مجالس ما زالت فى الذاكرة

ذاكرة الايام.. مجالس ما زالت فى الذاكرة

اهم ذكريات الحقبة الاولى من حياتى الى سن العشرين كانت فى مدينة حلب بصحبة السيد النبهان طيب الله ثراه , كانت هي الاهم والاحب والارقى اهتماما والاكثر صفاءا , مازلت اذكرها واتعلم منها , كانت هي القاموس الذى ارجع اليه عندما تصادفتى كلمة غريبة , كنت افتح ذلك القاموس لكي افهم المراد , كانت فترة غنية , واهم ماتعلمته فيها معنى الدين  وادب التواصل , كان السيد النبهان هو المربى والمعلم وهو المثل الاعلى بالنسبة لى , كان صوفي الفهم ولم يكن صوفي الطريقة , واهم ماتعلمته منه حب الكمال والتعلق به , ما رايته فى موقف ضعف ابدا ولا فى موقف يأس , كان مقبلا وليس مدبرا فى فهمه لمعنى الدين و لم يكن كالآخرين ابدا , لم يكن هناك فى قلبه الا الله , وكان فى اشد المواقف واقساها راضيا مسلما امره الى الله , لم اجد احدا فى قلبه ابدا , كانت الدنيا خارج اهتمامه يعمل بها ولا ينشغل بها , كان قوي العزم فى الشدائد ولو ثقلت عليه , كان فى غايه الحياء والادب مع كل الاخرين , ما رأيته يستخف باحد مهما كان ضعيفا , كان قريبا من كل المستضعفين من المسنبن والعجزة والايتام والارامل , ما ضاق باحد منهم ولو تجاوز او اذنب او قصر , كان يباسطهم فى الحديث ويبتسم لهم ويلبي لهم ما يريدون , كانوا يطلبون منه فيجيب من غير تثاقل , واذا دعاه احد منهم الى داره اجاب , كان يحب زيارة المرضى فى المستشفيات , كان رحيما بكل المستضعفين يخفف عنهم ويشعرهم بالحب والرعاية , كان فى معاملاته سمحا يشتري من البائعين المتجولين فى الاحياء النائية ليخفف عنهم احمالهم ويريحهم من كسادما يحملوه من الخضار , وبخاصة اذا اظلم عليهم الليل , كنت ارافقه فى كل ذلك وارقبه , لم اره قط متكلفا فى عبادة او مبالغا فى ادائها , كان يواصل خصومه ويقترب منهم , كان ملتزما من غير تكلف , ما سمعته يقول كلمة سوء او يسيء الظن باحد , كان يحسن الظن بكل الاخرين , كانت صوفيته مختلفة عن كل الاخرين , لم يدعيها ولم يرفع شعارها ولم يلتزم بما كان الصوفية يلتزمون به من الاوراد والاذكار ولم يستثمر ذلك فى سعي الى دنيا , ولم يجعل ذلك منهجا فى تربيته , كانت صوفيته اقرب لصوفية الاولين , لم اره طامعا فى شيء من الدنيا او حريصا عليه , لو اراد ان يكون له من الدنيا ما يريد لكان له , ما كان ياتيه من زراعته كان ينفقه قبل ان يستقر فى خزينته , كانت غرفته التى يعيش فيها بسيطة وليس بها الاما يحتاجه , ومالا يحتاجه كان يضيق به , كان نظيفا ويحب النظافة فى اي مكان يكون فيه , كان برتدى افضل الاثواب واكثرها نظافة وجمالا , وبخاصة فى يوم الجمعة عندما يذهب الى الصلاة , يغتسل ويتعطر بعطر الورد  ويلبس خاتم العتيق , وكنت ارافقه الى الكلتاوية التى يحبها , فاذا انتهت الصلاة جلس مجلس الذكر , وكان يحرص على ادب الذكر والاستغفار , فاذا وجد ملتفتا يمنة او يسره اومنشغلا كان ينبهه الى ادب الذكر , ما رأيه قط يتحدث عن حلم رآه او حسد اصابه او يؤمن بالسحر اويتحدث به , كما اننى لم اره يهتم بالكرامات وكان يسميها خوارق العادات واذا صدرت عن غير استقامة فهي استدراج , ولم اره يمسك بالمسبحة ويضيق بمن يحملها بيده , , وكان يقول عقب كل صلاة سبحان الله والحمد لله والله اكبر , كل واحدة ثلاث وثلاتون مرة يعدها باصابعه فاذا انتهى منها اتبعها بالدعاء المعهود منه , كان يحب شرب الشاي ويهتم باعداده ويشربه بكؤوس صغيرة مع الليمون , وقد اشتهرت مجالس السيد بصنع الشاي ولن تجد له مثيلا , كان لا يعنيه امر كل الاخرين فيما هو من امرهم من تجارة او زراعة  او اي شيءمن امور الدنيا , من استشاره اشار عليه , ومن لم يستشره فلم يكن يسأله عن اخباره , كان يحب اخوانه بغير حدود وهم قريبون منه , واشتهرت مجالسه بالادب ولم اشهد من تكلم فى مجلسه ولو بسؤال , ومن سأله من غير اخوانه اجاب , لا شيء من امور الدنيا من سياسة او تجارة فى مجالسه ابدا ,كانت مجالسه مجالس بيان وكان يسميها اخوانه المذاكرات , كانت مستمرة ولا تتوقف , واذا مشى مشى اخوانه خلفه , كان يمشي ثم يتوقف ويلتفت الى الخلف ويحدثهم شارحا فكرة يريدها ,

صاحبته مدة عشر سنوات قبل ان اسافر لطلب العلم فى دمشق والقاهرة , لمدة ثمان سنوات متواصلة , تعلمت منه مالم اتعلمه من الكتب ومن كل اساتذتى , كان مختلفا كليا عن كل الاخرين ,

ما زلت بعد ستين عاما من تلك الفترة اذكر كل تلك المجالس , كانت الاحب الي والاكثر قربا من الله , كان مربيا متميزا وصاحب منهجية تربوية راقية الفهم غنية الدلالة عندما تنصت له تحلق فى عالم مختلف من الفكر والتامل والاهتمام , كانت حياتى فيما بعد مختلفة وبعيدة , كل ماتعلمته من الاساتذة والكتب كان مختلفا , لم استفد فكرة تقربنى الى الله ولم اشعر بذلك الافق الروحي من التامل , كان كل من صادفته او التقيت به من العلماء وهم كثر كان مختلفا , ولا يتجاوز ما فى الكتب , ولا شيء فى تلك الكتب مما يقربك الله او يبدل سلوكا من سلوكك او يدفعك الى الافضل عند الله  , كانت مجالس السيد النبهان متفردة بالفهم الصافى لمعنى  الدين , انها تعرفك بالله وتحدثك عن رسالة الدين وامانة الانسان , ذلك عالم مختلف من الفهم , كان السيد النبهان مجددابحق  للفكر الصوفي الذى كادت منهجيته متوارية ومختفية خلف اسوار من الطقوس والمفاهيم والدلالات والمصطلحات لامعنى لها ولا تحقق غرضا وهي من الحواشي الى ازالت عن المتون مقاصدها  , ما رأيته ينتقد ما كان مما عليه غيره , ولكنه كان يقول بمنهج غير ما كانوا عليه , لم اكن فى تلك الفترة المبكرة من حياتى الاولى افهم الكثير مما كان يقول , اليوم استطيع ان افهم بعض ماكان  يقول , ربما يشعرنى بشيء من دفء تلك المجالس وروعة تلك المذاكرات ..    

( الزيارات : 949 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *