعمل كل يومه فى عمل شاق لا رحمة فيه  يعمل  ولا يجد اجرا يضمن له الكرامة ولا كرامة بغير كفاية , والكفاية هي الحد الادنى للعدالة , ولا اجر يقل عن الكفاية تلك هي العدالة التى ضمنها الله لكل خلقه , مازالت عشرات المواقف فى تاريخنا الاسلامى تذكرنى باهمية العدالة الحقيقية كواقع وليس كشعارات  , لقد ارتبطت العبادات والاعياد بعمل الخير والصدقات وتكفير الذنوب بالكفارات واطعام الفقراء  واكرام الضيف ومساعدة المسكين  وتراثنا الفقهي غني باحكام  الزكوات والصدقات والكفارات ووجوب اكرام الضيف ومساعدة ابن السبيل كل ذلك يذكرنى بذلك البعد الانسان والاخلاقى فى الواجبات الدينية , لم يكن الاحسان اختياريا وانما هو فريضة دينية , ولعل هذا هو ما دفعنى لتشجيع الاخ الحبيب التيجكانى علامة تطوان ان يختار عنوانا لا طروحته بعنوان الاحسان الالزامى فى الفقه الاسلامى , وكنت مشرفا عليه فى اعدادها كبحث علمى رصين , تذكرت محاضرة عندما كنت طالبا فى كلية الشريعة بدمشق عام 1959 عندما القى الدكتور مصطفى السباعي وهو من ابرز القيادات الاسلامية الرائدة والغيورة محاضرته الشهيرة بعنوان اشتراكية الاسلام فى مدرج جامعة دمشق , وكانت القاعة مكتظة برموز  عصره فكرا وثقافة ودينا وكان الكل متحمسا وسعيدا ان يسمع ما كان يريد ان يسمعه من عدالة الاسلام , كانت المحاضرة مستمدة من مواقف واحكام وثوابت اسلامية , ولما طبعت المحاضرة فى كتاب بعنوان اشتراكية الاسلام كان الكتاب  مادة مقررة فى كلية الشريعة لمدة سنوات , لم يعترض احد على فكرة العدالة ابدا  فالعدالة من ثوابت الاسلام , هناك من اعترض على الكلمة العنوانية  لانها ذات دلالة سياسية قد تتناقض مع كلمة الاسلام , وكنت قد قرات قبل هذه الفترة كتاب العدالة الاجتماعية الذى كتبه سيد قطب قبل ذلك بسنوات وكان الكتاب رائدا فى طرح مفهوم العدالة كمفهوم اصيل وانه اكثر رسوخا نظرا لانه يعتمد على قاعدة ايمانية واخلاقية وعندما كتب كتابه عن العدالة لم تكن كلمة الاشتراكية قد ظهرت فى تلك الفترة  , كل ذلك كنت اتابعه باهتمام وارقب اثاره واتأمل فيه , وعندما اردت ان اختار اطروحتى للدكتوراه عام 1965  اردت ان ابحث فى هذا الموضوع الذى كان يثير اهتمامى , واخذت اتامل فى كل ذلك , وتجنبت كلمة الاشتراكية واخترت كلمة اكثر دلالة على العدالة , وهي الجماعية والجماعة والملكية الجماعية , وهناك الكثير مما يمكننا ان نستفيد منه لتأكيد ذلك المفهوم الذى يعبر عن احترام الجماعة ومصالح الجماعة , وان الملك الاصلى لله تعالى وهي الملكية الاصلية ,  والانسان مستخلف على ما بيده ومن استخلفك على امر فله سلطة التقييد فيما استخلفك فيه , فلا ملكية الا بشرعية ولا تثبت الملكية الا بحق , ولا تنزع الا بحق , ومن اهم شروطها ان تلتزم بشرعية  الكسب وشرعية الانفاق , فلا شرعية لكسب لا اعتراف باسبابه , بان يحترم مالكه ما هو واجب عله فى الكسب والانفاق فمن تجاوز فى الكسب فلا شرعية لمتجاوز , ومن تجاوز فى الانفاق فلا شرعية لانفاقه ويحجر عليه لانه يعتبر فى نظر الاسلام سفيها ومتجاوزا لحدود الله , اخترت موضوعي  بعنوان الاتجاه الجماعي فى التشريع الاقتصادى الاسلامى , وهناك من انتقدنى فى تلك الفترة التى كانت كلمة الاشتراكية عالية تتردد فى كل مجال   لانى لم استعمل كلمة الاشتراكية , مع ان الجعاعية هي الاصل والاصدق تعبيرا عن احترام الجماعة , وكنت فى محاضراتى الكثيرة فيما بعد اتكلم عن الاقتصاد الاسلامى بين الفردية والجماعية , كان هناك من يخشى من العدالة ولو جاءت باسم الاسلام , لان العدالىة تقتضى ان تسترد ما اغتصب من الحقوق , وان تقاوم الفساد والتجاوز فى الحقوق , كان هناك من يريد الاسلام كما يريد ان يكون محققا له مصالحه مبررا له تجاوزاته  ,و ان يعطيه ضوءا اخضر لكي يمارس كل ظلم وتعسف واستبداد مسترضيا من ظلمهم باحسان يسكتهم لانهم لا يجدون ناصرا  , العدالة واحدة اما ان تكون او لا تكون , ما زال هناك من يرفض العدالة ويخشى منها , الحرية لاتعنى ظلم المستضعفين ولا اقرار حرمان المحرومين , الفقير له حق اقره الله له فى الاموال , فمن تجاهل ذلك فقد خرج عن دائرة الحماية الشرعية لما اكتسبه عن اموال , والمال الظالم لا شرعية له , شرطان لا بد منهما لشرعية المال , كسب صحيح لا ظلم فيه , واداء لحق الله فيه لا تقصير فيه , ومعظم الثروات الكبيرة كانت ثمرة لاحتكارات وامتيازات وغصوبات ولم تلتزم باداء حق الفقير والمسكين , وهؤلاء يهربون من الاسلام خوفا من ضوابطه ويهربون الى الاسلام خوفا ممن يسترد منهم ما اغتصموه من الاموال العامة بالفساد والرشوات والاحتكارات , الملكية الظاهرة لا تعنى الشرعية الا اذا التزم صاحبها بضوابط الشرعية , يمكن للانظمة السياسية ان تتصارع وتتنافس على السلطة , ولكنها لا يمكنها ان تتجاهل العدالة , العدالة تعنى الشرعية والانظمة الجائرة لا يمكن ان تكون عادلة , العدالة هي الركن الاهم فى بنيان الدولة ولا شرعية خارج العدالة , ولا شرعية خارج التفويض الارادى , فمن ملك حقا فلا يسلب منه الا بارادته عندما يتنازل عن جزء من حقه لكي يفوضه امر حياته وامنه , كل الخلق عند الله بدرجة واحدة ولا تفاوت بالانساب ولا بالقوميات ولا بالمظاهر وانما التفاوت بالعمل الصالح الذى يحبه الله من عباده , لا يمكننا ان ندعى الاسلام ونظلم مستضعفا او نغتصب حقا من حقوقه

تلك رحلة مع الايام واعترف انها شغلتنى وما زالت , هي قضية الانسان , كنت افهم جيدا دوافع الصراع على السلطة والصدامات بين الانظمة السياسية وهي ظاهرة قديمة حديثة , قد تطور اليوم الى ما نحسبه افضل من الشعارات والمصطلحات ولكن المشكلة كما هي وهي اليوم اكثر انانية وخطورة وقسوة وهي لا تعرف الرحمة , ومجتمعنا اليوم يعانى من امراض اجتماعية واهمها الفوارق الطبقية والمظالم الاجتماعية وسلوكيات الترف والسفه واستفزاز مشاعر المحرومين بسلوكيات غير اخلاقية ..

 رسالة الدين فى كل عصر ان يكون حليف المستضعفين ومدافعا عن المظلومين رافعا شعار العدالة وكرامة الانسان ..

( الزيارات : 740 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *