مجالس العوام

كلمات مضيئة..مجالس العوام

لفت نظرى عنوان كتاب كتبه الامام الغزالى هو الجام العوام عن علم الكلام , لم اطلع على هذا الكتاب وهو رسالة كتبها فى السنة الاخيرة من حياته , وقال فيها بان الطفل الرضيع عندما تطعمه طبقا من اللحم فانك تقوده الى التهلكة , تاملت كثيرا فى هذا العنوان , وتذكرت ان السيد النبهان كان ينهي عن قراءة كتب محيي الدين ابن عربي , كالفتوحات المكية والفصوص مع حبه لا بن عربي , وكان يكره ان تناقش قضايا الخلافات الفقهية فى مجالس العوام , ورأيته يخالف مذهب الشافعى فى بعض المسائل الفقهية , ويدع العوام فيما هم فيه , لان العامى الذى لا يحسن فهم الادلة ومناهج العلماء فى الاستدلال  لا يمكنه فهم تلك القضايا , تلك قضايا لا تهم العامة , قضايا العلم تحتاج الى مناقشتها فى مجالس العلماء من اصحاب الاختصاص , ورأيت الكثير من العلماء لا يتكلمون فى مجالس العامة , واذا سئلوا اجابوا بما هو مشهور من الاقوال , ليس كل من ادعى العلم فهو من اهل العلم , من حفظ بعض الاحكام لا يعنى انه اصبح من العلماء , وهناك الكثير ممن يدعون العلم يحسنون الكلام ولا يحسنون الفهم ولا الادب , وهم يحاولون ان يتقربوا الى العوام بما يريده العوام ,  ومعظم العوام اهل تقوى وورع , ويخشون من التفريط والتقصير , وهم مع من يتشدد فيما يقول , ولو عن طريق الجهل للتظاهر بالتقوى والورع , من كان حظهم من العلم قليلا فانهم يتشددون وياخذون بالاشد تعبيرا عن الورع ولو ضاق الامر على الناس  , وحذر الغزالى من الخوض فى قضايا علم الكلام فى مجالس العامة , لانهم لا ينتفعون بذلك , وهذا امر لا يحسنون فهمه , وكنت الاحظ الكثير مما كان فى المؤتمرات العلمية الكبيرة , وفى معظمها تكون الحوارات غير علمية , والبحوث مكررة ومعادة ولا تقدم شيئا ولا تضيف جديدا , منهج العلماء منهج متميز يقوم على اساس الدليل والحجة , ومن الجهل والعبث ان يتهم المخالف بالتفريط والتجهيل , كنت الاحظ ان علماء العامة ببلاغتهم وفصاحتهم يحركون العواطف ويثيرون الانفعالات , والناس لا يحسنون التفريق بين من هو جاد فى التزامه المنهجى ومن هو سطحي الفكر ضعيف الحجة والدليل , وكنت الاحظ هذا فيما كنا ندرسه من الكتب , فالمنهج التعليمي يفتقد التأصيل والتدقيق , وهو يعتمد على الحفظ والتكرار , ومثل هذا قد يصلح فى العلوم التى تعتمد على الرواية والتوثيق , اما فى مجال الدراست الفقهية فلا بد من الملكة الفقهية , ملكة الفهم والاستدلال , وهذا هو المنهج الذى نفتقده فى مدارسنا ومناهجنا , وقد لاحظت  ذلك فى البحوث العلمية الاكاديمية فما زالت منهجية الجمع هي الغالبة والمتحكمة وقلما نجد ذلك المنهج التاصيلى , وهناك اسباب اسهمت فى ترسيخ هذا المنهج وهو الخوف من المخالفة والانفراد بالرأي , واسوار التقليد محصنة  وانصاره هم الاقوى لانهم يطلقون السنتهم فى كل مخالف ولو استند على دليل , المخالف تلاحقه نظرات الادانة والاتهام بالتفريط , لا احد له وصاية على الفكر والمفكرين , ليست لدينا حرية فكرية , هناك وصاية على العقول والافكار ولهذا فان مسيرات الفكر متوقفة لا لاننا لا نملك القدرة على التفكير,  ولكن لان اسوار التقليد هي الاقوى , والمستفيدون من الجهل يمنعون حصونهم ويدافعون عن مصادر عيشهم ويتقربون الى العامة بما يرضيهم ,  عندما تتحرر العقول من الجهل تمارس حريتها فى نقد مجتمعها وتصحيح مساراته , العلم يقودك الى فهم معنى الحرية , مالك وماعليك , ومن عرف حقه طالب به , الكل يخشى من الفجر والنور والضياء , فى ظلام الليل تتداخل الحقوق , ويكون التصفيق والنفاق والمصالح المتبادلة , ما يراد من الدين ان يؤدى دوره التقليدى فى مجتمعه , وما تجاوز ذلك فهو تجاوز لما يراد ان يكون , تاملت كثيرا فيما كان من قبل فى تاريحنا ومازلنا كما نحن , ثقافتنا ليست متجددة ولا تعبر عن اهتماماتنا, وكتبنا تتضمن جهد الاولين ونحن عاكفون عليها كما هي , نعيد قراءتها ونحن غائبون عنها , ونتوهم اننا بها نملك العلم ونكون بها اتقياء , ما احوجنا الى منهج تعليمي جديد نبنى به شخصية الانسان لكي يفكر كما يفكر غيره فهو مخاطب ومكلف , وهو مؤتمن على عصره , العلم اداة لتكوين الانسان , والانسان اذا حسن فهمه وارتقت مداركه ومعاييره  اصبح مؤهلا لفهم اصول دينه اولا وفهم مطالب عصره لكي يكون جزءا من مجتمعه ثانيا , لا بد من رحلة من الجهل والظلام الى العلم والنور لكي نكون اقدر على فهم ما يريده الله منا ان نكون , ان نكون صالحين  اهل استقامة وخلق ننهض ونبنى ونساهم , يجب ان نعيش عصرنا كما نحن , وان نفهم معنى العدالة ومعنى التكافل الانسانى واهمية الكرامة الانسانية, وبذلك تبتدئ مسيرتنا فى السير , قد نلحق بغبرنا ممن هم امامنا وقد نختار طريقا اخر نعبر به عن وجودنا , بالعلم والجهد والارادة يمكننا ان ننطلق , ان لم نفعل فسوف يظل بأسنا فيما بيننا نتصارع ونتغالب ونحن عما يحيط بنا لغافلون ..

( الزيارات : 565 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *